تدوين-سعيد بوخليط
الحياة لحظة طفولة عالقة دائما بين تلابيب الزمان، يحيا الإنسان فقط ذاكرة طفولته، رغم كل ما يحدث. حقيقتنا الجوهرية، الساكنة بقوة ناعمة أعماقنا، تحيل أولا وأخيرا، على تجربة الطفولة بخيرها وشرها.
نحن أطفال، مهما بلغ صنيع الزمان بجغرافية أعمارنا، تحافظ الحياة على جدواها. الطفولة حلم بالحياة، تصير الأخيرة واقعا ملموسا. تلامس، كياننا جملة وتفصيلا.
الطفولة ياقوت القلب، قوت الوجدان، فتوة العقل، سراج السريرة، نبراس السؤال، سؤال الأسئلة، زينة الروح، روح الحياة، حياة كلها حياة، محض حياة.
الحياة قلب وروح، سؤال لا ينتهي. غير ذلك، تغدو وباء فتاكا يستنزف صاحبه موتا؛ دون أن يموت.
أجمل البشر وأعظمهم، من استطاعوا المحافظة على طفولة دواخلهم، من ثمة صفائها وشفافيتها. أفضل أنواع الحياة، حياة لا تكف عن الاستناد إلى ينبوع شعلة الطفولة. صدق الطفل، ماهية الحياة.
عندما يتوارى حسّ طفولتنا، نتكلَّس، نتصلب، نتجمد، نتلاشى، نأخذ جوهر هياكل مخيفة تكتسح الحياة بلا حياة. غربان ناعقة، نتفَّنس الزيف، نرتشف اللامبالاة، نقتات الكذب، نتجرع الخواء.
حياةٌ طفلةٌ، طفولة للحياة، حياة طفولية، يعني في المقام الأول حصانة عدم التحول إلى صيغة مشوهة عن نسخة شائخة بلا روح ولاهوية ولا أيِّ شيء، فقط كتلة نمطية اكتملت امتدادات ضجرها. يسير مفتقِدُ كنه الطفولة صوب هاوية حيث يتهاوى، يتلاشى، ثم ينعدم مجانا.
الحياة نزوع طفولي بكل عنفوانه. نولد، نتفتَّق، ننبجس، نتطلَّع، نتلمس أولى دروب ما سنكون عليه. قد لا نعلم. قد نعلم حقا. قد نعلم ولا نعلم أننا نعلم. قد نعلم ونتقنَّع. قد نتقنَّع ونضيِّع كل سبل المعنى، ثم ينتهي العرض المسرحي البئيس حتى قبل أن يبدأ.
تنطوي الطفولة على أسباب حياة خالصة: الدهشة، الحلم، الرغبة، الشغف، الجسارة الخلاقة. حينما نتفرَّس جيدا هذه السمات، نلاحظ بأنها عين مميزات الطفل وبامتياز، بالتالي، هو مبدع الحياة وملهم تفاصيلها وكذا معالمها. فلا حياة بدون مكمن راسخ، يتسلَّل منه وعبره، طفل حالم بدهشة خارقة، يرغب حدَّ اللانهائي ويجرؤ ببراءة.
أفق تتشكل معه الحياة تبعا لوجهتها القابلة للحياة، تتحمل نفسها ويستسيغها الآخرون إلى حد ما.
نتحمَّل الحياة، ما دمنا نستعيد يوميا بحنوٍّ لذيذ وقائع طفولتنا الأولى، تصاحبنا هواجسها المشرقة، نحلم معها كل صبيحة بحياة جديدة، نحس كأننا نولد دائما، تبدأ الحياة مختلفة. تنقلب آية الزمان، يصبح الواقع أو القائم سرابا، بينما الحلم واقعا.
نتخيَّل بطفولتنا حياة مطلقة، نحياها تماما بلا أزمنة، فقط نوستالجيا / ترياق غير منقضية، دائمة الانسياب، تتسامى على الزمان، تطوي وحدة مكان الأمكنة، ذاك المكان الشاعري الخالد، القابع بين ثنايا ذاكرة الشخص، لا ينساه أبدا، يظل مستوطنا وجدانه على امتداد حياته، ذاكرة أبدية، ذات طبيعة متوارية تحت الاختفاء. لكنها تمثل حقيقة النواة والمنطلق والعودة.
أكبر دليل على أنَّ الإنسان حلم طفولي، وجوهر الحياة طفولة متجددة، يحيلنا بالضرورة على ترسخ زمن الطفولة، بكيفية غير قابلة للمحو. زمن يعود دائما كي لا ينقضي، يحضر في الحزن كما الأفراح.
الطفولة هي الإحالة الأبدية، الحنين/ المتنفَّس، نَفَسُ الأنفاس، نستحضر طفولتنا حينما نمرح، مثلما لحظات الوجع والمكابدة، باستمرار تشكِّل سندا رفيعا يستحيل الاستغناء عنه. أيضا، كلما تقدم عمر الإنسان، واقتربت نهايته، تدافعت هواجسه أكثر فأكثر نحو أجواء تلك الطفولة البعيدة. يتذكر بكيفية مختلفة، أباه، أمه، إخوته، جيرانه، أصدقاءه، أيام المدرسة الأولى، دروب الحيِّ، إلخ. يستعيد تاريخا مثلما أراده.
جوهر الحياة طفولة، ماهية الإنسان أن يظل طفلا، يطوي داخله، قلبا فتيّا ينعم بالحياة، ينبض رِقَّة ونعومة، يريد صاحبه أن يكون حيث ينبغي له أن يكون.
إذن مهما طال عمر الإنسان، وازداد بعده كثيرا عن بدايات مراحل حياته، ثم تعددت الأزمنة وتباينت سياقات السنوات والأحقاب، سادت الطفولة مختلف سياقات ذلك، كي ترسي وجودا مُعينا لا يتعب ومَعين لا ينضب.
نستمر أحياء، نمارس الحياة بشغف، إن حافظنا على روحنا الطفولية، نقية، صافية، شفافة، لا تشوبها شائبة الشيخوخة. الأخيرة معناها: التقنُّع، المسخ، الترهل، الزيف، الاستكانة، المداهنة، المراوغة، التخاذل، الانبطاح، التأجيل، هي الموت بمختلف تفاصيلها.
أهم معيار لقياس مرور الإنسان من مشهد هذه الحياة، يكمن في أثره المتبقِّي بعد رحيله، معطى يرتبط مفصليا بعطائه.
العطاء روحه طفولية، لا تشيخ، فتوة دائمة الترنُّح. إذا خمد أو انطفأ، يصبح الإنسان محض جثة هامدة يجترُّ حياته بإيقاع أنفاس الأموات.
كلما استمرت الطفولة توطدت الحياة. تكبر طفولتنا، تشع حياتنا.عندما تبلغ الطفولة ماهيتها الأصلية، أي تخلصها من كل أبعاد الزمان، تُختزل إلى زمن وحيد للحياة.
تبدأ الحياة مع زمن الطفولة ثم تنتهي عنده. لذلك، أن تكون إنسانا حقيقيا، يعني استمراركَ طفلا سرمديا، تحلم ما بقيت الحياة، بحياة لا تنقضي ولا تنتهي.