السبت  21 كانون الأول 2024

رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 1)

2023-06-25 01:31:47 PM
رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 1)

تدوين- نصوص 

عام 1920 صدرت رواية "الوارث" للكاتب والقاص والروائي الفلسطيني خليل بيدس، التي تعتبر أم الروايات الفلسطينية.

وخليل بيدس (1874- 1949) هو كاتب وأديب ومترجم فلسطيني ومؤسس مجلة النفائس عام 1908، والتي كان لها صيت واسع بين الأوساط الثقافية والعلمية في البلدان العربية. ويعتبر من رواد الترجمة من الروسية إلى العربية.

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.

وفيما يلي الحلقة الأولى:

كانت استير فتاة في الربيع العشرين من العمر وقد أفرغ عليها الشباب أجمل حلله فأصبحت أبهى طلعة من شمس الضحى وأرق لطفاً من نسمات السحر. وهي من الممثلات البارعات اللاتي عرفتهن مصر في العهد الأخير وكنّ موضوع حديث أهلها مدة طويلة من الزمان.

ولم تلبث استير أن امتازت على رفيقاتها بالتمثيل كما امتازت عليهن بالجمال فصارت قبلة الأبصار وفتنة الألباب وقد كثر محبوها وعشاقها وازدادت هي بذلك شهرة حتى لم يعد يذكر سواها.

وكان في جملة الذين أشربت قلوبهم هواها فتى في زهرة العمر ونضارة الشباب يقال له عزيز حلبي من أسرة سورية شريفة.

هاجرت إلى الديار المصرية بعد حوادث سنة ١٨٦٠ وسكنت القاهرة واشتغل أفرادها بالتجارة فنجحوا وأثروا وكانت لهم علاقة تجارية بسوريا وعملاء كثيرون في بعض مدنها الكبيرة.

وتوفي والدا عزيز وهو في العاشرة من سنيه. وكان له عم اشتهر أكثر من كل واحد من أفراد هذه الاسرة بالغنى والجاه فأخذه اليه واعتنى بتربيته وتثقيفه أشد الاعتناء ولم يكن له ولد من صلبه فكان عزيز في منزلة ابنه وأعز لديه من روحه.

وكان الفتى لا يمر به يوم حتى يجيء إلى المسرح الذي كانت استير إحدى ممثلاته فيمتع بصره بحركاتها ورشاقتها وسمعه بغنائها وعذوبة أقوالها إلى أن هام بها هياما شديدا ولم يعد يطيق صبراً عن مشاهدتها. وكان يختلف إليها في منزلها فيقضي معها وقتا في المحادثة والمغازلة. وقد مالت هي أيضا إليه ولكنها لبعض أغراض نفسية كانت تقابله بعض الأحيان بالقسوة والجفاء.

وكان يسكن مع استير في منزلها عمة لها كهله بسن الخامسة والاربعين يُقال لها راحيل وكانت استير تنفق عليها وعلى نفسها من الراتب الذي كانت تتقاضاه من مدير المسرح ومما كانت تقتنصه من أموال الهائمين بها.

وجاء عزيز إلى منزل الحبيبة في ذات يوم على جاري عادته وكانت لا تزال في مخدعها في ثياب النوم وقد ارتدت شفاً من النسيج الرقيق أشبه بسحابة صيف تغشى سنى القمر وانسدل شعرها الحالك الناعم على كتفيها العاريين بما زادها جمالاً وفتنة.

فوقف عزيز حينا يرنو إليها وقد أصابه الذهول ورنحته خمرة الحب. ثم اجتاز عتبة الباب ودخل. فابتدرته استير بلهجة الجفاء وقالت إني لفي غاية العجب من كثرة ترددك إلى هذا المنزل يا مسيو عزيز! فماذا تبغي هنا؟

ولم يكن عزيز يتوقع مثل هذه المقابلة فوجم. ولكنه لم يلبث أن تقدم الى استير ومدّ يده مسلماً أما هي فتحولت عنه وخبأت يدها وهي تقول: لا أريد أن أرد عليك التحية وأسألك أن لا تحييني أو تكلمني عندما تقابلني في أي مكان كان بل أسألك أن تنسى أن في الوجود فتاة تدعى استير. فحار عزيز في الامر وقال ولكن ما الداعي إلى كل هذا الغيظ يا استير؟ أخبريني بربك ماذا جرى.

:قالت لم يجر شيء على الاطلاق ولكني قد آليت على نفسي أن أقطع كل صلة لي بك. فاعلم يا مسيو عزيز أن باب منزلي موصد في وجهك بعد الان فلا تحاول دخوله.

- لم أفهم المراد من كل هذا.

- سيان عندي فهمت أو لم تفهم أما أنا فإني أرفض معرفتك ولا أريد الاجتماع بك لأني أخشى أن يراك المولعون بي فيغارون منك وربما نفروا مني فأحرم على هذه الصورة مساعداتهم المالية وأنت أدرى بشدة احتياجي إلى المال ولاسيما في هذه الآونة ونحن على أبواب الحرب وقد ارتفعت الاسعار من جراء ذلك ارتفاعاً لم يسبق له نظير.

-لقد زدتني دهشةً بهذا الكلام لأنك تعلمين شدة ولعي بك وعبادتي لك.

- وماذا يفيدني كل ذلك؟ أفأستطيع أن أخيط من هيامك بي فروة تقيني برد الشتاء أو من عبادتك لي ثوباً جميلاً من الديباج تبتهج به نفسي؟

وكان عزيز قد أخرج من جيبه لفافة وأخذ كرسياً وأراد الجلوس فنظرت استير إليه شزرا وقالت: أرجو منك أن لا تجلس في مخدعي لأن كولونيلا غنيا سيزورني الآن وقد وعد بأن يتخذ لي عربة تكون تحت أمري في كل آن.. وكذلك أرجو أن لا تدخن أمامي بل يمكنك أن تفعل ذلك في غير هذا المكان.

ثم نادت عمتها - وكانت في غرفة اخرى - وقالت لها: أخرجيه يا عمة من هنا لأني أرفض محادثته.

فتقدمت راحيل إليه وقالت لا يسوغ لك ولا بوجه يا مسيو عزيز ان تبقى هنا بعد أن أظهرت لك سيدة المنزل رغبتها في رفضها مقابلتك.

فتنهد عزيز وقال: ولكن كيف يكون هذا الرفض وقد كانت بيننا صلة حب متينة العرى؟

فقالت استير كانت والآن زالت.

قال ولكن اعلميني بحقك ذنبي وجريمتي لأني لا أذكر أني أسأت إليك يوما ما. فها أني أدفع أجرة منزلك وأقدم إليك كل شهر من خمسة عشر إلى عشرين جنيها.

فقلبت استير شفتيها بازدراء: وقالت وهل تظن أن هذه الدريهمات التي تتكرم بها شيء كثير؟ إنها لا شيء في هذه الأيام.

- ولكنك كنت كل هذه المدة راضية عني ترافقينني إلى كل مكان ولا ترضين بغيري رفيقا لك. وقد أهديتك منذ بضعة أيام ساعة ذهبية جميلة شكرتني عليها كثيراً.

- كل هذا لا يرضيني الآن. فقد أصبح الجمهور معجباً بي كل الاعجاب وصار اسمي على جميع الأفواه فلم أعد لأرضى بالحالة السابقة حتى أن رفيقاتي في التمثيل أخذن يعيرنني لأني لم أعرف قيمة نفسي بعد وقد قلن لي أمس لو كان حبيبك غير عزيز لرفلت منذ زمان في الديباج والحرير وكان عليك من الحلي والجواهر كل ثمين وكانت لك عربة تقلك إلى حيث تشائين وكان رياش منزلك أشبه برياش الامراء والسلاطين.

قال: إنك ستبلغين كل ما تتوق إليه نفسك يا عزيزتي وتصبحين كملكة يحسدها الجميع.

فضحكت استير وقالت آمنا وصدقنا ولكن متى يكون هذا؟ لعلك تريد أن تنتظر زمن الشيخوخة.

- لا بل سيكون لك كل ذلك في وقت قريب إن شاء الله.

- لا تعللني بالمحال فأنا أريد الآن عربة خصوصية تستأجرها لي شهرا فشهراً وتكون النهار بطوله واقفة لخدمتي عند مدخل

 المنزل. وهي إما أن تكون منك أو من سواك لأن الكولونيل الذي ذكرته لك قد سألني بإلحاح أن أقبل منه هذه العربة.

وقالت العمة وهذا الكولونيل لا يزال في ريعان الشباب وهو جميل المحيا وافر الثروة.

وقالت استير: وقد وعد أيضاً أن يهديني رداء ثميناً مبطناً بالفراء النادرة التي لا يلبس منها إلا أهل الطبقات العالية من الأغنياء.

- سيكون لك أجمل من هذا الرداء يا عزيزتي

- حسن فلا تعد إلى هنا إلا ومعك الرداء المطلوب.

- أبهذا الجفاء تقابلين محبتي يا استير؟

- وأنت أفبهذا الشّح تريد أن تبرهن لي على محبتك ؟ فلو كنت محباً صادقاً لأطرفتني بهذا الرداء منذ زمان.

وقالت العمة ولم يكتف الكولونيل بإهداء الرداء لاستير فقط بل وعدني أنا أيضا برداء جميل يليق بي.

فالتفتت استير إليها وقالت لا تسترسلي معه في الكلام يا عمة لأنه لا يريد أن يفهم. يقول إنه متعلم وقد تخرج في مدرسة عالية ولديه تجارة واسعة وهو مع ذلك لا يفهم مثل هذه الأمور البسيطة فأخرجيه من هنا لئلا يعود إلى وعوده الفارغة.

فقال عزيز ولكني وعدتك بالرداء وأنا منجز وعدي قريبا.

- أريد رداءً جميلاً مبطناً بالفرآ الثمينة وأريد عربة تكون قيد

إشارتي.

- وإذا كان لك كل ما تتمنين فهل تكونين عند متمناي وتعديني بعدم مقابلة أحد سواي؟

- نعم

- وهل تعدينني بطرد هذا الكولونيل إذا حاول المجيء إلى هنا؟

- نعم

وقالت راحيل وقد أحبها أيضا تاجر من كبار الاغنياء وطفق يتزلف إليها وإلي بكل تحفة.

فقال عزيز وهل تعدينني بمقابلة محبتي بمثلها وعدم إيثار أحد من الناس علي إذا صدعت بكل إمر من إوامرك؟

- نعم لأني لست كغيري من المسرفات في الخلاعة والتهتك. فأنا إن أحببتُ أحداً فإني أخلص له الحب فلا أميل إلى سواه. واعلم بأني لا أزال أحبك ولا أطيق فراقك ولكنك أهملتني هذه المدة فلم تذكرني بشيء ذي قيمة مع أنك من أبناء الوجهاء وعمك من كبار الأغنياء وأنت وريثه الوحيد.

- نعم إن عمي غني كبير ولكنه لا يعطيني كثيراً فانتظري إلى أن يموت لأنه طعن في السن وهو طريح الفراش منذ بضعة أسابيع وحالته لا تزداد إلا سوءاً فسيموت لا محالة وأصبح أنا صاحب كثير من الوف الجنيهات وحينئذ اطلبي ما شئت.

- لا لا يا عزيزي فقد أشيخ أنا أو أموت قبل أن يقضي عمك نحبه وحينئذ فماذا تكون فائدتي من الانتظار؟

- صدقيني يا استير إنه لن يعيش طويلاً فقد انقطع الآن عن كل عمل وهبطت همته فلم يعد يستطيع زيارة مخازنه والاطباء يعودونه يومياً ولكن بلا فائدة.

- ولكن ما لي ولعمك، فليحي إذا شاء وليمت متى شاء. أما أنــا فأريد الرداء والعربة ولا يهمني أن أعرف غير ذلك. تقول إن عمك لا يزور مخازنه الان وهي في عهدتك بلا شك فلماذا لا تأخذ من الصندوق ما أنت في حاجة إليه.

- ولكن للصندوق أميناً وهو المسؤول الآن عن كل دخل وخرج وما أنا في هذه المخازن ما دام عمي حياً إلا كأحد المستخدمين.

فتقهقهت استير وقالت وهل يصعب عليك أن تستميل أمين الصندوق هذا إلى جانبك وتفعل ما تشاء؟ إنه مدرك بلا شك ما ستؤول إليه الحالة فلا أظنه يعترضك في شيء.

- لا بل يعترضني لأنه أمين وشريف للغاية وعمي يثق بأمانته وإخلاصه كل الثقة.

لم يبقَ لك إذاً إلا أن تقترض الأموال التي تلزمك الآن إلى حين وفاة عمك وأنت تستطيع أن تجد جمهوراً من المدائنين الذين يرضون أن يسلفوك ما شئت لأنك ذو مركز مالي مهم فلا يخشى عليك احد.

وكان لهذا الكلام بعض الوقع في نفس عزيز فأطرق هنيهة وهو غائص في لجة من الأفكار وقد تجاذبته العوامل الشديدة فتجسمت له دناءته في حق عمه الشريف الذي رباه واعتنى به وكان له في مقام الوالد بل أحسن من الوالد ثم تمثل حالته بازاء هذه الغانية التي ملكت قلبه واستعبدت جوارحه وهو ينقاد إليها بأتم الطاعة والخضوع ولا يرى سعادة لنفسه إلا في قربها.

وكأن راحيل أدركت ما قام في رأسه من هذه العوامل فقطعت مجرى أفكاره وقالت ليس لك إلا هذه الطريقة يا مسيو عزيز لبلوغ كل مأرب وليس فيها ما تلام عليه لأنك باقتراضك الأموال إنما تتصرف بحقك وتنفق من مالك فاعقد العزيمة عليها ولا تتردّد ولا أظن أحدا من المدائنين يحجم عن إسلافك ما شئت من المبالغ لأنك الوريث الوحيد لعمك.

قال: ولكني لست الوريث الوحيد كما زعمت لأن لي شريكة في هذا الإرث وهي وإن كانت غير شرعية في نظر القانون لكن يحبها لأنها ابنته أو ابنة معشوقته وهو لا بد أن يخصها بجانب كبير من أمواله قبل وفاته.

فقالت استير وقد جحظت عيناها وأين تسكن هذه الوريثة الجديدة.

- تسكن هي وأمها قريباً من منزلنا. وعمي يحب البنت حباً يقرب من العبادة ولا يزال يحب أمها وهي تتزلف إليه الآن بكل خدمة واهتمام رغبةً في زيادة حصة ابنتها من الميراث.

- وفي أي سن البنت الآن؟

- في الخامسة عشرة.

- إذا لا تحتشم بعد الآن. فخذ من الصندوق ومن البضاعة قدر ما استطعت قبل أن يحلّ القضاء وتضطر إلى مقاسمة غيرك ما تقدر أن تستولي عليه كله الآن هذا كل كلامي فافعل ما يلهمك إليه الصواب ودعني وشأني.

فمد عزيز يده مسلما فأحجمت استير عنه وهي تنظر إليه بعينين مغرورقتين بالدموع وتقول: لا صلح بيننا إلا بعد حصولي على الرداء والعربة.

فانثنى عنها عزيز وخرج وهو مكسور الخاطر حزين النفس لا يعلم ماذا يعمل لإرضاء فاتنته القاسية. وقد تأكد لديه أنها تحبه وتؤثره على سواه ورأى نفسه مقصراً في حقها فصمم على أن يجود ولو بالنفس في سبيل مرضاتها.