تدوين- نصوص
قرر زعيم الامة تنظيف الاثير من الورم الذي نشرته أغنيات الحرب، وأصاب عقل وروح الملايين من عشاقه، بعطب اسمه اليقين الذي تصنعه أغنية، الأمر تطلب إعفاء ساحر الأثير أحمد سعيد من وظيفته كمدير لصوت العرب، وإحلال رجل أكثر هدوءً أو أقل جموحاً محلّه، من هنا بدأ التطبيق الفوري للشعار الجديد الذي أطلقه الزعيم "إزالة آثار العدوان".
المدير الجديد عمل بهمة ونشاط، أمر مساعديه بإعداد قائمة ممنوعات، وأصدر تعليمات مشددة بعدم إذاعة أي أغنية من تلك التي أذيعت أيام الحرب الثلاثة.
وأضيف عليها الأغنيات التي سبقت الحرب، والتي بشرت بالنصر الأكيد، وشكّل فريق رقابة وملاحقة لفحص مئات الأغنيات التي أنتجت منذ العام 1952، تلك التي أدت مهمة تسويق وعود الثورة والخصال المميزة والعبقرية لرمزها وقائدها.
جرى نقل بالجملة للأغنيات إلى الأرشيف، وحددت فترة مفتوحة للتوقف النهائي عن إنتاج أغنيات جديدة، لم يكن ذلك ضروريا بفعل إنتهاء مرحلة، والدخول إلى مرحلة جديدة، بل لأن الأغنيات التي شاعت زمن الحرب والوعد بالنصر، صارت بعد الذي حدث مجرد طرائف تصلح للتندر.
شاعت هواية بين الأخوة المستمعين وهي التلاعب بالألفاظ، وتركيب مدلولات عكسية للنصوص "يا أهلا بالمعارك" صارت "يا أهلا بالهزائم"، ونُصحت كوكب الشرق أم كلثوم التي قررت إحياء حفلات في بلاد الله الواسعة لدعم المجهود الحربي، أن تبتعد عن تذكير الناس بالسلاح والحرب والنصر وأن تعود إلى اختصاصها الأصلي، ذلك أن إزالة آثار العدوان تتطلب إزالة آثار الوهم والمغالاة. كان لابد من ترشيد الذوق الذي جمح، فعادت إلى الأثير من جديد "الأولة في الغرام" و "شمس الأصيل"، و "إنت عمري".
بعد أن ألغيت أغنيات الحرب جميعا، وطلب من المؤلفين استبعاد مفرداتها، إلا أن الذي لم يلغى بل تم تثبيته بمفردات وألحان مختلفة هي الفكرة، بقي الوعي الذي يسميه المثقفون بالجمعي يرزح تحت سطوتها المتجددة، لم يكن الأمر متعلقا فقط بما يسمى بالأغنيات الوطنية أو السياسية، ولا حتى بجناحها اليساري المسمى بالأغنيات الملتزمة، كما لو أن الغناء المحترم هو ذلك الذي تنتجه خلية حزبية، أو حزب معارض، بدا أن الاثير يعاني من فراغ غياب مطولات صلاح جاهين وكمال الطويل وعبد الحليم حافظ، فقد طلب الاثير مطولات من نوع آخر فأنتجت من جديد أغنيات يستغرق أداءها ساعة أو ساعتين فانتقل الجمهور الكريم إلى " زي الهوا" وعدّل شاعر الحب والمرأة من زلة الشعر التي أقدم عليها في ساعة انفعال حين قال مشخصا اسباب الهزيمة "سيوفنا أطول من قاماتنا " ليبعث عبر بريد الأثير برسائل من تحت الماء ويدعو العشاق للاستعانة بقارئة الفنجان كي تدلهم على مآلات عشقهم.
حضارة اللغة لا فكاك منها، كل شعوب الأرض أنتجت لغة خدمت حضارتها، أما نحن فقد قلبنا الموازين المنطقية إذ صارت اللغة حضارة والحضارة لغة.
كل الشعوب تغني،تتخيل، تنتج شعراُ وشعراء، فيه إبداع وإسفاف فيه النخبوي والسوقي، فيه ما يرضي الأذواق الرفيعة والمنحطة، إلا ان غيرنا ممن يتعاطون مع اللغة والشعر ينتجون اغنية هابطة للملاهي والبارات ومعها مصنع لانتاج الطائرات.
الجيل الذي ملأ الاثير بالمطولات انقرض لم يبق منه أحد، إلا أن الأثير العربي ظل جاهزاً لاستقبال التعويض. ما كان إنتاجا غزيرا بحكم حاجة الانقلابات والترويج لعبقريات القادة والنظم، تراجع إلى حد الإكتفاء بمجاملة المناسبات وتذكير المستمعين بمحطات نكباتهم مع مواصلة الوعد بحتمية انتصارهم.
أفسح غياب رواد المطولات في المجال لإنتاج غناء وصف بالشعبي "السح الدح امبو" "حبة فوق وحبة تحت" ويا لها من بلاغة في المبنى والمعنى، وغناء آخر وصف بالشبابي " بحبك يا حمار" ما أوحى بأن الشباب الذين يشكلون ثلثي الأمة انتهوا من حب الآدميين ليتطلعوا إلى حب المواشي.
الفكرة بقيت، تشكيل وعي الناس بالشعر والأغنيات الذي تغير هي العناوين، وبقي الناس رازحين وحتى يومنا هذا ولا أحد يعرف إلى متى تحت سطوة الأغنية.