السبت  21 كانون الأول 2024

سيمون دو بوفوار/ نيلسون أليغرين: مغامرات رحلة جبلية

2023-05-03 09:27:15 AM
سيمون دو بوفوار/ نيلسون أليغرين: مغامرات رحلة جبلية
سيمون دو بوفوار ونيلسون أليغرين

تدوين-  ترجمة: سعيد بوخليط

*الثلاثاء 8 يونيو 1947

نيلسون الذي هو لي،

للمرة الأولى تمردتُ على القاعدة التي التزمتُ بها، بأن أبعثَ لكَ رسالتين خلال الأسبوع. لم يكن انضباطي في جزيرة كورسيكا حازما للغاية!

هل تصلكَ الرسالة الحالية قبل موعد الأخرى التي سأكتبها حين عودتي إلى باريس! لا أملكُ بهذا الخصوص يقينا.

أحس بالانزعاج حين التقاعس عن الكتابة إليكَ. تسودني رغبة على امتداد اليوم، كي أوثق لكَ مختلف تفاصيل حياتي سواء ما أقوم به وما أصادفه، لذلك سأحاول الرهان على حظي بخصوص وسائل النقل المتاحة هنا، إما حافلات كورسيكا أو طائرة مدينة أجكسيو.

هذه المنطقة رائعة جدا، بحيث ستحتفظ ذاكرتي بمناظر منطقة براري عذراء، بيداء، شاطئ أزرق، جبال شاهقة، ألوان عميقة وثرية. بل وأكثر من ذلك، عشقتُ أريج الأدغال، عبق نباتات جافة لا أعرف حقيقة تسميتها باللغة الإنجليزية؛ تقتحمني رائحتها داخل غرفتي منذ لحظة الاستيقاظ، مثيرة للحواس داخل المنازل وكذا خارجها.

قبل اثني عشرة سنة، حينما قدمتُ إلى هنا على متن الباخرة، لمحتُ مشاهد الجغرافية بعيدا، من وسط البحر، ثم عثرت عليها ثانية يوم الجمعة الأخير وأنا أنزل سلَّم الطائرة. رغم قسوة شروط الحياة في المنطقة: ينعدم الطعام تقريبا، وكذا وسائل النقل، إضافة إلى إمكانية التِّيه وسط مسالك المتنزهات صحراوية، تجربة عشتها شخصيا في الجبل، سأروي لكَ حيثياتها.

بعد انقضاء ثلاثة أيام، على قدومي إلى هنا، أصبحت مقرفة للغاية فقد يخيب ظنُّكَ لو حدث واطَّلَعت على صورتي: اكتسى وجهي سحنة حمراء جراء حروق الشمس، شعري أشعت نتيجة تأثير ماء البحر، خدوش على قدمي بسبب أشواك ونباتات الأجمات، أرتدي فستانا عتيقا، وحذاء رثَّا. سأخبركَ على التوالي بكل شيء.

عشتُ تجربة غضب شديدة، داخل محطة النقل الجوي الباريسية (كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا)، انفعلتُ لأنهم نسوا إدراج اسمي ضمن لائحة المسافرين، مع أني أسرعتُ إلى الحجز منذ أسبوع. نصحوني بالذهاب إلى بلدة لوبورجيه، فأبَلِّغ عن الأمر.

 حينما وصلتُ إلى المطار، حاولتُ أخذ فرصتي، لكن دون ضمانة الوصول إلى مارسيليا، مرورا بليون.

اتسمت بداية السفر بالتذمُّر نتيجة الغضب والقلق. بالفعل، أمكنني الانتقال إلى مارسيليا، ثم أجكسيو، التحليق فوق البحر، والهبوط أرضا على الشاطئ الجبلي، ابتهجتُ حيال ذلك. كانت الساعة في حدود الثانية زوالا. ولجتُ مطعما بئيسا، تناولتُ جراد البحر، لكن الأطباق هُيِّئت بزيت زيتون ذات مذاق فظيع تطغى عليها نكهة طمْيٍ مزعجة جدا.

تذوقتُ هذا الطعام الموحِلِ ثم وضعت حقيبة الظهر في''الفندق الكبير''، مكان رائع، راقت لي وضعيته مثلما هي، قياسا لرداءة باقي المكوِّنات. توجد حديقة شاسعة كثيرة الغبار، زاخرة بنخيل وأزهار، بينما يعاني داخل الفندق ترهُّلا.

خلف نافذة غرفتي، يمتدُّ مدى نظري بعيدا نحو البحر والشاطئ، أحببتُ ذلك.

سبِحتُ على شاطئ بحر أنا سيِّدته، ينعدم السائحون خلال هذه الفترة من السنة ويتوقف انتقالهم صوب هذا البلد الفقير. كم أتحسَّر على ضعف مستواي في السباحة! خلال طفولتي لم أذهب أبدا إلى ساحل البحر. بعد مضي عشر سنوات عن تلك الحقبة، تعلمتُ بعض التقنيات أمدتني فقط بإمكانية الطفو فوق الماء دون التحرك، وضع يشعرني رغم ذلك ببهجة غامرة.  

تسكَّعتُ بين الدروب الضيقة لبلدة أجكسيو، وزرتُ ميناءها الصغير. تسقط في شباك حبِّ المدينة (بالأحرى، يغلب عليها الطابع القروي)، تشبه قليلا مدينة مارسيليا.

يلعب بعض الشبَّان الكرة الحديدية بمهارة تحت خيوط حرارة شمس المغيب، بينما يتسكع آخرون ضمن أطراف المكان دون هدف. ممتع جدا، وفي غاية المرح أن تستعيد لحظتها صور الأزقة الأمريكية الخشنة والجافة بحيث ترى العابرين يقصدون وجهاتهم ويركزون على أهدافهم.

خلال اليوم التالي، سباحة أفضل. بعد الظهيرة، توخيتُ الاستجمام هناك في الجبال على بعد ثلاثين أميالا من أجكسيو، بامتطاء حافلة صغيرة تنطلق نحو الساعة الثالثة زوالا، مغامرة! يترقب وصوله عدد مضاعف من الركَّاب المفترضين بحيث لا يمكن لتلك الحافلة أن تستوعبهم: انتظار عبثي.

دقَّت الساعة الرابعة، حضرت حافلة أخرى انقض عليها بسرعة ما تبقى من الحشد. وضِّبَت الأمتعة، ثم انطلقت الحافلة عند الساعة الخامسة. طيلة الطريق، يتوقف السائق كي يشرب نبيذ الباستيس، ويثرثر مع أصدقائه، باختصار وصلنا إلى المكان المقصود بعد ساعتين. لا يمكن لأيِّ أمريكي متوسط العمر سوى أن يظهر انزعاجه من الوضع غاية آخر نَفَسٍ، وحدهم بعض المجانين ''شباب نيِّئ" تبيَّنوا السياق ممتعا وتسلُّوا كما تسليتُ بدوري.

بلغتُ قرية جذابة هادئة، حيث وقفتُ على معاني العيش وكذا التواري. النوم باكرا، استيقظتُ على الساعة السادسة صباحا، لأني أزمعتُ على المشي لمسافات طويلة وسط الجبال. ستتكفَّل خريطتي ودليلي السياحي الأزرق، بتحديد نقط العبور، أيضا تحدثت إلى مجموعة من القرويين فأمدوني بجملة توجيهات تحدِّد المسالك التي يلزمني اقتفاؤها، سهلة جدا بحسب أحاديثهم.

 إذن، بعد أن احتسيتُ فنجان قهوة بالحليب مع قطعة خبز محلية مزيَّنة بشرائح طازجة من لحم الجومبون، سلكتُ طريقي بين الأشجار والصخور. مضت الرحلة بشكل رائع، طيلة ساعتين، إلى أن بلغتُ قنطرة خشبية صغيرة، حينها لم يعد يظهر طريق معين. لحسن الحظ لاحظتُ هيكل منزل، وبجواره رجل بصدد تجميع التبن، فأرشدني نحو وجهة ممرٍّ.

استعدتُ خطى سيري، لكن بعد فترة اكتشفتُ بأنه ليس الطريق الصحيح، أدركتُ مأزقي، ثم حاولت ثانية مع سبيل آخر، ولم يكن الاختيار موفَّقا. المعدة فارغة، إضافة إلى التعب، تشير الساعة إلى الواحدة ظهرا، شعرتُ بالانهيار لم أدر ما يلزمني القيام به ثم نمت.

هل أتوقف وأعود بأدراجي، يفزعني الإقدام على ذلك، تصرف من شأنه إفساد كل برنامجي. مع ذلك قررتُ العودة إلى نقطة المنزل الذي ابتدأت عند نقطته تجليات ملامح آفاق التِّيه، فصعدت منحدرا وعرا جدا: لا يوجد أيّ شخص. ورطة فظيعة.

بغتة ظهر ثانية طيف الشخص الذي التقيته بجوار المنزل. لم تكن لديه لقمة لسدِّ الرمق، غير أنه أسعفني بالماء وأبدى اهتماما ملحوظا كي يرافقني طيلة نصف ساعة وسط الأشجار كاشفا لي معالم هذا الطريق المقدس، في الحقيقة، أخذني عبر وجهة مختلفة عن الطريق الذي طويته سابقا، لكن يستحيل اكتشاف هذه الجغرافية من لدن شخص غريب عن المكان.

رفض مرشدي أن أمدَّه بفِلْس واحد، مكافأة له حسب تقديري، يتسم قرويو كورسيكا بلطف مميز رغم فقرهم الشديد، وربما نتيجة ذلك.

تسلقتُ غاية القمة، وأنا أتسلى بمنظر رائع، لكن عندما أردت النزول ثانية، لم أجد أمامي طريقا سالكا، فواصلت بتهوُّر وقليل من التوتر، عبر الأدغال وركام  الأحجار.

بعد مضي ساعتين مشيا، وجدت نفسي وسط قرية أخرى غير التي خطَّطتُ لبلوغها، بيد أنه بحكم دواعي حالتي، لم أعد أهتم بتطلعات مغامراتي، بل أقصى طموحي العثور على سقف فوق رأسي وطعام. تحققت أمنياتي، بالتالي استعدتُ حياتي مرة أخرى، في المقابل، انعدمت لدي القدرة كي أدوِّن لك بعض الكلمات.

هل تعلم، بأني واصلت المشي من الساعة السابعة صباحا غاية السابعة مساء، تخللتها فقط ساعتان للاستراحة، والهلع يمسك بالقلب، بسبب إمكانية أن أضلّ خريطتي، يداي ترتعشان وقدماي تؤلماني.

البارحة، توقفتُ نهائيا عن التفكير في المشي. لقد استيقظتُ مرة أخرى عند الساعة السادسة صباحا، ثم استقليت الحافلة نحو مدينة بونيفاسيو، حيث أتواجد حاليا، نزهة رائعة جدا. فوق صخرة كبيرة تشرف على البحر، تتجاور منازل عتيقة نصف باهتة، وتبدو سردينيا على بعد أميال.

شربت بعض نبيذ الباستيس داخل حانة لابلاسيت، وسط جمع من ''الشباب النَّيئ''. سمك الرُّوبيان خلال وجبتي الغذاء والعشاء، ضمن تشكيلة أنواع أخرى.

سأذهب حاليا، تشير الساعة تقريبا إلى الظهيرة.

أعود يوم الجمعة إلى أجكسيو، ثم السبت وجهة باريس، سأكتب لك مرة أخرى. أترقب منكَ رسالة وينبغي لها انتظار عودتي هناك.

حبيبي،

لو تعلم كم أكره أحيانا الكتابة، لا سيما إبَّان السفر، ثم بعد جولة مشي طويلة، حينها يهزمني الإنهاك، بالتالي عليكَ أن تدركَ حجم الحبّ الذي تنطوي عليه هذه الرسالة قياسا لسابقاتها، ما دمتُ أمقت الكتابة تحت وقع ظروف مشابهة، وأنا محتجزة بين زوايا مطعم عوض التنزُّه تحت أشعة الشمس، والاستمتاع بالبحر.

رغم السياق، أكتب إليكَ، أظل منزوية، لأني أحب التحدث معكَ أكثر من أيِّ شخص ثان في هذا العالم.

الآن إلى اللقاء. فلتأتِ صحبتي ذات يوم إلى كورسيكا، كي تنتشلكَ أغوار الغابات.

إلى اللقاء، يا نيلسون الذي أملكه وحدي. أفكر فيكَ، ليلا ونهارا، أينما ذهبتُ، فأنت حاضر معي، ولن ننفصل قط.

خلال الربيع المقبل، يلزمنا التفكير بعد رحلة نيو اورلينز، الذهاب إلى شواطئ فلوريدا وتعلمني مهارات السباحة.

 مصدر  الرسالة:

Simone de Beauvoir :un amour transalantique(1947 -1964) ;Gallimard1997.PP :62. 66.