تدوين- ترجمة: رفيدة ثابت
إدا لمون، شاعرة أمريكية من أصل مكسيكي ولدت عام 1976 . صدر لها أكثر من ست مجموعات شعرية من بينها: " الحطام المحظوظ“، و "هذا العالم الكبير الزائف" ، و " قروش في الأنهار" ، و " التحمل" ، و "أشياء ميتة لامعة" . حصدت عدة جوائز أدبية من بينها دائرة النقاد للكتاب الوطني، كما وصلت إلى القوائم القصيرة لجائزتي الكتاب الوطني وبِن/جين ستاين. وحصلت كذلك على منحة زمالة جوجنهايم. وتُوجت مؤخرًا بمنصب شاعرة أمريكا الأولى، وأجرى معها موقع بن أميركا Pen America الحوار التالي:
في عالم يعج بالرعب الذي صار أمرًا عاديًا، كثيرًا ما ألاحظ أن الدافع المترتب هو الشعور بالذنب أو استخدام هويات الصدمة النفسية في تحقيق الذات وإثبات الانتماء. تبدأ مجموعتك الشعرية "النوع الجارح" بداية قوية ومبتكرة بقصيدة بعنوان "امنحني هذا"، جاء فيها: “ لم لا يُسمح لي بالفرح؟ غريب يكتب طالبًا رأيي في المعاناة“. تتأرجح العديد من قصائدك بين تقبل الهويات المتعددة وبين نبذها. ما الموضوعات التي تكتبن عنها، وكيف تتحركين في المساحة الفاصلة بين أهمية الهوية وشركها؟
ناضلت طيلة حياتي من أجل الحرية، الحرية في الطريقة التي يروني بها، وما هو مسموح لي أحب فكرة تسمية الأشياء وتعريفها، كطريقة للارتباط والتواصل، وليست طريقة للاستعمار أو التملك. ما زال بعض الناس يشعرون أنه من الضروري امتلاك تعريف أو وسم. إنني أشعر بالراحة التامة حينما أقول: أنا هذا وذاك، وأيضًا هذا وذاك، وقد يتغير هذا غدًا. إنني ضد أي نوع من الثبات. أريد أن أكون حرة في كتابة ما أرغب، وأن أكون إنسانية بكل تلك الطرق الجميلة والضرورية والمهمة.
إن القصة الجماعية، أو القصة المقبولة، ليست صحيحة دائمًا. ولذا، يجب أن أتذكر وأعيد الصياغة والكتابة لنفسي، وأستوثق من أنني لا أستسلم إلى قصة لم أعد بحاجة إليها، قصة ربما لم تكن صحيحة البتة.
ينقسم ديوانك "النوع الجارح" إلى فصول الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء. وتدهشني هذه الاستعارة الكبرى، لأنها تذكرنا بالطبيعة الدورية لكل الأشياء. لماذا اخترت هذا الإطار؟ وما هو منهجك؟
رتبت هذا الكتاب بشكل يختلف تمامًا عن المجموعات الأخرى. لم يكن هناك بناء زمني، فالكتاب يتناول الاستسلام، والزمن، وتحرير الذات. وحينما أدركت أنه ينبغي ترتيبه في إطار الفصول، بدا الأمر منطقًيا. إن الكتاب لا بد أن يستمر من دوني، فلست أنا محركه، بل العالم والطبيعة. وبهذه الطريقة أتضح معناه. وقد علمني هذا الإدراك مدى أهمية الكتاب.
تذهلني دومًا الطريقة التي تكتسب بها قصائدك موسيقاها الخاصة. فأحيانًا كنت أقرأ بسلاسة مستهل قصيدة تبدأ صغيرة، ثم تكتسب زخمًا وتتصاعد، حتى تتسع الرؤية وتلمس وترًا حساسًا في التجربة الإنسانية. حدثينا عن استخدام أسلوب الانعطاف (Volta) في قصائدك؟
أحب أن تكون قصائدي موسيقية. فالقوة السمعية المميزة للقصيدة من أقرب عناصر العروض إلى قلبي. وهذا ما جذبني نحو الشعر في المقام الأول. القصيدة هي أنشودة موسيقية تنساب على الصفحة بنغمتها وإيقاعها، وتناغمها ووزنها، وحدة صوتها. حينما أشرع في كتابة القصيدة لا أعرف إلى أين تمضي بي. إنها تبدأ بفضول، سؤال، حاجة، صورة، دافع، صوت. وتتشكل الموسيقى وتتكون وأنا منهمكة في دافع القصيدة. في هذه المرحلة، يقتصر الأمر على الإصغاء للقصيدة، ولإيقاعاتها الخاصة، وليست محاولة فرض موسيقاي عليها. تارة تكون هامسة، وتارة أخرى تصدح. وأحيانًا تركن إلى الصمت، لكن ليس بشكل متعمد. أينما أذهب أعتبرها تجربة، والسر يكمن في الإصغاء.
تتمحور معظم قصائد الكتاب حول دافعين مزدوجين: الغربة والحنين. في قصيدة "معجزات منفية “ تكتبين: "لكنى لا أريد قتل/ تلك المرأة التواقة داخلي. إنني أحبها وأود أن يمضى بها الشوق/ حتى يودى بها إلى الجنون، هذا الاشتياق، حتى تغدو رغبتها/ زهرة مشتعلة، شجرة تنفض/ مطرًا منهمرًا كأنها تعزف الموسيقى" . أرى أن الرغبة في قصائدك هي طريقة للتأمل. حدثينا عن حضور الرغبة في أعمالك، وكيف أنها قوة دافعة في عملية الإبداع؟
الرغبة مكون أساسي في كل شىء. إننا نرغب ونريد طيلة الوقت. ولسنا إلا محركات للرغبة والحاجة. امنحني هذا، هبني الصحة، كل دعاء هو رغبة. ومن المهم أن نتحدث عن الرغبة والحاجة والتوق، فحينها سنعرف هل تعذبنا أم تمنحنا المتعة. أحيانًا، تكون الرغبة أمرًا لا بأس به، كالرغبة في الحياة، والشعور بالصحة، وشفاء العالم. لكن - أحيانًا أخرى تكون وخيمة، لأن نهمنا لا ينتهي أبدًا، لذا أحب استكشاف مفهوم الرغبة للوقوف على حقيقة ما أمر به، فحينًا تكون رغبة حقيقية، وحينًا تكون طريقة للمعاناة بلا سبب.
بالطبع أنا امرأة أمريكية، وأجزاء منى مكسيكية، وأيرلندية، واسكتلندية. لكنها ليست هويتي، بل إنها علامات يسهل بها تصنيف المرء إلى نبذة وإيجاز. وأنا ضد الإيجاز، ولا أثق به.
على نحو مماثل، تبدو النوستالجيا تيمة متكررة في الكتاب. استرعى انتباهي في بداية المجموعة لحظات تجنح إلى النوستالجيا التي يقطعها العالم المادي، انتزاع من الماضي والعودة إلى الحاضر. بينما في نهاية الديوان، تحديدًا في قسم الشتاء، تأتى قصيدة بعنوان "ضد النوستالجيا"، تحاول التوفيق بين نسخة رومانسية للماضي وبين الحاضر الجميل. تُعد النوستالجيا –أحيانًا- خدعة رخيصة في القصائد، لكن الصراع في الديوان لطيف ومعقد في آن واحد. حدثينا عن وظيفة النوستالجيا في كتاباتك؟
أعشق النوستالجيا، كل شيء قديم، ومعتق، ومثالي، لكن كما ذكرت قد تصير خدعة رخيصة، بل إنني حرصت في مستهل كتاباتي على مراقبة استخدامى للذكرى والنوستالجيا. بلا ريب، كانت تتملكني الحاجة الماسة إلى تسجيل الماضي. غير أنني أدركت أنه من المهم سرد التفاصيل بطريقة صحيحة. أشعر بأنني محظوظة، لأنني أمتلك ذاكرة جيدة، لا تقتصر على الألوان والمرئي فحسب، بل على كل الحواس. لطالما كنت هكذا منذ أمد طويل، وأتمنى أن أظل كذلك، أن أتذكر بكل كياني، وأن أشعر بالماضي وأراه، وأسمعه، وأتذوقه، وأشمه. مع ذلك، سأنتظر ما يخبئه عقلي في المستقبل. ولهذا أحاول دائمًا تسجيل الأمور بشكل صحيح وصادق. وحينما أستكشف شيئًا حدث في الماضي، لا أصبغه بالنوستالجيا أو المثالية، بل أراه كما كان، لا أكثر ولا أقل. وهذا التسجيل والاستكشاف ليسا تلاعبًا بل وفاءً وتكريمًا.
"هكذا ينتهى الأمر. أو يبدأ" من قصيدة إناء العقارب، من النماذج القليلة في قصائدك التي تشير إلى الطرائق العديدة التي قد تسلكها القصة، في الواقع والسرد. في قسم كتابات السجون والعدالة في بِن أمريكا، نناقش أهمية السيطرة على السرد. وأود أن أربط بين هذا وبين بيئة شعرك. كيف توظفين مفهوم الحقائق المتعددة في كتاباتك؟ هل يتيح الشعر وسيلة لإعادة كتابة الماضي أو تأمله بشكل بناء، أم أن الأمر مجرد راحة زائفة؟
إنني أوقن بضرورة إفساح المجال أمام الحقائق المتعددة وكذلك إعادة صياغة الماضي أو إعادة كتابته. وأؤمن بذلك، لأن كثيرًا من تجاربنا، أو ما نتصور أنه حقيقي، يقوم على سرد مجتمعي ربما يكون حقيقًيا وربما لا. مثال بسيط، كم عدد المرات التي قابلت فيها مسنًا، وجال بذهنك أن حياته كانت شاقة ومترعة بالمعاناة، ثم أخبرك بنقيض ما تصورته، فيقول إن حياته كانت مليئة بالمتعة والجمال، لكن العالم أخبرك أنهم عانوا لا محالة. إن القصة الجماعية، أو القصة المقبولة، ليست صحيحة دائمًا. ولذا، يجب أن أتذكر وأعيد الصياغة والكتابة لنفسي، وأستوثق من أنني لا أستسلم إلى قصة لم أعد بحاجة إليها، قصة ربما لم تكن صحيحة البتة.
في قصيدة "رعاية مشتركة"، وهى قصيدة رمزية الأسلوب، توضحين تجربة العيش في منزلين، والترعرع بين عائلتين مختلفتين. تحتفي القصيدة بالرحابة، لكنها -كذلك- تتناول المعاناة الدفينة في إيجاد مكان يُعتبر بيتًا: "عقلا ن مختلفان تمام الاختلاف/ أحدهما يفتقد دائمًا ما لا أكون فيه/ والآخر يرتاح لأنه في البيت أخيرًا" . حدثينا عن الصراع بين هذه الرحابة والمعاناة. كيف تحققين التوازن بين هذين المفهومين، في أعمالك بشكل خاص، وفي فلسفتك الحياتية بشكل عام؟
يعجبني طرحك لهذا السؤال المهم. يرافقني دومًا شعور الامتنان في أعمالي وحياتي، رُغم أنني لوقت طويل ما فتئت أشعر أنني لا أمتلك الكثير، وأنني لست جيدة وذكية، وأنني محطمة ومختلفة ومنبوذة، لكنني أدركت أن هذا التفكير لم يكن مجديًا، حتى إن صحت فيه بعض الأمور. أتذكر إحدى اللحظات حينما سألت نفسي: ماذا لو أن لدي كل شيء أحتاجه؟ ماذا لو أن كل هذا كافًيا، وأن هذه حياتي؟ وقد أذهلتني الإجابة. لقد ماتت زوجة أبى في ريعان شبابها، وشاهدت صديقتي تموت بالسرطان في سن الثانية والثلاثين. وانتحر بعض أصدقائي. قاسيت أوجاعًا وآلامًا، وكان لدى من الأسباب ما يجعلني أشعر باليأس والقنوط. ومع ذلك، أتذكر تلك اللحظة التي تبينت فيها كم أن حياتي قصيرة، وكم أنى أردت التشبث بها، وعيشها بكل كياني. وهكذا أدركت أنني كنت كافية، وأن هذه الحياة كانت كافية، وهذا الشعور يسيطر علي على الدوام. لا أقول إن هذا التفكير يفلح معظم الوقت، فأحيانًا تتملكني لحظات قنوط وهزيمة، لكن تعلمت أن أتذكر أنني جزء من شيء كامل، وأن الأمر لا يتمحور حولي، بل حولنا جميعًا، المجتمع، والعالم الطبيعي، ولحظتنا الوجيزة على الأرض. ربما يبدو هذا الكلام غريبًا، لكنى مؤمنة به.
ثمة صراع بين دافعي الأنانية والاعتناء بالآخرين في قصائدك. وقد استوقفتني قصيدة بعنوان "ما نتوارثه" ترى دور المصلح دورًا أنانيًا: "أعلم أنه أمر أناني، لكنى أود أن أكون/ المُصلحة الآن" . خبرينا عن الكتابة من خلال هويتك كامرأة. وينتابني الفضول –كذلك- حول أهمية هذه الهوية لكِ كشاعرة، وإلى أي مدى تؤثر على تشكيل كتاباتك؟
هذا أمر طريف، لأن أحدهم سألني لماذا لا أكتب عن هويتي وقد أدهشني هذا السؤال. إنني أكتب عنها طيلة الوقت، لكن ليس الهوية التي يريدون أن أكتب عنها. بالطبع أنا امرأة أمريكية، وأجزاء منى مكسيكية، وأيرلندية، واسكتلندية. لكنها ليست هويتي، بل إنها علامات يسهل بها تصنيف المرء إلى نبذة وإيجاز. وأنا ضد الإيجاز، ولا أثق به. ومع ذلك، متى تحركت المرأة في العالم توضع دومًا الحدود، لأننا نميل إلى أن نكون الرعاة، وليس مسموح لنا أن نقول: "كلا، كفي" . مازلت أتعلم هذا. لكن تلك القصيدة بالذات تدور حول الرغبة في رعاية شخص كان دائمًا يرعاني، والآن أطلب منه الإذن لفعل المثل.
ما دور الشاعر في إيجاد المعنى في العالم، وكيف يمكننا أن نرفض معنى ما؟ حدثينا عن كيفية صناعة المعنى، والاستسلام، والتحرر؟
إن طبيعة الحياة تحتم على الإنسان أن يجد المعنى، ثم يستسلم إلى الغموض، ثم يعود فيكرر الأمر، وهكذا دواليك. لقد ذكرت توني موريسون في خطاب تسلمها جائزة نوبل في عام "1993 ربما يكمن مغزى الحياة في الموت، لكننا نصنع لغة، ولعل هذا هو معيار حياتنا“ . هذا الاقتباس يشير إلى الاستسلام للفناء، وتقبل النهاية المحتومة، لكنه يشير – أيضًا - إلى وجودنا على الأرض، وكيفية الاحتفاء به، وكيفية إظهار الجمال والألم، وجميع تجاربنا المتباينة، حتى نعيش الحياة على أكمل وجه، لا أن نضيعها.