الجمعة  26 نيسان 2024

جورج بولي: غاستون باشلار والوعي النقدي (3/ 4)

2023-05-29 08:50:39 AM
جورج بولي: غاستون باشلار والوعي النقدي (3/ 4)
غاستون باشلار

تدوين- ترجمة سعيد بوخليط 

حينما استعاد باشلار تأويله سابقا لبعض نصوص إدغار آلان بو، كما تبلور لديه خلال فترة، انتابه إبانها إحساس مفاده أنه ''روح موضوعية''، فقد اعترف بعدم كفاية التأويل بتلك الصياغة، مؤكِّدا على التالي: "منذئذ استوعبتُ بأنَّ صفحة من هذا القبيل قد تفتقد لكل حقيقة موضوعية، مقابل ذلك تأتَّت لها على الأقل دلالة ذاتية'' (29).
بوسع الاعتراف الذي تضمنته هذه الملاحظات، مساعدتنا بخصوص تقييم السبيل الذي سلكه باشلار. لم يكتف هنا باستبعاد تمثُّل كهذا للعالم، واعتباره ذلك خاطئا علميا. إقراره بهذا التأويل، يعني استشرافه توضيحات أخرى، تستبطن رصيدا من الذاتية، حين تبدُّدِ موضوعية النص الظاهرة بين سطور النص موضوع البحث، عالقة داخل نفس الفكر وفق ذات منوال استمرار عنصر كيميائي معين  داخل أنبوب اختبار، حين انفصاله عن الجسم الذي كان مرتبطا به.
صحيح إذن، حسب تأكيد باشلار، رغم استعبادنا من كل ظاهرة ذهنية تجلِّيها الموضوعي مثلما يستشفها  المتأمِّل، يستمر قوام ذاتي بين طيات ذلك.
أضحى هاجسه الحالي: ليس قط موضوعية أساسية يكتشفها الفكر عندما يتسامى عن كل أثر للذاتية؛ بل على العكس، هي حياة داخلية يصعب فهم دلالتها، إلا إذا أرجأ الفكر، سعيه وراء الحقيقة الموضوعية، أو تخلى عنه. ثم شرع يتأمل الواقعة الذاتية في ذاتها، بناء على بساطتها الجوهرية وكذا وحدته.
ربما، يلائم تناول الأخيرة بكيفية أكثر حميمة، الرجوع  إلى الزمن الماضي، ماضي الكائن، خلف كل موضوعية حاضرة وملموسة. لأنه أحيانا، يكمن المبدأ الذاتي الأصلي، عند نقطة معينة سابقة عن التجربة، بين ثنايا عمق مولِّد، تنبعث منه تلك الصورة أو هذه الأسطورة نحو سطح الموضوعية. هكذا، يلاحظ باشلار: "يجدر دائما بقارئ يعقوب بوهمه الذهاب إلى الأصل الذاتي للاستعارات، قبل كلمة موضوعي" (30) .
باختصار، ما يبحث عنه باشلار حاليا، يختلف تماما عن مرتكزات بحثه خلال حقبة سابقة أو رافد ثان ضمن سياق وجوده، بحيث أصبحت الذاتية تحظى لديه حاليا بالأولوية مقابل الموضوعية.
هكذا وجه باشلار إلى قارئه، تحذيرا من مخاطر الموضوعية، عبر سلسلة نصوص مغايرة تماما:
"يمثل أصلا السعي إلى وصف التأمل الشارد موضوعيا، اختزالا له أو يعمل على محاصرته'' (31).
''تغدو بلا معنى دراسة الخيال من الناحية الموضوعية'' (32)
''يلزمنا التخلص من اهتمامات دواعي الوصف الموضوعي إذا توخينا اقتفاء أثر أنشطة الذات المتخيِّلة ضمن نطاق استقلالها'' (33).
إذن، الانقلاب شامل. هل ينبغي التأكيد ضمن سياق ذلك، بضرورة التركيز في عالم الحقائق الذاتية على ذاتية صافية، مثلما يقتضي عالم المعرفة العلمية تطهير الأخيرة من جلِّ العناصر الذاتية؟ سنحاول استيعاب ذلك. لكن، ما الذي تعنيه ذاتية صافية؟ هل بوسع عالم الذات الوجود دون موضوع؟ هل يتأتى لنا إدراك فكر بوسعه تأمل ذاته وكذا التبلور دون حاجته إلى صور؟ يجيب باشلار بالنفي. لا توجد ذاتية بالنسبة إليه سوى مكشوفة، تستمد سند تجليها من عالم الحقائق المتخيَّلة الأولية. تتبدى الذات، بفضل الأشياء وكذا داخل الأشياء، وجواهر المواد: 
''حينما نحلم بالميزة السرية لجوهر المواد، فإننا نحلم بكائننا الباطني'' (34) . 
"يقودنا كل جوهر حلمنا به صوب حميمة لا واعية'' (35) .
" تتيح لنا موضوعات الأرض، أصداء تضمر موعدا مع طاقتنا'' (36).
بنفس الكيفية، يكشف التأمل الشارد أمام النار، عن الكائن الذي يحلم. بخلاف حلم النائم: "الذي يركز باستمرار تقريبا على موضوع" (37). يتناوله الفكر الحالم، يستبدله ويضفي عليه طابعا ذاتيا. موضوع دون افتقاد شيء من ماديته وكذا تدفقه حول الحياة الحسية، قد تجرَّد عن كل تموضع خارجي غاية أن يصبح صورة يكتشفها الفكر ويتأملها. بخلاف موضوعات الخارج، تقدم الصورة منحى مفتوحا، مألوفا، محليا تقريبا، يكفل للذات استعدادها كي تنسج معه صلات يجعلها التأمل الشارد راسخة. لسنا هنا قط داخل عالم يمثل ضمنه التعارض بين الموضوع والذات، قاعدة أولى ومنيعة. أو بالأحرى، لا يحدث التسامح مع شيء ذاتي بالنسبة إلى عالم المعرفة العلمية، هكذا يضطر الموضوع في نهاية المطاف، تأمل ذاته ضمن إطار إخفاء الهوية وكذا العزلة.
مقابل ذلك، حين التحول إلى عالم التأمل الشارد، يستحيل على الذات مع كل اللحظات، المكوث معزولة وكذا الاكتفاء بحياة منغلقة على ذاتها، بل يلزمها إحاطة نفسها بحشد من الموضوعات تحلم بها، تعثر في خضمها على وجودها وتستريح بين طياتها.
يتجلى هذا التآلف بين الذات والموضوع مع بعض الصور المُمَيَّزة. مثلا، صورة الطائر كما أنشدها الشاعر: "يجدر بموضوع شعري محض أن يستوعب في الوقت ذاته مجمل الذات وكل الموضوع. تعتبر قبَّرة بيرسي شيلي الخالصة المتجَرِّدة من كسائها المرح، نتاج سعادة الذات والعالم'' (38).
كذلك مع زرقة السماء عبر قصيدة بول إلوار: ''أمام سماء زرقاء ناعمة للغاية، فاتر لونها، سماء نقية بفضل تأمل شارد لبول إلوار، ستتأتى لنا فرصة تناول الذات والموضوع معا، في خضم نشأة الحالة، وفق ديناميكية راقية" (39).
أيضا، صورة تلك البحيرة، الموحية أكثر من سماء زرقاء صافية، بعالم وضع حدا للتعارض بين الذات والموضوع ثم الاكتفاء بالعيش معا، في وئام وسلام: "هنا، توجد بحيرة وبِرْكة مائية. يتمتعان بامتياز الحضور. رويدا رويدا، يقتفي الحالم آثار هذا الحضور. تتسامى ذاته لحظتها، عن كل تناقض. لا يوجد شيء ضده. لقد تخلص الكون من شتى وظائف الضِّدِّ. تسكن الروح عنده في كل مكان، ضمن فضاء يستريح على بِرْكة ماء. يحتوي الماء الراقد كل شيء، العالم وكذا الحالم به" (40). 
بحضور نصوص من هذا النوع، لا يباغتنا فقط تحول مذهل لفكر، والذي بعد أن تصلُّب طويلا في إطار موضوعية أكثر تجريدا، أتاح لنفسه حاليا إمكانية الانغماس في استرخاء طموح، وكذا تناغم وسعادة، بل أكثر من ذلك وأساسا تغير فكري جوهري يماثل تعديلا على مستوى اللغة.
يمضي كل شيء، كما لو أنه عند اقتحامه الحدود اللامرئية التي أشار إليها أعلاه وجَزَّأت حياته الذهنية، فجأة شرعت لغات النار تزور على منوال رُسُلٍ، هذا الإنسان صاحب خطاب سميك، ذي ألفاظ ثقيلة شيئا ما ودقيقة، كما الشأن أحيانا مع باشلار، وصار كاتبا ملهِما وأنيقا للغاية، بحيث يكتسي الفعل عفويا، حين توخيه وصف تآلف الذات والموضوع، مختلف انعطافات الرِّقة، العمق والقوة. أكثر من كل ذلك، يعكس هنا زواج اللغة والفكر قوة معينة على مستوى الرنين.
ليس أمامنا خيار آخر، سوى النظر في طابور طويل لنصوص رومانسية تقدم بين طياتها النشوة الطبيعية نفس الوحدة بين نصوص أندريه جيد، غوستاف فلوبير، موريس دو غيران، بيفريت دي سينانكور، لا سيما نصوص جان جاك روسو، الأول في التاريخ والعمق ضمن قائمة تتباطأ عندهم الحركة لكنها ملموسة بخصوص حياة الأشياء وكذا همس الكلام، اللذين يظهران خلال لحظة ساحرة، انسيابا نحو الانسجام.
تبدو تحديدا بأنها لحظة ينمحي معها التمييز القديم بين الفكر ثم ما يفكِّر فيه، مثلما يتوقف في نفس الوقت، العائق المعتاد الذي تمثله الكلمات، فيغدو الكلام سهلا، لأن الفكر يتحرك حينئذ داخل عالم، لم يعد قط بوسع المادة الصمود أمامه. من هنا الاندفاع الذي وفقه ينتشر فكر بين طيات هذه المادة التي أضحت بشكل رائع قابلة للاختراق وقابلة للتعبير، هذا الفكر نتيجة بهجة الكلام: ''سيتأمل المادة، يحلم بها، يحيا داخلها، أو- نفس التصور- تجسيد المتخيَّل'' (41). 
أحيانا، يبلغ الاقتراب من الموضوع درجة انصهار متكامل، تجعلنا عاجزين جراء تبلور تعاون سعيد للقوى، كي نقرّ بمدى احتفاظ أحدهما أو الثاني، على أدنى مظهر من مظاهر الاستقلال: ''أن نعيش حميما اندفاع النبات، يعني الإحساس على امتداد كل الكون بنفس القوة، ثم أن يتبلور ذاتيا وعي حتمي بطيف حورية تجسِّد إرادة القوة النباتية لعالم لا نهائي'' (42).
''نعيش حميما الاندفاع النباتي"، ''يتبلور ذاتيا وعي حتمي بطيف حورية''، ''نحيا داخل المادة''، عدة تعابير تميز حتما لدى باشلار، تقدما للفكر صوب موضوعه، لكن أكثر وأبعد من الموضوع، يكشف ذلك عن مشاركة حميمة أكثر فأكثر لحياة المادة، ثم توافق تدريجي بين طبيعتين وكذا انغراز نهائي للأنا داخل جوهر كوني ممتزجة به.
انزلاق بطيء للفكر، تبعا لمنحدره، نحو التيمة التي يودُّ بلورتها، لأنه يكمن ''منحدر للتأمل الشارد" عند باشلار مثلما لدى هيغو؛ انسياب من الذات صوب الأشياء، أو صورة الأشياء، بحيث لاتبدي الأخيرة أيَّ مقاومة مناوئة لحركة اختراق يرسمها الفكر، ولا أيضا من لدن الفكر حيال هذا التدفق، الذي يمثل تدفقا له داخل الموضوع. بحسب تأويل معين، يمثل ذلك حسب تصور باشلار، نجاحا معتبرا.
تتطابق عنده قابلية الأشياء لاختراق لا نهائي، مع تطويع لا نهائي للفكر. فكر ينصهر جيدا مع مقطع الشعري ينساب نحوه، سيجازف بالاختفاء كفكر، ثم ينغمس في المادة باعتباره جزءا مكوِّنا لها. 
أيضا، حين قراءة باشلار مرات عديدة، رغم التفاؤل الهائل الذي يبعثه، ينتابنا شعور متوتر بخصوص كائن يقبع وسط هاوية: مستعد كي يرتمي داخلها ويتيه، كما الشأن مع واحد من أفعاله الانتحارية، المقصود أساسا بدل قتل الذات الارتباط بعالم أولي نحلم داخله مستسلمين لهذا الانتماء دون الإبقاء عن أثر للذات. العودة إلى اللاتحديد، انبثاق ضمن تجانس المادة الأولى، هكذا يتجلى سعي باشلار. تطلع يكمن في عمق رغبة اللاوعي، السعي، يقول هنري أمييل، نحو الانخراط ثانية رغما عن كل تمايز، و ذاكرة أو وعي، في خضم عتمة أصلية، ربما تكتسحها جملة أحلام. مع ذلك، يبتعد باشلار عن هذا العالم رغم جاذبيته، لأنه يحول دون استمرار وبقاء الوعي.
بخلاف كبار مكتشفي الحياة الحُلُمية، نوفاليس، فرانز شوبرت، كاروس، نيرفال، ومؤرخهم ألبير بيغان، ينظر باشلار إلى العالم الليلي للنائم، بعدم الثقة، ثم في نهاية المطاف، ضمن قيود صريحة جدا.
أعتقد أنه بعد التخلي عن جاذبية عالم نفتقد داخله مكاننا، وكذا الوعي، فنصبح الشيء الذي نتخيَّله، أدرك باشلار، مرة أخرى، انتصاره للصيغة الموضوعية، داخل هذا الكون، من خلال استبعاد أو ابتلاع مبدأ الذاتية. 
يقول باشلار عن العالم الحُلُمي للنائم: "تفقد الذات تبعا لهذا السياق كيانها، إنها أحلام دون ذات". ويوضح في مكان آخر بشكل صريح أكثر: "لا يمكن لحالم الليل الإعلان عن كوجيطو'' (43)، "بل لا يساعدنا الحلم الليلي حتى على تشكيل لاكوجيطو'' (44).
إن انعدم كوجيطو أساسه الحلم، فعلى الأقل يوجد كوجيطو للتأمل الشارد. أولى تجليات غطرسة الفكر استبعاده من دائرته كل ذاتية، ثم مطاردة الذات، وكذا ملاحقة الأنا، وفق كل صيغها، ثم قَلْبِ المنظور الذي يضع ذاتية تنعم بالسيادة عند نواة عالم منيع على الفكر العلمي، أخيرا الإقرار بالحياة الروحية من خلال مظاهر ذات تلتئم بموضوعات، يفضي جل ذلك بين طيات فكر باشلار وجهة تناول للأنا من لدن الأنا، بمعنى كوجيطو صادق.
طبعا، لا يمكننا تخيّل كوجيطو بصورة مختلفة كثيرا عن كوجيطو ديكارت. غطرسة أو لا تسامح، بحيث لا يستمر هنا أدنى أثر.
إذن، أضحت بعيدة فترة زمنية تخيَّل إبانها باشلار وعيا موضوعيا قد تخلص من آخر بقايا الفكر الشخصي. لا شيء يتماثل هنا مع الاقتضاء الديكارتي الرهيب بخصوص عزلة فكرية، حين إلغائها لكل اعتقاد، يبقى فقط الشك القطعي على فكر عَارٍ يتأمل فقط ضمن مضماره، ذاته دون غيرها على امتداد البصر.
عكس ذلك، لنتخيَّل كوجيطو قليل الإلحاح، اجتماعيا، أتى متأخرا مادام صاحبه لم ينجح كي يجعل منه تجربة كاملة سوى خلال الحقبة الأخيرة من حياته، بعد حيرة فعلية وكذا على أعقاب أوهام حتمية تمارس تأثيرها حول طبائع عقلانية ودفعها قصد الاكتفاء منذئذ بالقليل.
هكذا الوعي الذاتي، مثلما أقامه باشلار متأخرا ضمن نواة صوره العزيزة. وعي ليس بمبدأ منفرد للمعرفة الموضوعية، أو ضوء اضمحل، ولا قوة استبدادية تمارس بكيفية غير واضحة سيادة على العالم. إنه وعي متواضع، دون طموحات كبيرة، يكتفي بحياة داخل مجتمع صوره وتجميعها حوله في صيغة جماعة منادمين؛ باختصار، غير مبال سوى قليلا  بمواصلة حرب الذات  الأبدية ضد الأشياء، لكنه يقتصر على العكس من ذلك، بأن ينسج معها علاقات جوار ممتازة، تعتبر بمثابة المعطى الأول الذي يستفيد منه: ''يحظى كوجيطو حالم التأمل الشارد، بإقرار هادئ لوجوده'' (45) .  
هكذا يتحدَّد بحسب الإقرار الحميمي لوجوده، لكن وفق شعور ضعيف جدا نحو زخم ذلك، ينبثق بالكاد الوعي بالوجود من اللاوجود، بالتالي يشبه كوجيطو باشلار كوجيطو روسو أكثر من الذي أرساه ديكارت. يرضي التجربة الملموسة الأكثر نعومة، كما لو أنَّ علاقته بالعالم الخارجي تحتاج فقط لأقل العلاقات الممكنة، حتى يصير بوسع الفكر الانسياب من الإحساس الأول غاية إحساس بالمعنى الحقيقي للكلمة عن الوجود.
أخيرا، تخلصت الروح من كل حالة توتر، تلتقي بروحها، تتذوَّق عالما تعاين داخل مختلف أبعاده نفس الشفافية، وكذا الطمأنينة الهادئة لحضورها الداخلي، فلا معارضة تجابهها من أيِّ موضوع خارجي: ''يتبلور وعي دون توتر، داخل كوجيطو سهل، يقدم يقينيات الوجود بمناسبة صورة تروق له '' (46) .
نقطة إحساس عند باشلار، تبدو أكثر تأثيرا، تتجلى في الإحساس المتواضع بالوجود، مثلما يختبره التأمل الشارد، كما لو يتمثل الأهم في العثور على نقطة وعي تتموقع عند مكان ما، منتصف الطريق بين اللاوعي الليلي وكذا الوعي تحت الضوء الساطع.
وعي امتلك ما يكفي من الوضوح حتى يبرزه اللاوعي، وعي بأقل وجود ممكن، إنها الحالة التي تحظى بالأفضلية لدى باشلار الحالم ويتطلع كي يصفها: ''حالات تعتبر أنطولوجيا تحت الوجود وفوق العدم. حالات تُخَفِّف تناقض الوجود واللاوجود. يسعى وجود لم يبلغ بعد وجوده نحو التحقق'' (47). 
من جهة، بالنسبة لباشلار، يبقى الفعل الأول للوعي جَاراً قريبا من اللاوعي، دون أن يفقد الثاني سمته كوعي. هكذا حالة التأمل الشارد، فلا يضمر سمة سلبية تماما عن ذات بلا وعي ولا فاعل، تلك الأنا الحالمة خلال النوم الليلي، ولا كذا الإيجابية الواضحة للوعي النهاري، بحيث ينفصلان، كي يتأمل كل واحد منهما ما يودُّ التفكير فيه.
يمكننا الاعتقاد بأنَّ عِلَّة هذا الامتياز الممنوح من طرف باشلار، يستند على أن التباين بين الوعي الواضح والمضطرب يحافظ على الاتصال مع العالم ولا يعزل الأنا. لكن خاصية التأمل الشارد تحديدا، على الأقل تأمل شارد معين، ينغمس في إطاره الكائن بشكل كامل، تعكس تراكما يوطد أكثر فأكثر مساحة مظلمة سميكة، بين الأشياء والذات، فتتجه أخيرا الروح الحالمة صوب افتقاد ما تفكر فيه ضمن مستوى نصف وعي، دون التوقف مع ذلك كي تفكر وتتأمل روحها في الآن ذاته. بالتالي، فالذي يستيقظ أو يتحرك داخلها، يشير إلى فكر يتبدى تقريبا وفق حالته الخالصة؛ فكر متخيِّل دائما، لكنه متحرِّر من صوره، يبتعد عنها وسط الظلام، مثل العديد من الشهود الصامتين.
كي يصبح تناول من هذا القبيل للذات ممكنا، يجدر بالفكر مواصلة تفعيل قوته المتخيِّلة، دون بقائه مع ذلك ضمن مضمار يرى في إطاره صورا تعتبر ثمرة لنشاطه: "وعي تحت- الذات، يقول باشلار، كوجيطو خفِيّ، قبو يكمن داخلنا، أسفل بلا عمق. هناك تضيع الصور التي جمعناها" (48). أيضا داخل هذا العمق، يتأتى لها التشكُّل مرة أخرى.
إذن، نتيجة تراجع الفكر قياسا إلى مستوى صور، خلقها على نحو اعتيادي، سيلج جراء ذلك منطقة سلام داخلي: ''تأمل شارد مصدره الاستراحة''، حيث لا زال يسهر على مبدأ أفعاله وخيالاته. مع ذلك، يغدو الوعي مُبَسَّطا حين تعمقه، هذا التبسيط، ليس مفروضا من الخارج كما الشأن مع الشك القطعي لديكارت، بل فَعَّال أكثر، يقول باشلار، لأنه: ''بالنسبة إليه يجسِّد منحدرا للتأمل الشارد''، "يتيح أدنى انحدار للكائن المتخيِّل، بمعنى أدنى حد للكائن المفكِّر'' (49). كوجيطو: ''ينبثق من الظل، يحتفظ بهامش لهذا الظل، تجعله ربما كوجيطو له'' (50).
إنَّ وعيا ناعما بكيفية لانهائية، يتعلق بكائن جوهره، أيضا، يتسم بنعومة لانهائية، يمثل في هذا السياق نقطة انحسار قصوى للفكر الباشلاري.
 يصعب إدراك غوص الفكر بعيدا جدا وكذا صوب الأسفل داخل مناطق مخصَّصة عادة للاوعي وحده. مع ذلك، هذا الكوجيطو القائم على الحد الأدنى، كوجيطو الظل، تحديدا لأنه كوجيطو، فعل وعي، ينبعث وينبثق من الظل، مثلما ورد في إشارة استبقت إحالة باشلار عليها ''التأمل الشارد للإرادة''، التي أعقبت التأمل الشارد للاستراحة، تأمل شارد ينفتح على الفجر، مادام كل تحقق للوعي يماثل صحوة.
نصادف ثانية مع ضوء النهار عالما ينبغي اكتشافه، تمتد حدوده  تدريجيا أثناء ترسخ هذا الوعي حين استضاءته.
يتميز الوعي الباشلاري بهذا المنحى الثنائي. يغوص بين ثنايا عمق ماء راكد؛ ينبثق منه ويمتلك سطحه: "توقظنا الصورة من سباتنا ويتجلى هذا الاستيقاظ من خلال كوجيطو. يحشد التأمل الشارد الوجود لصالح حالمه. يلهمه إيحاءات تشعره بكونه أكثر مما هو عليه. هكذا، يتبدَّى عند مكمن هذا الوجود الناقص باعتباره حالة استرخاء حيث تَشَكَّل تأمل شارد، انفراج يعمل الشاعر على تضخيمه غاية بلورة وجود إضافي'' (51).
يترك الاسترخاء مكانه إلى ''يقظة الوجود''. يهتزُّ التأمل الشارد، نتيجة مفعول الصور، ويصبح وعيا فعالا أكثر، يحتضن حشدا من الموضوعات تخلى عنها مؤقتا. بهذا الخصوص، أكد باشلار، على وجود طريقين للوعي: "كوجيطو للانبثاق''، ثم ''كوجيطو  منطوٍ على ذاته" (52).
كوجيطو الانبثاق، يتوجه صوب الخارج، نحو جِدَّة الأشياء مع انعدام إمكانية التنبؤ بالمستقبل: ''يحيا الشاعر الهوائي صباحه بالمطلق''(53).
يبدو أحيانا، تجلي تجربة الاستيقاظ عند باشلار، ليس وفق صيغة آرثر رامبو عن طراوة الكائن والعالم، بل مثلما تصور بروست، انبعاث الزمن المنقضي.
باشلار نفسه، يرصد جملة تأثيرات غير إرادية لبعض ظواهر الذاكرة: ''إذا أمكنني أن أحيا لحسابي الأسطورة الفلسفية لتمثال دي كوندياك الذي اكتشف أول عالم وكذا وعي أولي داخل روائح، وبدل ترديد نفس عبارة تلك الأسطورة: ''أنا أريج الورد''، يمكنني بدوري القول: ''أنا أولا عِطْر نعناع المياه'' ما دام الكائن يجسِّد استفاقة، قبل كل شيء، ويصحو بين طيات وعي يميزه انطباع مذهل'' (54).
يمتلك نعناع المياه، نفس مفعول تأثير كعكة مادلين. يبقي على الزمن، ويعيد للروح عبق الماضي. لكن، هل يتعلق الأمر حقا بالماضي، لحظة نعيشها مرة أخرى ثم بعد ذلك مراعاتها وفق تاريخها داخل الذاكرة؟ الماضي الباشلاري، زمان قد استعاد حياته، لكنه لا يماثل حقا خلال كل لحظات الوجود، تلك الحقبة النوعية التي استنشق الطفل إبانها، عبق النعناع، ومنذئذ حافظت الصورة ذاتِ العطر، داخل الذهن على نفس سلطة التحريض، تلهمه مرة أخرى الرغبة كي يجعل الوقت يبدأ ثانية ويخلق المستقبل. قليلة السمات التي تجعلنا نحس بكيفية واضحة التوجه المتوقَّع جدا لدى باشلار، لأنه يخلق المستقبل بالماضي أيضا.
بالنسبة إليه، تجليات حبٍّ نحو الطفولة، خالص ومطلق، لا يعبر قط عن طقس براءة، وحنين إلى عصر ذهبي، أو رغبة التحول فكريا وجهة زمان أقل ابتعادا قياسا لزمننا الحالي عن ''سماء سابقة تزهر جمالا''، لكن فقط ببساطة يعكس سعي من هذا القبيل على استعادة  مصدر الطاقة، ونبدأ من جديد فعل الحياة.
إن وجد باشلار نفسه طفلا عن طيب خاطر، ويعود سواء من خلال أقواله  مثلما في تأملاته الشاردة، قصد الانتصار إلى كنز من الصور، وبذخ ممتلكاتها الداخلية، فلأن هذه الصور بالإمكان حتما بلوغها فورا، يؤكد باشلار عكس بروست تماما؛ فضلا عن ذلك  ونتيجة حضورها المتجدِّد باستمرار، تكتشف نفسها مرتبطة مع حركة الذهن التي أدركها للمرة الأولى.
لم يعمل شخص أفضل من باشلار، كي يجدِّد عفويا، خلال سنوات نضجه وغاية شيخوخته، الكوجيطو الأول للوعي الفتيِّ: كوجيطو كائن يلقي نظرة جديدة حول عالم جديد، ثم استخلاص إحساس من هذه الحداثة، مضمونه إدراك للذات غير قابل للنسيان. مثلا، اكتشاف عُشِّ طير (55). يعني اكتشاف ذواتنا، مندهشين، مرتعشين، يغمرنا شعور إعجاب كبير أمام هذا الشيء السري، الذي يبدو أنه قد مارس علينا تأثيرا شخصيا، نتيجة أسباب تبقى بالنسبة إلينا غامضة.
بفضل ذلك، أو بالأحرى جراء الصورة التي يقدمها لنا وعدم توقف فعالية قيمتها الرمزية، على امتداد سنوات، نصبح كائنات حسب باشلار: ''تحقق اندهاش الوجود'' (56). إنها الذات: ''الخالصة والبسيطة لفعل الاندهاش'' (57)، من أُذْهِلَت حيرة. الذهول يستدعيها حقا إلى الوجود. ذهول ليس تراجيديا، مختلفا بعمق عن الصدمة الممتزجة بالفزع كأول إحساس يظهره الكائن الباسكالي أو الذي يعبر عنه فيكنور هيغو.
 بالنسبة إلى باشلار، الذي يندهش، يكتسحه شعور الإعجاب، فليس هناك اندهاش بغير شعور يتطابق مع السعادة.
 
هامش:
(1) مصدر المقالة:
George poulet :La conscience critique ;troisième édition ;1986  PP :175-209.
(29) الماء والأحلام ص 85
(30) الهواء وأحلام الرؤى، ص 138
 (31) شعرية المكان، ص 143
(32) شعرية التأمل الشارد، ص 46
(33) الأرض والتأملات الشاردة للإرادة، ص 250
(34) الأرض والتأملات الشاردة للاستراحة، ص 51
 (35) الأرض والتأملات الشاردة للإرادة، ص 333 .
 (36) نفسه ص.9
(37) التحليل النفسي للنار، ص 26
(38) لهواء وأحلام الرؤى، ص 104
 (39)نفسه ص 194
(40) شعرية التأمل الشارد ص 169
(41) الهواء ورؤى التأملات، ص 14
 (42) نفسه ص 254
(43) شعرية التأمل الشارد، ص 20
44)) نفسه ص 128
(45) نفسه ص 143
(46) نفسه ص 150
(47) نفسه ص 95
(48) الأرض والتأملات الشاردة للراحة، ص 260
(49) الهواء وأحلام الرؤى، ص 194
50)) شعرية التأمل الشارد، ص 108
(51) نفسه، ص 130 – 131
(52) شعلة قنديل، ص 8
(53) شعرية المكان، ص132
(54) الماء والأحلام، ص 10
 (55) شعرية المكان، ص 95
(56) شعرية التأمل الشارد، ص 100
(57) نفسه ص 109