السبت  21 كانون الأول 2024

نص لماجد أبو شرار من مجموعته القصصية الخبز المر

2023-06-22 11:57:45 AM
نص لماجد أبو شرار من مجموعته القصصية الخبز المر

تدوين-نصوص

برازق

إن كنت من سكان الحي المتواضع الذي يقع عند آخر منحدر تصل إليه المدينة، فلا شك أنك تعرف "بكر" بائع البرازق، حيث تراه دوما بقامته الطويلة، هذه القامة التي تبدو دوما في إطار مشوش، سروال بني كالح يمسك بخصره النحيل وتلتصق بمؤخرته قطعة قماش خضراء خيطت به بقصد إطالة عمره، يكمل تشويش هذا الإطار قميصه ذو الألوان المتعددة المتنافرة، لا حذاء هناك، وما حاجته به وقد اكتست قدماه بطبقة جلدية سميكة لا حيلة لقطع الزجاج والأحجار المسننة ولا حتى المسامير معها، ولكن كل هذا قد لا تلحظه منذ الوهلة الأولى، ستلاحظ ولا شك الصينية المستطيلة التي رصت عليها أقراص البرازق الصفراء المسمسمة على شكل هرمين كل يقابل الآخر ثم صوته القوي الحلو المغناج... "برا...ز...ق" ونوادره الحلوة التي يتحف بها كل من يمر فيثير موجة من الضحك تواكبه أينما توجه، وأخيرا يستقر به المقام أمام صالون الحلاقة المتواضع فيضع ركوة من الخشب ذات أرجل ثلاث على الأرض، ثم ينزل الصينية من على رأسه لتقبع الركوة ثم يعود إلى مط صوته من جديد وبحيوية أكثر"

يالله يا ولد... برازق.. برازق بكر يا ولد.

يتجمع الصبية من حوله، وتمتد الأيدي الصغيرة بقطع النقد الصفراء، كل خمسة فلسات لها قرص ونكتة صغيرة حلوة.

كان يطيب لس أن أمر كل يوم ببكر أثناء عودتي من المدرسة ظهراً فيقابلني بلهجة حلوة:

برازق بكر يا أستاذ.

ويناولني قرص الحلوى الهش المسمسم وأنقده ثمنه فيردف بكر قائلا:

اسمع أحدث نكتة يا أستاذ... واحد حرامي دخل بيت ... ويكمل النكتة.. وجميعها حلوة مستساغة.

في كل مساء وأنا عائد إلى البيت كنت لا أجده في أغلب الأحيان فأعرف أنه قد باع جميع أقراصه، فأتصوره سعيدا هانئا يجلس مع زوجته يطعمها الأقراص التي كسرت فلم تعد صالحة للبيع، ثم يروي لها كل النوادر التي رواها في ذلك اليوم لزبائنه.

افتقدته يوما فما رأيته حيث تعودت أن أراه ودام غيابه أربعة أيام ثم عاد ليستقبلني الاستقبال الحافل المعهود.

قلت له:

طالت غيبتك يا بكر.. قلقت عليك؟

فيغمز بعينه ويقول والسعادة تكاد تقفز من عينيه:

عقبال عندك يا أستاذ، لقد اصطحبت زوجتي إلى القرية لتضع قرب والدتها.. تصور يا أستاذ بكر سيصبح أباً.. هذه آخر نكتة.

في يوم جمعة كنت أقضي بعض حوائج البيت، فإذا صوت بكر يلعلع آتيا مع رأس الضارع فتراه يمد يده إلى الصينية وبمهارة يسحب قرص البرازق فيسلمه للمشتري ويتسلم الفلسات الخمسة ويتابع النداء.. وفجأة يسكت الصوت ويسود الشارع الصمت، لقد داس بكر على قشرة موز ألق به أرضا ونثرت كل أقراص البرازق على الأرض فتكسر معظمها واتسخ الباقي.. ونهض بكر ونظر حوله فتخيلته قائدا مهزوما لمعركة فاشلة وأشلاء القتلى تحيط به، أكثر من أربعمائة قرص ثمنها ديناران هي كل رأسمال بكر...

تقدمت من بكر وأحطت كتفه بذراعي ومددت إليه بورقة نقد من فئة دينار فأجفل وتقدم صاحب صالون الحلاقة المتواضع وقال بصوت حاول أن يسمعه للجميع:

عيب يا أستاذ.. أنت غريب وبكر واجبه علينا... نشكرك.

أخرج صاحب الصالون من جيبه منديلا ملونا وضع فيه قطعة نقود فضية ودار على الجميع كل يضع في المنديل ما تجود به نفسه.. واحد فقط رفض أن يساهم بحجة أن ذلك يفسد بكر الذي يجب أن ينتبه أكثر.. هذا الواحد كان صاحب مخزن البضائع الكبير في السوق!! وأحصيت النقود فإذا هي تقل عن الدينارين بقروش قلية وضعتها في المنديل.

في اليوم التالي مررت ببكر وسلمته الخمسة فلسات وسلمني قرص البرازق وانتظرت النكتة، ولم يتكلم فغمزت متسائلا فإذا بدمعتين تترقرقان من عينيه فسألته:

ما لي أراك مهموما يا بكر؟؟
زوجتي مريضة وابني الصغير يكاد يموت..

وحاولت أن اساعده فرفض وألححت وأمعن في الرفض قائلا:

شكرا يا أستاذ لقد قبلت بالأمس حسنة ولن أقبل اليوم أخرى، وتركته وغصة ألم تكاد تفجر حلقي..
في اليوم التالي كنت أستعجل عقارب الساعة لأعود إلى البيت مارا ببكر لأطمئن.. وكان المكان الشاغر ينبئني عن الحدث وتمنيت أن يكون الطفل الفقيد فهو يعوض، أما الزوجة فأقراص بكر لن تأتي أبدا بأخرى.
غاب بكر عن الحي أكثر من سنة، وحاولت أن أصل إلى أخباره فما تمكنت فبدأ شكله يغيب عن مخيلتي وصوته الممطوط يتلاشى من ذاكرتي وإن كنت كلما سمعت نكتة حلوة أتذكر بكر.

في بداية العام الدراسي الجديد نقلت إلى مدرسة أخرى في حي آخر من أحياء المدينة لا فرق بينه وبين الحي السابق سوى ببؤس سكانه الأكثر وضوحا، ومضى أكثر من أسبوع وأنا أحاول أن أجد لي مسكن ملائما فلم أجد، فاضررت إلى استئجار بيت على الشارع يملؤه الضجيج ليل نهار، ونقلت أثاث بيتي البسيط في المساء ونمت ليلتي الأولى والحشرات البغيضة يستثيرها حر خانق تهاجمني دون رحمة، وأفلحت أخيرا في النوم وأنا ألعن مهنة التدريس التي تدفعني كل عام إلى السكن في حي جديد.

في الصباح صحوت على صوت خلته يأتي من السماء.. دعكت عيني والصوت يهاجمني.. برازق بكر يا ولد.. الاسم نفسه لكن الصوت مختلف تماما.. ذاك صوته حلو ممطوط صاف، وهذا صوت أجوف مبحوح لا حياة فيه، وقلت عله اسم واحد لشخصين مختلفين.. والبرازق نفس السلعة..

بعد تردد قمت إلى النافذة وفتحتها وخرجت بنصف جسدي منها ورأيته.. رأيت بقية المأساة التي شاهدت بدايتها في الحي الفقير منذ عام، رأيت بكر بلحمه وقد ذاب ودمه وقد جف. يضع صينية البرازق على عربة لها ثلاث عجلات وقد استقر في قعر العربة طفل صغير يرضع ابهامه لا يزيد عمره عن عام واحد.

 

"كتبت عام 1959"