الأحد  24 تشرين الثاني 2024

سؤال المصير: قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية

2023-06-05 09:24:01 AM
سؤال المصير: قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية
غلاف الكتاب

تدوين- إصدارات 

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب سؤال المصير - قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية، وهو من تأليف المفكر السوري برهان غليون. يقع الكتاب في 232 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

يدافع غليون في مؤلَّفه، مستعرضًا تاريخ العرب منذ قرنين، عن فكرة أن تخلف المجتمعات التي بقيت على هامش الحضارة أو ملحَقةً بها، ومنها مجتمعاتُنا العربية، ليس نتاجَ ثقافتها أو إرثها السياسي بل ثمنٌ لتقدم الدول المركزية الصناعية، التي بدورها لم تشغل - في رأيه - موقعًا متقدِّمًا في النظام العالمي بسبب سبْقها العلمي والتقني، ولكن لاحتكارها عناصر هذا التقدم ومنع الدول الأخرى من مجاراتها فيه. وفي هذا السياق، يعتبر أن حروب الاستعمار وتدميره الإمبراطوريات القديمة، لحيازة مواردها وتحويلها أسواقًا لبضائعه، ليس إلا تجسيدًا لهذا المنحى. ويذهب إلى نسب فشل مجتمعات ما بعد الاستعمار في حجز مكانة في النظام العالمي الجديد إلى نُخَبِها الاجتماعية، التي وصلت إلى الحكم ومراكز القوى، مكتنِزةً في لاوعيها أيديولوجيا تفوّق الآخر، وأعادت معه علاقة تشبه تلك الاستعمارية الغابرة، علاقة السيد والتابع. وهكذا، لم يعد لمثقفينا همٌّ سوى إقناعنا بأننا، عربًا أو مسلمين أو أفارقة، لاعقلانيون، عاطفيون متعصبون، منفصلون عن التاريخ، مشوهون نفسيًّا، أنانيون، لا نعرف وطنية ولا أخلاقًا ولا دولة حديثة ولا مجتمعًا مدنيًّا؛ وأن من يتشبهون بالغرب ويشبهون أهله هم وحدهم القادرون على صنع التاريخ، وفقا للمركز.

ما فتئ المثقفون العرب اليوم يطرحون أسئلة أسلافهم منذ القرن التاسع عشر عن تقدم الآخرين وتأخرهم، فانتصر المتأثرون منهم بأيديولوجيا التنوير - وهم الغالبية - لقيم العقل في الميادين كلها، واعتقدوا جازمين بقدرته على حل مسائل الماضي والحاضر، وبحتمية التقدم التاريخي عند تراكم المعرفة وتوسع سيطرة الإنسان على مقدراته. وتركّز نقاش هؤلاء في مسألة إخفاق الحداثة في مجتمعاتنا حول قضايا "التراث" و"العقل" و"العلم" و"الدين" و"الجهل". وفي هذا القرن، تجددت إشكالية متعلقة بمصير الشعوب إثر اندلاع ثورات الربيع العربي وإجهاضها، وثار الجدال بين العلمانية وموقعها من الحداثة والعقيدة الدينية وموقعها من الهوية والخصوصية، ثم انتقال الإسلاموفوبيا من الرأي العام الغربي إلى بلدان عربية وإسلامية. وهكذا، قوي موقع أصحاب قراءة شائعة تفسر الفجوة الحضارية بين العالمَين العربي والمتقدم بمقاومة البنى العربية القديمة للحداثة، وتعزو توسُّعَها إلى العقيدة الإسلامية، مصوِّرينها عقيدةً مغلقة وشمولية ومنيعة أمام التحوّل والتبدل اللذين أصابا العقائد الدينية الأخرى. ويرجعون ذلك إلى أنها ترفض الفصل بين المقدس والدنيا، إلى درجة تصور العالم أن هناك تماهيًا بين المسلمين المسالمين والمتطرفين العنيفين، وأن العمليات الإرهابية تكمن في روح العقيدة ذاتها، وأن "الحرب العالمية على الإرهاب" في نظر الرأي العام هي حرب على الإسلام، وأن التطرف هو الخطر الأول على الأمن والاستقرار العالميين. وكانت نتيجةُ هذا التصور وضْعَ نشاطات المسلمين تحت المراقبة، ليس من الغرب فحسب، بل في داخل المجتمع العربي الواحد؛ ما انعكس فقدانًا للثقة بين مسلمين متحررين دينيًّا ومتدينين بإمكانية التعايش. وبدلًا من البحث في الشروط التاريخية لتطور المجتمعات الطبيعي، نحا الباحثون إلى التدقيق في هوية هذه المجتمعات وثقافتها؛ ومن هنا نشأ إخفاق العرب المستمر في الارتقاء بتنظيماتهم إلى مستوى المؤسسات الحديثة، وجعْل مشكلات توطين الحداثة خارج نطاق البحث.

يبين غليون أن لا شيء في أحداث العالم العربي منذ قرنين عصيٌّ على الفهم، إذا ما قُرٍئ قراءة نقدية وجدلية، وأن صعود التيارات الإسلامية السياسية والتطرف سببه أزمة المجتمعات العربية العميقة بعد إفشال مشاريع التحديث فيها على جميع الصعد وإحباط حلم التقدم في الحاضر والمستقبل. وأمام زحف الحداثة التي لم تذرْ أيَّ مجتمع خارج نطاقها، يركز على موقف المجتمعات العربية القديمة التي أصابها التحلل والتفسخ من دون أي إصلاح، وانحسار فاعليتها أمام هذا الزحف. فلم يُسفِر تراجعُ الدين في رأي غليون، أو انسحابه من نواحٍ عامة في حقبة الخلافة أو السلطنة القديمة، عن ملء مؤسسات عقلانية حديثة الفراغ، ولم يعوَّض تفككُ الدولة - الإمبراطورية (السلطنة) بظهور "دولة-أمة" هي مثال الدولة الحديثة، ولم ينجح الاقتصاد الصناعي للمجتمعات الحديثة الذي خلّف تطورًا في التقنية والعلوم ورفاهية الأفراد في جلب المجتمعات السلطانية إليه بعد تحلل الاقتصاد الإقطاعي - الزراعي فيها، وبدلًا من ذلك دُمِّرَ اقتصادها الحِرَفِيّ لمصلحة تحويلها أسواقًا مفتوحة للبضائع الأجنبية.

وبحسب المركز، يرى غليون أن فهم ما حصل يستدعي البحث عن سبب التخلف الحضاري، ليس في تراث الماضي بل في تاريخ الحداثة والشروط التي حكمت اندماج المجتمعات المختلفة فيها، ومنها اختيار النخب التي تقود الاندماج وتُنتج الأفكار التي توجهه، وفي سياسات الدول الصناعية المتحكمة في ديناميكيات الحداثة، ومدى تقاطع مصالحها أو تضاربها، وضرورة اندماج المجتمعات النامية في منظومة الحداثة على مستوى عال، لا بوصفها موردًا للمواد الخام وأسواقًا استهلاكية، بل شريكًا في الحداثة، واتحاد هذه المجتمعات لمنع الدول المتقدمة من إعاقة أي مشروع تحديثي وطني، إنْ بمنع نقل المعرفة والتقنية أو بتحالفات سياسية وعسكرية غربية أو باتفاقيات تجارية عالمية تسيطر على البورصات والأسواق المالية. ويركز الكتاب أيضًا على تحوّل النخب التي حازت السلطة، أو القسم الأعظم منها، بعد أن أدركت عجزها عن بناء أمة حقيقية ودولة قانونية وحكم تداولي، إلى طغم عسكرية أو مدنية ملحقة بالدول الكبرى، التي تكفلت بحمايتها من شعوبها مقابل اختراقها جميع أجهزة الدولة والتأثير في قراراتها. في المقابل، فإن الأقلية المتبقية من هذه النخب، التي تجاوزت خطوط الدول الصناعية الحمراء وتجرأت على وضع مشاريع تحديث طموحة، قد حرمت من المساعدات، وتعرضت لضغوط، وأحيانًا لحروب مباشرة مدمرة.

يسمّي غليون الحداثة المدّعاة في هذه المجتمعات "الحداثة الرثة"؛ لأنها بقيت مجتمعات تقليدية تعيش خارج المنظومة الدولية وتأثيرها، وأصبحت ملحقة بالكتلة الصناعية المركزية بأشكال مختلفة، وإذا ما طرأ أي تحديث فيها فيكون مرتبطًا بمصالح هذه الكتلة، ثمّ إنها تحوّلت مع الزمن تابعًا يعمل في خدمتها أو يعيش متطفّلًا عليها. ويعتبر أن الدول غير الغربية التي تجاوزت التخلف لم تنجح في ذلك من دون صدام مع الدول الصناعية المركزية وأحيانًا في حروب طويلة ودموية. وهنا في رأيه، يبرز دور النخب الحاسم في مقاومة السيطرة العالمية؛ فالتخلف ليس في نسيج أي عقيدة أو ديانة، وإنما هو نتيجة خيارات استراتيجية خاطئة لقوى مسيطرة، وليس حتمًا لا يمكن تجاوزه.

يعتبر غليون أن الحداثة الغربية هي نتاج قرنين أو أكثر من الصراعات والحروب والهجرات، لإعادة توزيع الموارد وامتلاك التقنية والصناعة والرفاه والحريات الأساسية والتكافل الاجتماعي والأمن بعد ظهور الرأسمالية الصناعية، وليس لها أي صلة بالتراثَين الديني والمدني وبالثقافة التحررية الأوروبية. ويخلص إلى أن الحداثة ليست قالبًا جاهزًا لما عرفته المجتمعات الأوروبية في القرنين الماضيين يكفي التقولب به لتحقيقها، بل هي معركة يخوضها كل مجتمع لتغيير شروط اندراجه القسري في منظومة الحداثة لا بما يملكه من موارد فحسب، بل على نحوٍ أكبر بما تنجح النخب بمواردها الخاصة في انتزاعه من فرص التقدم، على الرغم من أنه قليل في المجتمعات المتأخرة، التي لم ينجح أكثرها - إلا بحروب مدمرة - في الخلاص من الشَّرَك المطبِق عليها من المنظومة الدولية لمنعها "حقَّها" في التحوّل مركزًا للتراكم الحضاري.

وكما سبقت الإشارة، يعتبر غليون أن ظهور الحركات الأصولية الإسلامية في بلداننا لا يعبّر عن عودة إلى الماضي، كما يردد معظم الباحثين، بل هو على عكس ذلك؛ يمثِّل قطيعة مع التقليد الإسلامي الكلاسيكي، ويجسّد احتجاجًا وتمردًا اجتماعيًّا يُستخدم فيهما الدين رأسَ مال سياسيًّا في ميدان الصراع الدنيوي في دولة عقيم، لا تترك للشعوب خيارًا سوى التخبط في حمى البحث عن هويات ضائعة. ويعتبر أن إنزال الحداثة من مستوى الأسطورة كشف دورها في التغطية على مسؤوليات الغرب والنخب الحاكمة في المجتمعات المتخلفة في تهميش الشعوب، وإرساء نظام وصاية رباعي الأطراف: وصاية الغرب على النظام الدولي ودوله، ووصاية النخب على شعوبها، ووصاية المثقفين على الجمهور وحرمانه من الحريات الأساسية، ووصاية رجال الدين على ضمائر المؤمنين واستتباعهم.

يذكّر الفصل الأول من الكتاب بمحاولات بعض رجال الدولة أو الدين أو الثقافة كسر جمود النظم القديمة وإصلاحها، وأن الشعب على الرغم مما يوصَم به من الخضوع لسيطرة العقائد الدينية، لم يُظهر أي معارضة لهذا السعي الإصلاحي، كما لم يمنع الحكم السلطاني المطلق رجالًا مثل محمد علي باشا من اقتحام تجربة التحديث التقني والإداري وإرساء أسس دولة حديثة معظم خبرائها ومستشاريها من الأوروبيين، ومن دفع سياسات الباشا الجديد نخبةَ رجال الدين إلى مطالبة السلطان العثماني بتعيينه واليًا على مصر.

ويعرض الفصل الثاني لسعي الدول الأوروبية، بريطانيا وفرنسا وروسيا أساسًا، إلى تفكيك السلطنة العثمانية وتقاسم مناطقها والوصاية على شعوبها وإعادة تشكيلها بدويلات جديدة، وإلى القضاء على محاولات هذه الدويلات بناء اقتصاد حديث أو "دولة-أمة" حرة الإرادة والتطلعات ولو بالتدخل العسكري المباشر، وربما بتحالفات دولية ضخمة ضد من يتجاوز خطوطها الحمراء بتدشين أي مشاريع للتقدم الصناعي والتقني والعلمي. ويهدف الفصل من عرض هذه الوقائع إلى التعريف بجذور سياسات الاستعمار، وما بعد الاستعمار، في إظهار المجتمعات العربية وأفرادها وكأنهم يعانون نقصًا بنيويًا، وفي حاجة دائمة إلى الوصاية.

في الفصل الثالث، شرحٌ لكيفية عمل الأيديولوجيا العنصرية على رفد محاولات السيطرة والنفوذ الاستعماريَين بمصادر القوة، ودور هذه العنصرية في عزل النخب المحلية عن شعوبها لإبقائها في ربقة التخلف، ودفعها إلى التواطؤ مع الأنظمة الاستبدادية القائمة، وإظهار الكيفية التي يصنع بها التقدم ذاته بالتزامن مع فرض التخلف على الدول النامية.

ويتحدث الفصل الرابع عن كيفية تحوّل المثقفين العرب، حين أخفقوا في تحقيق مشاريعهم القومية المنشودة، إلى التنقيب في التراث لإظهار أن مشكلة عدم تجاوب الأمة مع الحداثة والهزائم التي تعرضت لها تكمن في تمسك العرب الشديد به؛ فتحوّل هؤلاء المثقفون، مما بدا في ظاهره محاولة للنقد الذاتي بعد فشل معركتهم، إلى جلد للذات العربية إجمالًا. ويتطرق الفصل إلى تأثر الدعاة الإسلاميين أيضًا بتخلف الأمة، واتجاههم إلى ما سمّي "الإصلاح الإسلامي"، وكذلك الفلاسفة العرب الذين بحثوا في بنى تكوين العقل العربي.

أما الفصل الخامس والأخير، فيتناول علاقة المثقفين العرب بشعوبهم، ويستعرض رؤى هؤلاء المثقفين لكيفية التعامل مع التراث، قطعًا أو تصحيحًا أو إعادةَ تأويل أو حتى دعوةً إلى الإسلاموفوبيا والعداء للإسلام.