تدوين- ذاكرات/ شخصيات وأحداث
في واحدة من المقابلات النادرة للمفكر والفيلسوف الراحل حسين البرغوثي المرفقة ضمن وثائقي أعده المخرج تيسير المشارقة، تتبع فيه سيرته من خلال شخصيات عرفته، قال البرغوثي "لا أكتب من أجل الترف، ولا من أجل تسلية أحد، ولا لمجرد أن أعبر عن ذاتي، كانت بداياتي في فلسفة الاغتراب الإنساني، اغتراب الناس عن أنفسهم وعن الطبيعة وعن غيرهم، ودخلت عبر هذا الموضوع في متاهات كثيرة، فحاولت أن أكتب حكمة المتاهة".
على مدار 19 عاما، ظل البرغوثي يخط نصوصا ويلقي بها في القمامة، أصر على ألا يكتب قبل الخروج من المتاهة التي استمرت داخله لهذا الوقت كله، وعندما خرج منها، كانت "الرؤيا"، وهو ديوان شعري صدر عام 1989، حاول البرغوثي أن يكتب فيه طرق الخروج من المتاهة.
لا أكتب من أجل الترف، ولا من أجل تسلية أحد، ولا لمجرد أن أعبر عن ذاتي، كانت بداياتي في فلسفة الاغتراب الإنساني، اغتراب الناس عن أنفسهم وعن الطبيعة وعن غيرهم، ودخلت عبر هذا الموضوع في متاهات كثيرة، فحاولت أن أكتب حكمة المتاهة
وفي المقابلة ذاتها المذكورة أعلاه، قال الراحل إنه عاد إلى المتاهة بعد "الرؤيا"، وحينها كتب قصائد "من المنفى إلى ليلى الأخيلية" مكملة للرؤيا من ناحية أن الأخيرة نوع من العداء لأعماق الأشياء، ذلك لشعوره أن الإنسان العميق يكون ضحلا بشكل أو بآخر.
أما عن "ليلى وتوبة"، قال "إن فيها مدخل آخر، وهو مدخل النحت في اللغة، أي تقريب ما بين الشعر والنحت ضمن تكملة تجربة المتاهة وإشكالياتها، ما جعله يدرك أن اللغة التي نحكيها ليست لغة مرتبطة بالتجربة إنما أمليت علينا بشكل أو بآخر، من خلال الأنساق التي نحفظها من المدرسة، وبالمطالعات وغيرها، ما ولد لديه شعور أن اللغة والجسد شيء واحد، ويجب الحفر في الجسد بحثا عن لغة جديدة لكي نستيطع أن نقول ما هي الأشياء الجديدة التي تحدث معنا الآن، والتي ستحدث في المسقبل".
رأى البرغوثي في الشعر "حوار مرعب، مستفز، وله نشوته. بين القمم والهاوية، بين الحلم واليقظة، بين الموت والحياة، بين الموجود والوجود، إنه حدس بأن كل الكون صدفة، وبأن الصدفة لا تفسره. وبأن العابر والمستقر وجهان للتفسير وليسا تفسيرا".
أما تعريف الشعر الحقيقي بالنسبة لحسين هو "رؤيا تشبه رؤية العدم في قبضة من تراب، ورؤية الرب على أصغر برعم ورد، ذهول مطلق من الموجود والوجود. يظهر في محاولة دائمة لإزاحة كل تفسير وكل معنى وكل رابطة تستأنف الموجود والوجود وحتى إزاحة لهذه اللغة التي تسمح لنا بتسمية الأشياء، وبالتالي بالبحث الدائم عن "اللا مُسمَّى".
لحسين البرغوثي (1954-2002)، ما يزيد عن 16 عملا أدبيا بين شعر ورواية وسيرة ونقد، فضلا عن الأبحاث، حيث ساهم في وضع العديد من السيناريوهات لأفلام سينمائية، وأعمال مسرحية وكذلك كتابة الأغاني الشعبية.
وتعد سيرته "الضوء الأزرق" و"سأكون بين اللوز" أبرز ما قدمه البرغوثي خلال مسيرته.
وعن "الضوء الأزرق" قال محمود درويش "إنه نص لا يصنف في جنس أدبي واحد، وهو ليس سيرة ذاتية، بالمعنى المتعارف عليه. ولا هو رواية. إنه يذكرنا بسرديات الرواية وبحميمية السيرة. ولكنّ سيرة المؤلف هي أحد المكونات الأساسية لهذا النص المفتوح على كل أشكال الكتابة القادرة على استيعاب همومه الوجودية والثقافية والفلسفية. فهو خليط غريب من البوح الشخصي والتأملات الذهنية. من تداعيات الهذيان إلى الميثولوجيا. من الواقعي والغيبي. من سرد الحكايات الشخصية إلى الشطحات الصوفية. من جنون يدّعي الحكمة إلى حكمة لا تتجلَّى إلاّ بالجنون. من الحياة داخل الحلم إلى مكان يصاب بالانفصام".
يطرح البرغوثي في هذه الرواية تساؤلات داخلية، ضمن سلسلة من الخواطر والتؤملات الذاتية بين بيروت ورام الله وسياتل، بعضها كان قد تشكل في طفولته، وطوال الرواية ظل البرغوثي يبحث عن نفسه وهويته، يحاول الهرب من الجنون، وفقدان الإدراك، ويكتب عن شخصيات ثلاث أقل ما يقال عنها إنها تتصف بالجنون، ولا ينسى أن يدعونا للتأمل في ذواتنا وسط أحداث الرواية التي تنتهي دون أن يدرك القارئ عما إذا كان البرغوثي يكتب عن نفسه وعن شخصيات حقيقية رافقته، أم أن كل ما يجري هو محض خيال.
أما في "سأكون بين اللوز"، يوثق الراحل آخر أيامه من داخل مستشفى رام الله، التي عاد لها بعد ثلاثين عاما من الغياب، وفيها كتب: "خسارة، قلت لنفسي، أن تمر على سطح الأرض، ولا تغير شيئا، أو تترك أثرا، خسارة، يا ابن هذا الإرث العظيم، خسارة أن تولد وتموت في زمن مهزوم، بوعي مهزوم، وخائف".
كان البرغوثي مدركا لأهمية الأثر، فكانت الخسارة برحيله، مات وهو مدرك أنه ترك أثرا ما في هذا العالم، وأخبرنا وهو على سرير المستشفى تحت تأثير السرطان، وهو خائر القوى في مقطع مصور: "عندي شعور إني حققت شيء من حلم قديم، أن لا أمر عن الأرض دون أن أترك أثر ما، وإن لم يكتمل الأثر، فأنا منذ زمن تنازلت عن فكرة الكمال لا فيما كتبت ولا فيما سأكتب".
ولد البرغوثي في قرية كوبر شمال غرب مدينة رام الله عام 1954، وحصل على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة بيرزيت، ودرجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة واشنطن في سياتل.
يصف الراحل تجربته في الولايات المتحدة بالمرة، بسبب الوضع المادي الصعب الذي عاشه آنذاك، إذ كانت مرحلة مليئة بالتشرد والصعلكة وملاحقة المخابرات الإسرائيلية نتيجة إرث الانتفاضة.
عندما أنهى البرغوثي الثانوية العامة، توجه إلى هنغاريا لدراسة السياسة والاقتصاد في العاصمة بودابيست، فكانت تلك البلاد بمثابتة متاهة، شبهها بانفصام الشخصية لما فيها من دمج ما بين الشرق والغرب واللغات الأجنبية، والعادات الأجنبية، حتى أحس نفسه أجنبيا فترك الدراسة وعاد إلى جامعة بيرزيت لدراسة الأدب الإنجليزي.
لم يدرس البرغوثي الأدب العربي، رغم إسهاهمه الفريد فيه، ورغم الأثر الفارق الذي تركه في الثقافة الفلسطينية، ذلك لأنه يحبه ولا يرغب أن يدرّسه أحد اياه، ولا يريد لأحد أن يتدخل في قلبه وذهنه في علاقته مع الأدب العربي، كما قال في مقابلة معه.
ويصادف اليوم الذكرى 21 على رحيله، إذ توفي في 1 أيار 2002 متأثرا بإصابته في السرطان.