السبت  21 كانون الأول 2024

مُضطهَدات الشعر والكتابة (1)

2023-06-11 12:24:48 PM
مُضطهَدات الشعر والكتابة (1)
تعبيرية

تدوين- فراس حج محمد

سأجلّي- هنا- أكثر بعضاً من الأفكار التي سبق وناقشتها مراراً في الكتب والمقالات ذات العلاقة. إذ بحثت سابقاً مسألة الكاتبات، والشاعرات منهنّ تحديداً في كتاب "بلاغة الصنعة الشعريّة" (الفصل الثالث: وهج المرأة الشاعرة). ما الجديد إذاً؟ هنا أريد أن أسلّط الضوء على معاناة الشاعرات في الكتابة، واضطهادهنّ من المقرّبين بسبب الشعر، واضطهاد النقّاد والقرّاء لهنّ، واضطهادهنّ لأنفسهنّ أيضاً، علماً أنّ هناك مضطهدات بسبب موضوع الكتابة، كما هو الحال مع مجموعة من الكاتبات الإيرانيّات اللواتي أضاء على طرَف من معاناتهنّ الكاتب اللبناني عبده وازن في مقالته التي حملت عنوان "شاعرات وروائيّات هاجرنَ هرباً من الخمينيّة"، فموضوع المقال تحدّي النظام السياسي بالكتابة، وليس الكتابة بحدّ ذاتها، كما أتوخّى أن أناقشه في هذه الوقفة.

وقبل أن يكتب الكاتب عبده وازن مقاله بسنوات، كانت قد تواصلت معي الشاعرة الإيرانيّة (ساناز داود زاده فر) صاحبة ديوان "أمشي على حروف ميّتة"، وترجمه إلى اللغة العربيّة الشاعر الفلسطيني محمّد حلمي الريشة، وصدر بطبعة محدودة عن بيت الشعر في فلسطين، كانت ساناز تعبّر عن حذرها في الحديث ضد النظام الإيراني، مع أنّها تكتب على صفحتها في الفيسبوك منتقدة النظام الإيراني، وقد كان هذا الموضوع أحد الأسئلة في حوار لاحق معها (2018)، إذ يسألها المحاور: "نراك في صفحتك على الفيسبوك تنتقدين بشدّة النّظام السياسيّ القائم في بلادك. فهل يمكن أن نستنتج من ذلك أنّ ثمّة اليوم في إيران جوّاً من حرّيّة التعبير؟" فأجابته الشاعرة: "الحرّيّة تنتزع انتزاعاً، لا ننتظر الحاكم ليعطينا صكوك براءة لما نكتب، وإيران بلد عريق في الثقافة، ولا يمكن حجب هذا عنه. والمتتبّع للثقافة الإيرانيّة اليوم يرى أنّها لم تخلُ من أيّ لون من ألوان الفنّ، ففيها الشعر والمسرح والسرد والسينما والتشكيل ومختلف الفنون."

وما يلاحظه المرء على الصور المرفقة بهذا الحوار يجد أنّ الشاعرة ترتدي الحجاب في بعضها، وأحياناً تظهر حاسرة الرأس، ما يؤشّر إلى هذه الحالة من القلق والالتزام القسري بما يفرضه النظام الإيراني على النساء داخل حدود الجمهوريّة الإسلاميّة من ارتداء الحجاب، هذه الحالة لا تقتصر على الشاعرة أو على مهسا أميني التي قتلتها شرطة الأخلاق في طهران لعدم التزامها بالحجاب، بل هناك العديد من النساء اللواتي يفعلن الشيء نفسه في إيران، وفي السعوديّة، وفي أفغانستان، وثمّة حوادث مشابهة متعلقة باللباس أيّام حكم عمر حسن البشير في السودان، بل شملت الملاحقة مراقبة صور النساء المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، ومحاكمتهنّ لنشرهنّ تلك الصور، استناداً إلى فتاوى شرعية لبعض فقهاء الشريعة.

على أيّة حال، وبعيداً عن حالة الكاتبات الإيرانيّات، فإنّ هذه الفكرة نشأت في الأساس قبل سنتين خلال حوار طويل بيني وبين الشاعرة والروائيّة السوريّة المقيمة في أمريكا هند زيتوني من أجل أن نكتب شيئاً حول المرأة بمناسبة يوم المرأة العالمي، فاهتدينا سوياً إلى "مجموعة الكاتبات اللواتي اضطهدن بسبب الكتابة"، وقد أمدّتني بأمثلة محدّدة لمن اضطهدن بسبب الشعر تحديداً.

في واقع الأمر، لم يسلم من الاضطهاد بعض الشعراء الكبار في العصر الحديث لظروف سياسية واجتماعية ودينية، لكنّني سأكتفي هنا بالحديث عن الشاعرات. علماً أنّ بعض الكتّاب والكاتبات- من غير الشعراء والشاعرات- قد تعرضوا وتعرضنَ لمثل هذه المآزق الحياتيّة بسبب الكتابة، فخلال حوار مع الكاتبة سما حسن، وهي قاصّة وكاتبة مقال تعيش في قطاع غزّة، تبيّن أنّ اسمها الحقيقي هو ميسون عبد الرحيم أبو العمرين حمّودة، وحمّودة هي عائلة زوجها قبل أن ينفصلا، فقد اضطرّت إلى النشر تحت اسم مستعار خوفاً من محيطها الاجتماعي الذي كان على استعداد لتجريمها واتّهامها بتهم شتّى قد تصل إلى قتلها لو أنّ أحدهم كان على علم أنّ "ميسون عبد الرحيم" كاتبة وصحفيّة. وقد حدّثتني كيف تخلّق اسمها المستعار، وظروف نشأته، واستمرارها لاحقاً لتنشر به كتبها ومقالاتها، ولم تعد- بعد أن تحسنت ظروفها الاجتماعيّة- إلى اسمها الحقيقي، وبقيت تُعرف في الأوساط الثقافيّة والصحفيّة بالكاتبة "سما حسن"، وتعرّف نفسها به.

المرأة عموماً مضطهدة كاتبة أو غير كاتبة، عندنا نحن الشرقيّون وعندهم هم الغربيّون، لا فرق بيننا وبينهم إلّا في إثارة المسائل وتسييسها وتوظيفها لغير صالح الشرقيّين، جاء في كتاب "إدورد سعيد... أماكن الفكر" أنّه "لم تحصل أيّ امرأة في مجمع عظمائه (الفن) على مرتبة تعادل مرتبة فيكو"، ويبيّن الكتاب أنّ صورة المرأة الكلاسيكيّة قد أُطّرت ضمن صورتين "في التراث الغربي الكلاسيكي" الموسيقي الذي وصفه بأنّه "يثير الأعصاب"، "حيث صُوّرت النساء إمّا بصورة المُلهِمة، المُعينة، المساعدة، المحبّة، الأدنى مرتبة، لموسيقار شهير، أو الساحرة التي تجمع الغواية والدمار".

لم تحصل أيّ امرأة في مجمع عظمائه (الفن) على مرتبة تعادل مرتبة فيكو

يبدو أحياناً- كما تشير بعض الدراسات التي توفّرت لديّ- أنّ اضطهاد المرأة عند الغربيّين يعود كذلك إلى أسباب ثقافيّة وجندرية؛ كما هو حادث عندنا. إلّا أنّ اضطهاد المرأة في الغرب موقوف عليه بصرامة، وبشدّة القانون الرادع، على عكس ممّا هو عندنا، فيسخّر القانون أحيانا- وبطريقة فجّة- لغير مصلحة المرأة، وعندنا نماذج كثيرة للأسف، بل إنّ كثيراً من الحالات التي تضطهد فيها المرأة لم ينصفها القانون في الأعمّ الأغلب، فتتحمّل وزر من جنى عليها، فهي القتيلة القاتلة، وتستحقّ أن تكون ضحيّة، ما يجعل القانون نفسه موضع شكّ وعدم ثقة، وصولاً إلى القاضي وضميره الذي لا يؤنّبه؛ لأنّه مستند إلى تاريخ طويل يعطيه حصانة ضد هذا النوع من المساءلة الأخلاقيّة.

ويندرج في عموم هذا المفهوم من اضطهاد المرأة لدى الشرقيين والغربيين على السواء، ما تتعرض له المرأة من تحرّش في العمل أو في الشارع، ففي تقرير مصور منشور على صفحة "يومياتي" الفيسبوكية المخصصة برصد "يوميات المرأة العربية العصرية" يظهر تقرير تحت عنوان "نجمات تعرضن للتحرش من قبل أصحاب المهنة... من المنتجين إلى المغنيين" ما عانته مجموعة من الفنانات وعارضات أزياء ومغنيات، عربيات وغير عربيات، من تحرش زملاء بهنّ، ما دفع بعضهن إلى ترك المهنة أو رفع دعاوٍ قضائية ضد هؤلاء المتحرشين، وبعضهن تعرضن للتهديد والطرد من العمل لأنهن رفضن الاستجابة لهؤلاء المتنفذين كالإعلامية أميرة الجابر التي رفضت أن تكون عشيقة لمدير القناة التي عملت فيها ما أدى إلى طردها من القناة وإيقاف برنامجها، ومثل هذه الحالات من التحرش تحدث في المجال الثقافي. وسبق أن رصدت بعض الحالات وتحدثت عنها في مقالات سابقة.

اضطهاد المرأة لدى الشرقيين والغربيين على السواء، ما تتعرض له المرأة من تحرّش في العمل أو في الشارع

إن هذا النوع من الاضطهاد يحمل في طياته كثيرا من الاستعلاء، والاستهانة بالمرأة، وجعلها ضحية محتملة طوال الوقت، عدا أنه ذو نتائج كارثية، فتحرم المرأة من التقدم في عملها، لأنها لم تقدم للمسؤول جسدها، ما يوفر فرصا للتقدم لنساء أخريات استطعن بمؤهلات متواضعة الوصول إلى مراتب عليا، أو الشهرة، أو الحصول على الجوائز، أو نحو ذلك من فرص ثقافية متعلقة بالنشر أو بالترجمة.

وعلى العموم يحمل الرجال عن النساء صورة نمطيّة تلخّصها الكاتبة حنان لاشين بقولها على لسان أحد شخصيّاتها الذكوريّة في رواية أمانوس: "المرأة أدنى من الرجل واستعبادها من قوانين الطبيعة. البقاء للأقوى والأصلح. هنّ أقلّ تطوراً منّا. إنّهن غبيّات، لا يقدرن على فعل شيء وحدهنّ. يبكين لأتفه سبب. ضعيفات حقيرات، لذا فاستعبادهنّ منطقي". وهذا ما عبّرت عنه أيضاً الكاتبة اللبنانيّة نسرين النقوزي في منشور لها على الفيسبوك، فكتبت: "الكاتب العربي لديه مشكلة بالاعتراف أنّ امرأة تكتب أفضل منه أو أنّها فعلاً كاتبة مبدعة وخلّاقة، ويسعى بكلّ الطرق إلى تهميشها. وإنْ مدح فيها يمدح بخبثٍ بينه وبينها، وإنْ كتب عنها يُشعرها أنّه خدمها خدمة العمر، وكأنّه الأعلى شأناً والأكثر ذكاءً". والأمر نفسه أكّدته الشاعرة السودانيّة إسراء رفعت التي رأت أنّ ثمّة من "يحاول أن يُصادِر منها، ومن النساء عامّة، القدرة على نظم الشعر أصلاً. يقولون إنّ ما تكتبه النساء ليس شعراً بل خواطر".

عدا أنّ الاضطهاد الشرقي للمرأة منوّع ومتعدّد وكثيف، ويحدُث يوميّاً بتسلُّط واضح، وتحت ذرائع ثقافيّة ودينيّة واجتماعيّة وغرائزيّة، ولخّصت الباحثة السوريّة ميّة الرحبي تلك المحنة في كتابها "النسويّة مفاهيم وقضايا" بقولها: "إنّ الثقافة السائدة في المجتمعات العربيّة هي نتاج إرث تاريخي صنّف المرأة عبر قرون عديدة في مرتبة إنسانيّة أدنى من الرجل، وحوّلها إلى شيء من ممتلكاته، وقصر وظيفتها على الإنجاب وإمتاع الرجل ما ألغى عن المرأة صفتها كإنسان عاقل مفكّر مبدع، حتّى ترسّخت في ذهنها واعتقادها هي نفسها مرتبتها الدنيا، وذلك ما أباح للرجل التعامل مع المرأة بالطريقة التي يشاء وممارسة الأشكال التي يشاؤها من العنف عليها، عنفاً قد يصل إلى حدود القتل".

الاضطهاد الشرقي للمرأة منوّع ومتعدّد وكثيف، ويحدُث يوميّاً بتسلُّط واضح، وتحت ذرائع ثقافيّة ودينيّة واجتماعيّة وغرائزيّة

أمّا في الغرب فالأمر مختلف تماماً، فاضطهادها هناك ربّما اقتصر على النواحي الغريزيّة أو بعض القضايا الدينيّة. علماً أنّ المرأة الغربيّة قد مرّت بظروف اضطهاد أكبر من ذلك، كما عبّرت الشاعرة سليفيا بلاث في يوميّاتها قائلة: "أن أكون قد ولدت امرأة، فتلك مأساتي المروّعة". هل ذهب ذلك الزمن، ولم يبق منه شيء؟ وهل ثمّة اختلاف في النظرة بين زمن بلاث والزمن الحالي؟ لا جواب قاطع لديّ، ولكن من أراد أن يستزيد ليعرف عن وضع المرأة في تلك الأثناء، فليقرأ مثلاً ما كتبته فرجيينا وولف في كتابها "غرفة تخصّ المرء وحده" ليطلّع على مأساة كون الإنسان امرأة في تلك الحقبة، أو بعد ذلك بعقود وما كتبته الممثّلة مارلين مونرو في سيرتها التي بعنوان "قصّتي".

لا يبدو الحديث السابق في هذا السياق شاذّا أو مربكاً، فعندما يتمّ ربط النشاط النسوي الفردي والجماعي عندنا نحن الشرقيّين بمسائل غريزيّة وثقافيّة واجتماعيّة ودينيّة سيبدو حينئذٍ أنّه لا غرابة في ذلك على ما سيأتي لاحقاً. ولكي تتّضح المسألة أكثر، أريد أن أضيء على بعض الجوانب التي لها علاقة بكتابة المرأة للشعر، فالكتابة الشعريّة من حيث هي كتابة تفتح شهيّة العنف الجنسي لدى الرجل، إذ لا يفكّر الرجال بالمرأة عموماً إلّا ضمن منطقة النفوذ الأيروسي القاتل، وجسّد هذه النظرة بكلّ ما تعنيه من دلالة قول الشاعر:

ما للنساء وللكتا            بة والعمالة والخطابةْ

هذا لنا ولهنّ مِنْـ            نا أن يَبِتْنَ على جنابةْ

فالكتابة، بما فيها الكتابة الشعريّة، والعمل والخطابة للرجال، وما للنساء سوى المضاجعة لا غير، عدا أنّ ثمّة ربطاً خفيّاً بين فعل الكتابة وفعل المضاجعة، إذ هما فقط من فعل الرجال، لقد كان لهذه النظرة التراثيّة للشعر وصورة الشعراء دخلاً في تشكّل هذه الصورة وترسيخها، فالشاعر العربي فحل، والفحولة ذات بعد جنسيّ عنيف، والكتابة الشعريّة هي افتراع بكارة متخيّلة كما قال أبو تمّام في بيته المشهور: 

والشعر فرج ليست خصيصته              طول الليالي إلّا لمفترعه

وعند تطبيق هذين الأساسين على كتابة المرأة الشعريّة ستصبح المرأة شبقة بمقابل الفحل، وكتابتها تسهيل وتوطئة لعمليّة الفضّ الأوّل لبكارتها في حالة كونها عذراء أو تمهيد طبيعي للوطء المتكرّر. أو ستضطرّ الشاعرة إلى أن تصبح مسترجلة، وتتصرّف برجوليّة لتحمي نفسها من هذا القالب المميت نفسيّاً أوّلاً، واجتماعيّاً ثانياً، وثقافيّاً ثالثاً. 

لقد سبق أنْ طرح هذه الثنائيّة الناقد الثقافي د. عبد الله الغذّامي واختلاف تطبيق المعايير الشعريّة في الكتابة على كلّ من الشاعر والشاعرة، لكن دون أن يذهب إلى الوطء الأوّل أو المتكرّر، لكنّه ربّما فُهم ضمنيّاً من طبيعة السياق الثقافي الكلّي الذي تتحكّم في آليات تفكيره منهجيّات الفحولة.

وفي الموقف الآتي بعض دلالة لما أقول: "حُكي أنّ طائفة من بني تميم كانوا يكسرون أوّل الفعل فمرّت فتاة منهم جميلة الصورة على جماعة فناداها شخص منهم، وأراد أن يوقعها فيما ينسب إليهم من كسر الفعل فقال: لأيّ شيء يا بني تميم ما تكتنون فقالت: ولم لا نِكْتني؟ وكسرت الفعل فضحك عليها، وقال: أفعل إن شاء الله، فخجلت من قوله وتغيّر وجهها وأرادت أن توقعه كما أوقعها فقالت له هل تحسن شيئاً من العروض؟ قال: نعم. قالت قطّع لي: (حوّلوا عنّا كنيستكم ... يا بني حمّالة الحطبِ). فقطّعه، فوقف على "عن"، ثم ابتدأ بالنون والألف مع بقية الحروف (ناكني)، فضحكت عليه، وأضحكت أصحابه فقال: ويحك لم تبرحي حتّى أخذت ثأرك".

لقد تصرّفت هذه التميميّة بمنطق ذكوريّ بحت، عندما كانت مضطرّة لفعل هذا، هذا التصرّف هو نفسه الذي دفع الشاعرة الإغريقيّة "سافو" أنْ تتصرّف كرجل وتمارس السحاق، فاعلة وغير مفعولاً بها. إنّما كانت تستلذّ بأنْ تفعل بوصيفاتها ما يفعله الرجل بالمرأة، لقد مارست فحولة متحوّلة كونها أُخضعت تحت شرط هذا التحوّل لتصبح شاعرة مهيبة الجانب. وأظنّ أنّ الخنساء وولّادة بنت المستكفي عبّرتا عن هذا المأزق بأشعارهما، كلّ منهما على طريقتها في الكتابة. 

قد يرى الدارس في هذه التصرّفات شيئاً من الاضطهاد على الوجه التي ظهرت فيه في كتب التراث، إذ تدفع الحالة العامّة الثقافيّة المرأة الكاتبة إلى الذوبان في هذا النسق دون أن يكون لها شخصيّتها المميّزة ككاتبة؛ فكيف يمكن للدارس أن يفسّر قول ولّادة بنت المستكفي مثلاً: "أمكّن عاشقي من صحن خدّي، وأعطي قبلتي من يشتهيها؟" إلّا أنّها محاولة من الشاعرة لإثبات الذات في المحيط الذي تعيش فيه، بتحدّيه لتكسر تلك الفوبيا الجنسيّة التي يتمّ توظيفها أو التعبير عنها بالتقبيل والضمّ والمضاجعة. إنّها تريد- في الغالب- تجريد هذا الفعل من خصوصيّته الحاملة لمعنى السيطرة والأذى، فتجعله مشاعاً لمن أراده، وفي بذله بهذه الصورة ابتذال له؛ بمعنى تفريغه من محتواه الجنسي الذي يحمل توجّها نحو الاضطهاد والسيطرة، وبالتالي يفقد رمزيّته في السيطرة والإذلال، ويصبح مجرّد فعل "رغبوي" تتحكّم به المرأة ذاتها، وهي من تمنحه، لا يؤخذ منها غصباً عنها، عنوة، أو بسبب الخضوع للمنطق الثقافي العامّ السائد في المجتمع.

وهذا المنطق الغائر في اللاوعي هو ما شهدته الثقافة العربيّة في المؤلّفات الأولى التي تناولت موضوع الكتابة، فقد ورد في كتاب "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" للقلقشندي أنّ "الذكورة" شرط من شروط الكتابة الديوانيّة، فقال: "صرّح أصحابنا الشافعيّة بأنّه يشترط في كاتب القاضي أن يكون ذكراً ففي كاتب السلطان أولى". ثم أخذ القلقشندي يعمّم المسألة على كلّ كتابة نسويّة، مورداً أقوالاً منسوبة لعمر بن الخطاب ولعليّ بن أبي طالب- رضي الله عنهما- تنهى عن تعلّم النساء الكتابة، مشبّهاً ذلك- كما ينقل عن "بعض الحكماء"- أنّ تعلّم المرأة الكتابة كأنّها "أفعى تسقى سُمّاً".

ثمّ ما كان من الفقيه البغدادي نعمان بن أبي الثناء الألوسي الذي ألّف كتابه "الإصابة في منع النساء من الكتابة"، وممّا جاء في الكتاب: "فأمّا تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله منه، إذ لا أرى شيئاً أضرّ منه بهنّ؛ فإنّهنّ لما كنّ مجبولات على الغدر، كان حصولهنّ على الملكة من أعظم وسائل الشرّ والفساد". 

ومع أنّ هناك من ردّ على الألوسي ودعواه الباطلة إلّا أنّ ما توصل إليه عبد الرحمن الحميدي الشامي صاحب كتاب "الإملاء في استحباب التعلّم والكتابة للنساء"، محكوم بمنطق الترجيح الفقهي، لا على اليقين والقطع، مشيراً في ثنايا بحثه إلى أنّ منع المرأة من الكتابة وجه من وجوه الاضطهاد، والتمييز بينها وبين الرجل، فيرى المؤلف في منع النساء من الكتابة "مخالفة للعقل والفكر، ومحاربة للعلم والمعرفة، وهضماً لحقّ النساء، وظلماً لهنّ وإيذاء، وتحقيراً لهنّ".

أعتقد أنّ في قول الألوسي- ومن يؤيّدون وجهة نظره من الفقهاء والأئمة- الكثير من التجنّي على المرأة، أوّلاً كونها امرأة وما ينسبه لها من طبع الغدر الذي يرى أنّه متأصّل فيها، ثم كونها قارئة، وكاتبة، وشاعرة بطبيعة الحال، وأظنّ أيضاً أنّ هذا ما يفكر به كثير من الرجال، فبعضهم يصاب بالجنون لو انشغلت عنه امرأته لبعض الوقت بالكتابة، لكنّه يرضى بانشغالها بأمور تافهة وهامشيّة لساعات طويلة. 

إنّ الناظر في حركة التأليف العربيّة ومن أرّخ لها، سيكتشف أنّ المرأة العربيّة كانت غائبة كليّاً عن هذا النشاط العقلي الممنهج، ففي مراجعة لكتاب "الفهرست" لابن النديم لم يذكر من بين المؤلّفين سوى آمنة بنت الوليد أوردها في الكتاب كما أورد المؤلّفين الآخرين، لكنّه كتب عنها جملة واحدة واصفاً إيّاها بقوله "شاعرة مقلّة"، ولم يذكر لها- كما ذكر للشعراء الآخرين- أنّ لها ديواناً مجموعاً أو أنّ لها أوراقاً بعدد معيّن، كما فعل مع الشاعرين عليّ بن زريق ودعبل الخزاعي المثبتين معها في الصفحة نفسها. 

إنّ الناظر في حركة التأليف العربيّة ومن أرّخ لها، سيكتشف أنّ المرأة العربيّة كانت غائبة كليّاً عن هذا النشاط العقلي الممنهج

وفي كتاب "تاريخ النساء الذي لم يكتب بعد" تضيء الباحثة الجزائريّة فيروز رشّام جانباً من الاضطهاد المتعلّق بالمرأة وعلاقتها بالكتابة، فتقول: "إنّ الثقافة العربيّة تواطأت بشكل ما على تغطية قدرات المرأة الفكريّة والعقليّة، فغياب النساء عن الكتابة لزمن طويل لا يعني أنّهنّ غير قادرات على الخوض في مجال الكتابة أو غير متمكّنات منها، تمّ إبعادهنّ عنها بأشكال مختلفة، مبيّنة أنّ الكتابة بالنسبة للمرأة ليست مجرّد هواية أو تسلية إنّما هي موقف وانتفاض على مفهوم العقل الناقص، بل وثورة على الوأد المستمرّ بأشكال جديدة، خاصّة بعد اكتشافهنّ للصورة المهينة التي نقلها الرجال عنهنّ من خلال كتاباتهم، وكذلك للحقائق التي زوّروها بخصوصهنّ". 

إنّ الثقافة العربيّة تواطأت بشكل ما على تغطية قدرات المرأة الفكريّة والعقليّة، فغياب النساء عن الكتابة لزمن طويل لا يعني أنّهنّ غير قادرات على الخوض في مجال الكتابة أو غير متمكّنات منها، تمّ إبعادهنّ عنها بأشكال مختلفة

ثمّة سرّ غامض في المسألة لا أدري كيف يمكن أن يفسّره الباحث على وجهه الأقرب إلى الصحّة والمعقوليّة، فلا يعود إلى هذا الربط غير المنطقي- على ما يبدو- بين الكتابة والفعل الجنسي فقط، كما أشرت سابقاً، هذا الإحساس التي تحسّ به الكاتبة أحياناً، وعبّرت عنه الشاعرة اللبنانيّة ماري جليل كأنّه رجع نسائيّ لبيت أبي تمّام الوارد أعلاه، إذ تقول: "كنت دائماً أشبّه فعل الكتابة وعمليّة الخلق الإبداعيٍ بالفعل الجنسيّ، بتلك الشهوة المتصاعدة للفكرة حتّى وصولها إلى الذروة في نشوتها في المتخيّل، فيقذفها العقل كلماتٍ يرتعش جسدها عند ملامسة الورق فتولدُ القصيدة"، ولم تنكر كثير من الصديقات الكاتبات هذا الإحساس، وهنّ يندمجن في الكتابة، عندما كنت أناقشهنّ على خلفية كتابتي إحدى الرسائل، وكانت بعنوان "أنا أكتبكِ، إذنْ أنا أمارس الحبّ معكِ".

لعلّ المسألة غير محصورة بهذا المعنى وحسب، بل أشارت إلى ما هو أكثر عمقاً، فربّما أشارت إلى نوع من التحرّر والانفلات من القيود التي تقيّد المرأة، فالكتابة- عموماً- تمنح المرأة نوعاً من الحرّيّة وهي تبني وحدها عالماً من اللغة، وهذه المساحة من الحرّيّة- وإن كانت مساحة موهومة- قد تهدّد سيطرة الرجل وتحكّمه، بل إنّ الكتابة عند الكاتبة السوريّة مها حسن لها مفعول أكبر من الشعور بالحرّيّة، إنّها -كما تقول في تدوينة لها على تويتر-: "أعظم الأشياء التي حصلت في حياتي كانت بسبب الكتابة. أهمّها على الإطلاق، أنّني صُنعت كما أردتُ، ولا أزال أتابع صناعة، هذا الكائن الذي هو أنا. هذا الكائن الذي يقف معي ويسندني ويطوّرني ويجعل الحياة ملوّنة ومبهجة، حيث أحوّل الحزن والألم إلى إكسسوارات تقلب المشهد، من أسود وأبيض إلى ملوّن بديع".

هذا النفَس التراثي- الموضّح أعلاه- في التعامل مع المرأة أو الشاعرة ممتدّ في الزمن الحالي، وإلى أن يشاء الله، فالعقليّة هي هيَ لم يؤثّر فيها شرق ولا غرب، ونشهده في رؤية الوسط الثقافي للشاعرة، فهي دائماً، بالنسبة للرجل، متعة سرير عابر، ولا يرونها أكثر من هذا، كتجلٍّ آخر ذكوريّ التفسير من تجلّيات البيت الشعري السابق، وهذا ما دفع إسراء رفعت إلى القول: "الطريق طويلةٌ وملتويةٌ لتُفهم قصيدة المرأة قصيدةً إنسانيّةً مجرّدة، من دون جموح الظنون ورَمي التهم، ومن دون النظر إلى انحناءات الجسد ومن ثمّ عدّها ضمن عناصر تقييم القصيدة، ومن دون الوصم والحكم عليها".

وهذه النظرة لا تتحمّلها المرأة بطبيعة الحال، فثمّة شاعرات لا يعنيهنّ هذا المنطق كلّه، وأخريات على النقيض من ذلك يوظّفن نهودهنّ وما حولها علواً وسفلاً، وأماماً وخلفاً من أجل أن تلقّب الواحدة منهنّ- ولو كذباً- شاعرة كبيرة، حائزة للجوائز والسهرات والصداقات المشبوهة مع "الشعراء الكبار"، كما يحلو لهنّ تسميتهم، والأمثلة كثيرة وتكاد تكون معروفة ومتداولة في الأوساط الثقافيّة، إضافة إلى أنّ بعضهنّ لا تتورّع عن التصريح بأنّها لا تتردّد في تقديم جسدها من أجل الحصول على مكسب ثقافيّ ما، فهي "قادرة على إخضاع أكبر الشعراء مقابل ساعة واحدة، أو ليلة واحدة على الأكثر". إنّها تُخضع جسدها ليكون مؤهِلّاً من مؤهّلات الشعريّة النسائيّة الحديثة، قد يُغني أحياناً عن شعريّة حقيقيّة، ويحلّ محلّها.

دفعت هذه الحالة الشاعرة والباحثة المغربيّة فاطمة بوهركة لأن تكتب منشوراً قصيراً على صفحتها الفيسبوكيّة؛ دالّا بجرأة صريحة، مرفقة هذا المنشور بصورة تعبيريّة؛ امرأة شابّة جميلة في وضع مغرٍ ممدّدة على طاولة في حانة خمر: "بعض عاهرات الأدب يظهرن فجأة بشكل قويّ ومفاجئ دون تاريخ يذكر، يشبهن في ذلك الطحالب العالية جدّاً بلا جذور، يتكلّف بإظهارهنّ في الساحة الوطنيّة رجال السكر والعهر والعربدة، وبعد أن يشبعوا منهنّ يسلمونهنّ بكلّ أمانةٍ وإتقان لأمثالهم في دول أخرى؛ لتصبح هؤلاء (الأديبات) الأشهر في المجال دون تعب يُذكر. مبارك لك أيّها الأدب العربي بمثل هذه العيّنات، وبمثل هؤلاء اللقطاء الذين يتحكّمون ويسيّرون مجالك في الحانات وأسرّة النوم بشكل مقرف ومقزّز".

هذا الاضطهاد بشكليه؛ الطوعي من المرأة، والإجباري من الرجل، هو بلا شكّ أسوأ أنواع الاضطهاد الثقافي، فالمرأة عندما تضطرّ إلى مثل هذا من أجل أسباب ثقافيّة تكون ضحيّة في الحالتين، وهذا مؤلم جدّاً، فترسيخ هذه الصورة للشاعرة يحمل قدراً كبيراً من "الميسوجينيّة" المغلّفة بالمتعة والشهوانيّة، وهي- في الحقيقة- نوع من الحرب غير المبرّرة على المرأة، حربٌ مفخّخة بالانتقام الكامل والنهائيّ، ولا تقبل فكرة التصالح أو التعايش، وستكون لها آثار مدمّرة على الحركة الثقافيّة بمجملها. 

(يتبع....)