الخميس  21 تشرين الثاني 2024

نص من رواية الطنطورية لرضوى عاشور

2023-05-22 12:44:45 PM
نص من رواية الطنطورية لرضوى عاشور
رواية الطنطورية

تدوين- نصوص 

تصادف اليوم الذكرى 75 لمذبحة الطنطورة قضاء حيفا، والتي ارتقى إثرها ما يزيد عن 90 شهيدا. وكانت الأديبة المصرية رضوى عاشور قد وثقت المذبحة في رواية الطنطورية من خلال سرد متخيل لسيرة عائلة فلسطينية من قرية الطنطورة بين عامي 1947 و2000، اقتلعت من أرضها بعد اجتياح العصابات الصهيونية للقرية، لتعيش تجارب اللجوء في لبنان والإمارات ومصر.

وفيما يلي نص من الرواية:

حين احتلوا البلد

لم أسمع الأصوات. كنت نائمةـ وعندما أيقظتني أمي سمعت فسألت. قالت: صحي وصال وعبد. حطي علف للمواشي يكفيها أسبوعين أو ثلاثة، وماء كثير، وانثري حبا للدجاج، كثري. والحصان، لا تنسي الحصان، وارفعي تنكات الزيت عن الأرض لكي لا تصيبها الرطوبة، ضعي مخدة بين الحائط وكل تنكة زيت، ارتدي ثلاثة أثواب، ووصال أيضا، والولد. سألت: أين أبي وأخواي؟ لم تجبني عن السؤال. كانت منهمكة في جمع أشياء على عجل، وأم وصال كانت تفعل مثلها، ثم وجدنا أنفسنا نقف أمام الدار، عاودت السؤال. قالت إنهم في الحراسة، سيلحقون بنا حين "تتضح الأمور" لم تجب. غريب أمي التي كانت تولول قلقا على ولديها في حيفا، بدت امرأة أخرى، تلقي الأوامر، تدير شؤون قطيعها الصغير بحسم وسرعة، وإن لم أفهم منطق هذه الإدارة. حمّلتني نصيّة جبن، وحملت تنكة زيت وأم وصال تنكة زيتون، لم أفهم فسألت: كل هذا الجبن وكل هذا الزيت والزيتون ماذا نفعل به؟ لم تجب.

غادرنا البيت، طبقت أمي البوابة. أغلقتها بالمفتاح الكبير. استغربت فلم أر باب بيتنا مغلقا أبدا، ولا رأيت المفتاح: كان حديديا كبيرا أدارته أمي في القفل سبع مرات، وضعته في صدرها فجأة انتبهت أمي أنني أحمل العنزة الصغيرة التي ماتت أمها، سألت: لماذا تحملين هذه العنزة؟ قلت: سآخذها معي، لم تعلق أعلنت: سنذهب إلى دار خالي أبو جميل، مشينا في اتجاه داره، تتقدمنا أمي وأم وصال تحمل كل منهما تنكة في يد وبقجة في اليد الأخرى، وخلفهما أنا ووصال وعبد، تمسك وصال بيد أخيها وتحمل في اليد الأخرى صندوقا حديدا مربعا به أوراق حملوها معهم من قيسارية، وأحمل العنزة في يد ونصية الجبن في اليد الأخرى، وصلنا إلى دار أبو جميل، كان صوت الانفجارات وصليات الرصاص يأتينا من الشرق من جهة المدرسة، ومن جهة برج البرج في الشمال، وجهة الكراكون في الجنوب، أصرّت أم جميل أن نفطر وكررت أن اليوم طويل ونعرف ما الذي سيحدث. أعطت لكل منا رغيف طابون. قالت: "كلوا" لم يقل أي منا إنه ليس جائعا ولا إننا في منتصف الليل، لا وقت إفطار ولا غداء، ولكننا أكلنا امتثالا لأمرها الذي جاء صارما وحاسما.

اشتد القصف قال أبو جميل إنه من الغرب، "يبدو أنهم يضربون من البحر أيضا" توضأ وبدأ يصلي. سمعنا ديوكا تؤذن، ثم شقشق الفجر ثم سمعنا خطوات واقتحم الدار ثلاثة رجال مسلحون وساقونا الى دار المختار، كانوا يهددوننا بأعقاب البنادق ويطلقون النار فوق رؤوسنا. في الطريق شاهدنا حسن عبد العال الضرير وزوجته عزة الحاج الهندي، ملقيين بالقرب من بيتهما تحيط بهما بركة من الدم، ثم شاهدنا جثة أخرى لشخص لم أتعرف عليه، عبد صار يبكي بصوت عال، أفلت العنزة من يدي وحملته، لف ساقيه حول غصري وأحاط عنقي بذراعيه، لم أكن أرى وجهه لأعرف إن كان ما زال يبكي. بقيت لعنزة تمشي ورائي.

ساقونا الى الشاطئ. قسمونا الى مجموعتين الرجال في ناحية والأطفال وبعض المسنين من الرجال في ناحية، أول مرة أرى المجندات. نساء يرتدين ملابس عسكرية ويحملن السلاح، تكلمن بالعربية ورحن يفتشننا واحدة بعد الأخرى ويأخذن ما يجدنه معنا من مال أو حلي، يضعنه في خوذة، كلما امتلأت الخوذة يفرغن ما فيها على بطانية كبيرة مبسوطة على الرمل، لم تنتبه المجندة للعنزة ولكنها انتبهت وهي تفتشني إلى فردتي القرط في أذني، انتزعتهما انتزاعا، سال الدم من أذني، مسحته بطرف ثوبي، انتقلت المجندة الى تفتيش أمي ووصال وعبد وأمه، أخذوا تنكتي الزيت والزيتون ونصية الجبن.

جردت أمي من خاتمها وقرطها وسلسالها. كنا نقف متلاصقين. أتطلع الى وجه أمي، شفتاها تتحركان حركة خفيفة متصلة، لا أعرف إن كانت تتمتم بالدعاء أو تردد آيات من القرآن أو تترجف، همست في أذن وصال، أهكذا استحلوا بلدكم ؟ قال : لا لم يوقفونا عند البحر أطلعونا من الدور على الباص ولكنهم أخذوا حلي النساء وما وجدوه معهن من نقود.

كنت أقف في الطرف الأقرب من الرجال، لا تتوقف عيناي عن التطلع أملا في رؤية أبي أو أي من أخوي، لم أرهم. قدّرت أنهم شردوا في الجبال أو اختفوا في مغارة من المغر، رأيت "كيس الخيش" رجل يقف بجوار عسكر اليهود ورأسه مغطى بكيس من الخيش به ثقبان يسمحان لعينيه بالرؤية. كان الضابط يتطلع في ورقة في يده وينادي أسماء الرجال فيجيب صاحب الاسم أو لا يجيب. عندما لا يجيب يتقدم كيس الخيش ويشير إليه، أحيانا يشير بدون نداء، ما إن يشير "كيس الخيش" إلى شخص حتى يطلعوه، يأخذون مجموعة من الرجال، خمسة أو ستة أو سبعة ويختفون، هل يأخذونهم الى السجن في زخرون يعقوف؟ نسمع صليات من الرصاص، هل كانت الحراسة تقاوم؟ أمسكت بيد وصال فتطلعت في كأنها ستسألني لماذا أشد على يدها. لم تسأل. اقتربت العنزة مني، صارت تلمس قدمي ولكنني لم أحملها قال عبد إنه عطشان، قالت له أمه تحمل، قلت للمجندة الولد عطشان، ردت علي بكلمة بذيئة وهي تدفعني بكعب البندقية في كتفي، كان الجو حارا والشمس حارقة وتعجبت لماذا طلبت مني أمي ارتداء ثلاثة أثواب ولماذا أطعتها. كنت أتصبب عرقا. أردت أن أسألها. لم أسأل "ياللا ياللا" صاحت المجندات بصوت عال.

بدأ موكب النساء يتحرك ساقونا في اتجاه المقبرة. في الطريق رأيت ثلاث جثث ثم جثتين أخريين. لم أتعرف على أي منها.

انتبهت وهم يسوقننا باتجاه المقبرة أن للبلد رائحة غريبة تختلط برائحة البحر والزنبق الأبيض الذي ينبت في الجزر وعلى شواطئها في ذلك الوقت من السنة، لم أميز الرائحة وإن بقيت في أنفي بعد أن غادرنا القرية، وأحيانا بعد ذلك بأيام وأسابيع، كانت تحضر فجأة ولا أعرف من أين أتت ولماذا كان للقرية هذه الرائحة في ذلك اليوم.

عند المقبرة كانت شاحنتان في الانتظار. تحت تهديد السلاح طلبوا منا الصعود. انتزعت مجندة العنزة مني وكنت أحملها، كنا عدة مئات من النساء والأطفال والشيوخ ربما خمسمائة أو ستمائة، حشرونا في شاحنتين وبدأت الشاحنتان في التحرك. صرخت فجأة وجذبت ذراع أمي وأنا أشير بيدي إلى كومة من الجثث، نظرت أمي إلى حيث أشير وصرخت: جميل، جميل ابن خالي، ولكنني عدت أجذب ذراعها بيدي اليسرى وأشير بيدي اليمنى إلى حيث أبي وأخوي، كانت جثثهم بجوار جثة جميل، مكومة بعضها لصق بعض على بعد أمتار قليلة منا.

أشير وأمي تواصل الولولة مع أم جميل على جميل، كانت النساء تولول والأطفال يبكون مفزوعين من نحيب أمهاتهم، والرجال المسنون تجمدوا كالأصنام.