الجمعة  17 أيار 2024

نص لفيصل حوراني من كتاب: دروب المنفى

2023-06-11 11:48:52 AM
نص لفيصل حوراني من كتاب: دروب المنفى
غلاف كتاب دروب المنفى

تدوين-نصوص

غربة بدأ أولها في دير الدبان

اختلى أعضاء اللجنة القومية والوجهاء الآخرون في المضافة، فيما شاع نبأ الإنذار في القرية وحمل الناس على التجمع أما دار جدي سلمان. في غضون ذلك، وصل خيّال من المسمية الكبيرة، وعرف الناس أن القرية تلقت إنذارا مماثلا، وأن المجاهدين فيها قرروا المقاومة.

ليس من الصعب عليك أن تتصور الوضع الذي وجد الناس أنفسهم فيه، فالإنذار الذي تلقوه كان بمثابة حكم بالإعدام الفوري على المجاهدين المطلوب تسليمهم وإلغاء لوجود القرية ووأد لأحلام ناسها وتشريدهم. وكل الأماكن التي تلقت إنذارات كهذه ولم تتمكن من المقاومة واجهت هي وناسها هذا المصير، أما المقاومة فإمكانياتها غير متوفرة ونتيجتها ستكون مجزرة شاملة ينتهي معها كل شيء، كل شيء بلا استثناء، والقبول بالخيار الاخر الذي يعرضه الإنذار، أي مغادرة القرية، لا يوفر أي ضمانة فسيخسر الناس قريتهم وأملاكهم وحين يهيمون بغير سلاح يصبحون فريسة سهلة للكمائن المعادية التي ستفتك بالمجاهدين دون عناء وبمن يطالهم رصاص الكمائن من الناس الآخرين، ومهلة الساعتين اللتين تمضي دقائقهما متتابعة لا توفر فرصة للتفكير بأي تدبير فعال.

لم تطل خلوة المختلين في المضافة. خرج هؤلاء على المتحلقين في الساحة، ثم تحدث جدي عبد المجيد بنبرة متماسكة. وأبلغ الجد إلى الناس أن على المسلحين أن يبقوا في القرية للدفاع عنها، بينما ينظم الرجال الاخرون خروج أهل القرية منها، وفي مواجهة الصخب الذي انفجر عند الاستماع لهذا القرار، أضاف الجد: "يبيت أهل القرية في الحقول في انتظار انجلاء الموقف فإذا كتب الله للقرية السلامة عادوا إليها، وإلا فإن عليهم التوجه إلى منطقة آمنة وترقب ما يفعله الجيش القريب الذي لابد أن يحرر البلاد والعباد" وإذا انفجر الصخب من جديد تكلم المختار العم عبد الحميد، فحث الناس على التزم الهدوء وتجنب الفوضى واتباع ما قرره المسؤولون عن القرية والتعجيل في تأمين سلامة النساء والأولاد.

كيف يمكن وصف مشاعر الناس في هاتين الساعتين الحاسمتين، وأي وصف يمكن أن يستقصي ما تحتويه مخازن النفوس بما احتبس فيها من توجس طيلة الأشهر الأخيرة وما فاض من تلك المخازن حين انتزع الإنذار صماماتها! وأي المشاعر كان الأشد حضورا في تلك اللحظات: الخوف من المجازر، أم الحرص على صيانة الاعراض، أم الإحساس الماثل بأنها النهاية الفاجعة لأمل الاستمرار في الوطن، أم الشك بمقدرة المتدخلين العرب على تبديل المصير الذي ترسمه إرادات وإمكانيات أكبر من أمكانيات أهل الوطن؟ كان القلق الذي صار سيد الموقف ينز من أجساد الناس ويشع من عيونهم فيملأ أرجاء القرية. وأخذ الناس المطالبون بترك القرية يدخلون دورهم ويخرجون منها ثم يعودون إليها ليخرجوا ثانية، وكل ما في تصرفاتهم يشي بحيرتهم الكاملة، وكأنهم كانوا، بهذا، يروضون أنفسهم على الرضوخ لداعي الفراق أو يحاولون تأجيل لحظة وقوعه ما أمكنهم ذلك.

والمدهش أن عشرات الأسئلة الصغيرة شغلت ذهن كل واحد في القرية، وكانت جميعا متماثلة وإن لم تلق إجابات متماثلة لدى الجميع: هل يحمل الناس معهم بعض حوائج دورهم، أو يرحلوا خفافا؟ وأي شيء يحملون؟ وهل يقفلون أبواب دورهم أو يتركونها مفتوحة كما ألفوا أن يفعلوا؟ وكيف يتصرفون بالنسبة للدواب، هل يصطحبونها معهم أو أن هذا غير لائق، هل يتركون لها وجبة واحدة من العلف أو يؤمنون علفها لعدة أيام؟ هل يأخذ الناس معهم وجبة السحور فقط أو يحتاطون خشية أن تطول إقامتهم في الحقول؟

عندما أعلن قرار الرجال، توجهت إلى دار جدتي مدللة، كنت أوثر أن أبقى معها ثم إن راعيتي كانت قد ذهبت إلى السوافير الشرقية ولم تعد. وكانت الجدة متماسكة كعادتها وحين استشارت الجارات الجدة حول ما ينبغي حمله أو تركه من موجودات المنزل، لم تتخل عن عادتها في الايجاز: " إحملن ما يلزم للسحور ونوم الأولاد وهذا كاف" ثم أضافت: والاشياء الثمينة الدنيا ليست لها أمان"

وقد جمعت الجدة حليها الفضية والذهبية في كيس علقته في رقبتها، وهيأت صرة فيها بساط وأغطية خفيفة وسلالا فيها طعام، وحضّرت الجدة عنزتها الشهباء لاصطحابها معها، فهي لا تستغني عن كوب القهوة مع الحليب الطازج، أيا ما كان عليه الظرف، في غضون ذلك، دارت جدتي خضرة بحركتها الوئيدة في أرجاء الحجرتين ورتبت أشيائها ثم مضت إلى ساحة الدار فوضعت العلف للعنزات، وأضافت إناء ماء وإناء علف لقن الدجاج وسدت مدخله، وحين حان موعد المغادرة قال الجدة لي" " العنزة من نصيبك، إصح لا تفلتها"

إنتظم ركب الراحلين تحت سماء غاب قمرها فسطعت النجوم كأنما استثارها الحدث فأطلت من أبراجها لتشهده. قطع مئات الناس ودوابهم القليلة المحملة بالصرر وادي الزريقة، واخترقوا الحقول في قافلة يكتنفها صخب لا تتميز معاله ولا يدري أحد فيها أين بالضبط، ينبغي التوقف، كان خطو الناس بطيئا إلا أن حركتهم بقيت منتظمة، وكانت المشاعر موزعة بين ما يشد الناس إلى القرية التي أرغموا على مغادرتها إرغاما وبين ما يدفعهم إلى الابتعاد عن الخطر. وبعد مسيرة لا أدري كم طالت، اتخذ أحدهم المبادرة، وتبعه الناس، فألقوا بأجسادهم وصررهم في حقل محصود حديثا، وتوزعوا على حلقات ضمت كل واحدة منها أعضاء الأسرة الواحدة أو الأسر العديدة المتقاربة، وانداحت في الجو أصداء تلك الأحاديث التي يفرضها هذا التعامل الأول مع المجهول. وجلست بجانب الجدة في الحلقة التي تتوسطها موزعاً الانتباه بين متابعة الأحاديث الدائرة وبين مراقبة العنزة التي احتفظ بمقودها في يدي كي لا تفلت مني، في هذا الجو المفعم بالغرابة والغموض، وجدتني غير راغب في شيء محدد. وقد افتقدت حتى الرغبة في التواصل مع الاقران أو العبث وإياهم. وراح حديث النساء في الحلقة يتركز حول مآسي القرى الأخرى.

وأخذت التفاصيل المحزنة تتوالى. تروي هذه النساء حكاية فتتبعها تلك بحكاية أخرى، وكلها حكايات متماثلة: الامل المضيع والأعزاء المفقودون والأرض التي ضاعت واستولى عليها هؤلاء الاغراب. وحين بدأت سيدة من مهاجري سلمة تعيد على مسامع المتحلقين ربما للمرة المئة، حكاية تهجير قريتها، أصغت النساء بانتباه شديد فكأنهن يسمعن هذه الحكاية للمرة الأولى.

والحقيقة أن الحكاية اكتسبت مغزى جديدا حين رويت وسط هذا العراء أمام الناس يدركون في قرارة أنفسهم أنهم بدأوا للتو مشوار التشرد على الطريق ذاته. والمدهش أنه ما من واحدة من المتحدثات تطرقت إلى المأساة الماثلة في هذا العراء أو تساءلت عما سيؤول إليه مصير قريتنا بالذات، فهل راودهن الأمل بأن القرية ستنجو وأن المدافعين عنها سيردون الغزاة، أو رأين أن المصير الأسود قد تقرر وانتهى الأمر؟

ويمضي الوقت، تمطى الحديث كما تمطت الأجساد، وخفتت الأصوات وضؤلت الحركة، واستسلم بعضهم للنوم فيما تحولت حوارات الاخرين إلى همس، وغفوت مع من غفا دون أن أفقد تماما الصلة بما حولي، ولا أدري كم مضى من الوقت حين حرك ضجيج المعركة المداهم من ناحية القرية الجميع، ولا أعرف ما الذي أخرجني من غفوتي: صوت الطلقات أم ارتعاشة العنزة التي أحتفظ بمقودها في يدي؟

كان الإحساس بخطر الرصاص الطائش هو أول ما حرك نزلاء الحقل العاري، فكان أن التجأ الجميع إلى الحقول المجاورة غير المحصودة وواروا أجسادهم بين عيدان الزرع، ثم أخذوا يتنصتون وكان من الممكن حقا متابعة مجرى المعركة من خلال الأصوات القادمة من ناحية القرية، إذ كان من السهل تمييز أصوات البنادق التي يستخدمها المجاهدون بطلقاتها المتفرقة ولعلعة البرن الوحيد، عن أصوات البنادق الاوتوماتيكية ومدافع الهاون التي يستخدمها المهاجمون، ثم انضافت الألوان إلى الأصوات لتدل على ألسنة اللهب بلونها الارجواني المتميز وهالات الدخان التي تجللها وتخالط أرجوانها باللون الرمادي، ثم ظهرت أولى الدلائل على نتيجة المعركة حين ظهر الخال محمد يوسف بصحبة عدد من الرجال قادمين من القرية، كان الخال بين الرجال الذين لا يملكون سلاحا ولكنهم آثروا رغم ذلك أن يبقوا مع المجاهدين، وها هو قد قدم ليبلغ إلى المحتمين بعيدان الزرع أن الوضع صعب وأن على الجميع أن يبتعدوا بمقدار ما يستطيعون خشية أن يطاردهم المهاجمون بعد أن يتمكنوا من احتلال القرية. كان واضحا من نبرة الخال ونبرات الرجال الذين جاؤوا معه أنهم أوفدوا إيفادا لهذه المهمة. وقد حدد هؤلاء الهدف: التوجه إلى دير الدبان.

هكذا بدأت رحلة الابتعاد عن مسقط الرأس.