تدوين-ثقافات
ترجمة: حسني مليطات(1)
هذا الفصل التمهيدي لكتاب “قبل النهاية” للكاتب الأرجنتيني المعروف إرنستو ساباتو، الذي خصص هذا الكتاب للتعبير عن ذاته، وصرخاته، وآلمه؛ حيثّ عمّر، وعاش فترات زمنية عديدة، اكتشف من خلالها عوالم عديدة، مثّل أجزاءً منها في رواياته المهمة في الأدب العالمي، مثل: رواية “النفق”، ورواية “أبطال وقبور”. أثناء ترجمتي لهذه المذكرات، اكتشفت القيمة المعرفية التي طرحها ساباتو مدة ثمانين عاماً تقريباً، فرغم خلافاته السياسية مع الأحزاب التي انتمى إليها، إلا أنه وجد في كل قرار يتخذه وسيلة للنجاة من عقد الأيديولوجيات، ليفرغ غضبه، ويُعبّر عن خيباته بوسيلتين: الأدب والفن، يكتب الروايات، ويرسم المشاهد السريالية، باحثاً من خلال تلك الوسيلتين عن المعنى الحقيقي للحياة. (المترجم).
كمنفي
أمشي بين الأزقة
في مدينة قديمة
مولدي الأول
روحي تتقدمني
مترددة وقلقة
ماذا يزعجها؟
رحليك أم بحثك
عن مسكن جديد؟
أنا هناك،
أسير أثناء نومي،
يتيماً ومهزوماً
إنّه الشوق إلى الشاطئ والتلال العالية
إلى ذلك القارب الأزرق
الذي يقترب من الساحل
إنه ينتظرني
لـ ماتيلد كوسمينسكي- ريتشيتر*
استيقظت للتو، كانت الساعة تقريباً الخامسة فجراً، حاولتُ ألاّ أُحدث ضجيجاً، أثناء ذهابي إلى المطبخ وإعداد كوب من الشاي، محاولاً، أثناء ذلك، تذكّر مقتطفاتٍ من أحلامي الصغيرة، تلك الأحلام التي بدت لي خالدةً وممزوجةً بذكريات الطفولة؛ فمع بلوغي العام السادس والثمانين، لم يكن لديّ، مطلقاً، ذاكرة جيّدة، كنت دائماً أعاني من تلك المساوئ، ولعل هذه تكون وسيلة لأتذكر فقط ما يجب أن يكون. ربما أعظم ما حدث لنا في الحياة هو ذلك الذي فيه معنى عميق، ذلك الذي كان حاسماً -من أجل الخير أو الشر- في تلك الرحلة المعقدة والمتناقضة، وغير قابلة للتفسير باتجاه الموت الذي هو حياة أي شخص آخر. من أجل هذا فإنّ ثقافتي غير متناسقة، مليئة بالثقوب الكبيرة، كما لو أنها تشكلت من بقايا معابد جميلة بتلك التي تحتفظ بأجزاء: بين سلة مهملات ونباتات برية، بالإضافة إلى الكتب التي قرأتها، والنظريات التي عاشرتها، والعودة إلى زلاتي نفسها مع الواقع.
عندما يوقفني النَّاس في الشارع، أو في الساحة، أو في القطار؛ من أجل أن يسألوني: ما الكتب التي ينبغي علينا أن نقرأها، أقول لهم دائماً: "اقرأوا الكتاب الذي يثير مشاعركم، فهو الشيء الوحيد الذي سيساعدكم على تحمّل الحياة".
من أجل هذا صرفت النظر عن عنوان "المذكرات" وكذلك عن عنوان "ذكريات ضعيف الذاكرة"؛ لأن ذلك بدا لي لعباً بالكلمات، وغير ملائم لهذا النوع من الوصايا، وكنت قد كتبت ذلك في وقت أعتبره من أكثر الأوقات حزناً في حياتي، إذ إنني في هذا الوقت الذي أشعر فيه بالعجز، لا أتذكر القصائد الخالدة عن الزمن والموت، تلك القصائد التي من الممكن أن تواسيني في هذه السنوات الأخيرة.
في القرية الريفية حيث ولدتُّ أنا، كانت هناك عادة نقوم بها قبل أن نذهب إلى النوم، وهي أن تطلب من أحد أفراد العائلة أن يوقظك، فنقول: "لا تنس أن توقظني في الساعة السادسة". كانت تعجبني دائماً تلك العلاقة المُكوّنة بين الذاكرة والاستمرارية في الحياة.
كانت الذاكرة تحظى بتقدير كبير من الثقافات العظيمة، كمقاومة التطور الزمني، إنّها ليست ذاكرة الأحداث البسيطة، ولا تلك الذاكرة التي تخدم من أجل تخزين المعلومات كما هو الآن في أجهزة الحاسوب: فأنا أتحدث عن الحاجة إلى رعاية ونقل الحقائق الأصلية.
في المجتمعات القديمة، وبينما يخرج الأب للبحث عن قوت يومه، والنساء يعملن في الفخار أو في جني المحاصيل، فإنّ الصغار يجلسون على ركب أجدادهم، حيث كانوا يتعلمون من حكمهم، تلك الحكم التي ليست بمعنى التعايش العلمي الذي تمنحه هذه الكلمة، بل بمعنى ذلك الذي يساعدنا على العيش والموت، حكمة أولئك الناصحين، الذين كانوا بشكل عام أميّين، ففي يوم ما، عندما كنتُ في دكار، قال لي الشاعر الكبير سنغور*: "إنّ موت واحد من هؤلاء العجائز عبارة عن حريق مكتبة من المفكرين والشعراء". في تلك القبائل، يوجد للحياة قيمة مقدسة وعميقة، وطقوسهم ليست جميلة فحسب، بل هي أيضاً غامضة جداً؛ إذ إنّهم كرّسوا الحقائق الأساسية للوجود: الولادة، والحب، والألم، والموت.
حول ما يُشبه الظل الذي أترقبه، ووسط الكآبة والبؤس، وكواحد من شيوخ القبيلة أولئك، ممنْ يكيّفون معاً حرارة الجمار، مستحضرين أساطيرهم وحكاياتهم القديمة، أهيئ نفسي لرواية بعض الأحداث الممزوجة والمنتشرة، تلك التي كانت جزءاً من جهد عميق ومتناقض، في حياة مليئة بالأخطاء وعدم الترتيب والفوضوية، وفي بحث يائس عن الحقيقة.
[1] باحث وأكايمي ومترجم، حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة أوتونوما في مدريد، متخصص في “الأدب المقارن والدراسات الثقافية والفنية”، يعمل أستاذاً مساعداً في عدد من الجامعات الفلسطينية.
* زوجة إرنستو ساباتو، شاعرة وأديبة، شكلت جزءاً مهما من حياته، فعبّر عن أهمية وجودها في صفحات مهمة من ذكرياته.
* هو ليوبولد سنغور، المعروف بلقب "الشاعر الرئيس"، الذي انتخب رئيساً للسنغال مطلع العقد السادس وحتى العقد الثامن من القرن العشرين، نشرت مجموعته الشعرية كاملة باللغة العربية. (المترجم)