تدوين-نصوص
عام 1920 صدرت رواية "الوارث" للكاتب والقاص والروائي الفلسطيني خليل بيدس، التي تعتبر أم الروايات الفلسطينية.
وخليل بيدس (1874- 1949) هو كاتب وأديب ومترجم فلسطيني ومؤسس مجلة النفائس عام 1908، والتي كان لها صيت واسع بين الأوساط الثقافية والعلمية في البلدان العربية. ويعتبر من رواد الترجمة من الروسية إلى العربية.
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.
وفيما يلي الحلقة الثانية:
وكانت راحيل قد خرجت تشيع عزيزا عند انصرافه فلما عادت ابدرتها استير قائلة: كيف رأيتني ياعمة؟ فهل أحسنت تمثيل دوري؟
فقالت راحيل ضاحكة احسنت واجدت فيجب أن يظل زمام هذا الفتى في يدك تتصرفين به كما تشائين ولا تخشي أن ينصرف عنك لأنه موله بك إلى درجة الجنون. وقد وضعفي يدي الآن جنيها وتوسل إلي أن أكون عوناً له في استرضائك.
وقال إنه سيقدم إليك الرداء غداً أو بعد غد ولا يتأخر عن القيام بكل ما تطلبين فإياك والتساهل معه في شيء.
- ولكني مشفقة عليه يا عمة لأنه قليل التدبير طيب القلب وخجول وأنا أحبه وأخشى إن قابلته مرة اخرى بمثل هذا الجفاء أن يقع في اليأس أو ينفر مني ويهجرني.
- أنت واهمة في زعمك فامضي على ما بدأت وعليّ تدبير كل أمر.
- ولكنه لن يستطيع أن يجد الأموال المطلوبة دفعة واحدة.
- لا لزوم للحصول عليها كلها الآن فقد يكفي أن يجد ثمن الرداء. وأما العربة فإنه يستأجرها مشاهرة وكل حوذي يرضى معه بذلك. وكم هي أجرة العربة كل شهر؟ لا أظنها أكثر من خمسين جنيهاً. فمتى جاء عزيز إلى هنا استدعي أنا الحوذي اسحق وندبر المسألة على أحسن ما تروم فلا تقلقي
- ولكن عليه أيضاً أن يدبر ثمن الرداء وهو لا أقل من ثلاثين جنيهاً. وعليه أيضاً أن يدفع أجرة المنزل ويقوم بنفقاته. فمن أين له أن يحصل على نحو مئة وخمسين جنيهاً كل شهر وعمه كما يظهر من الطبقة الأولى في البخل؟
- لا مندوحة له حينئذ عن أن يمد يده إلى صندوق المال في محل عمه.
- وإذا شعر به أمين الصندوق وأنهى الأمر إلى عمه فماذا تكون النتيجة؟ إنها تكون وبالاً علينا بلا شك.
- إذا كان الأمر كما تقولين فلا يبقى من وجه لعزيز إلا الاستدانة وعلي حمل بعض المدائنين على إسلافه ما شاء.
- وهي الطريقة المثلى التي يجب أن نقنعه بها فهل تعرفين أحداً من الصيارفة يسلفه المقدار اللازم من المال ويصبر إلى أن تصير أموال عمه إليه؟
- يكفي أن نعرفه بناثان الصيرفي المشهور فهو يكفينا مؤولة كل اهتمام وتعب. فهل عرفته؟
- كيف لا أعرفه وحظيّته سارة من صديقاتي وهو من جماعتنا الغيّر على كل مصلحة من مصالح شعبنا إسرائيل.
- هو كما ذكرت فيجب أن نبسط له حالة عزيز ونرجو منه أن يتولى أمره.
- حسن فسيري إليه الآن يا عمة واذكري له ما شئت.
- وأين تريدين أن نضرب لهما موعداً للمقابلة؟
- في المسرح. فيأتي عزيز إلى هناك وبعد التمثيل يجتمعان ثم يدعوه عزيز إلى تناول طعام العشاء في أحد الفنادق وهناك ندبر المسألة.
وهل عزمت أن تكوني أنت أيضا في جملة المدعوين؟
- وهل ما يحول دون ذلك؟
- بلا شك لأنك في قبولك دعوته دليلاً على رضاك عنه وأنت أنذرته بعدم المقابلة والرضى إلا بعد أن يقوم بكل المطلوب.
- لكننا سنجتمع في الفندق لهذه الغاية نفسها.
- صحيح هذا غير أن امتناعك عن الذهاب يكون أكبر دافع له إلى السرعة والقبول بكل شرط يشترطه ناثان.
- لا بدّ من حضوري أيضاً لحل كل عقدة يمكن أن تعرض فاذهبي الآن ودبري المسألة بحكمة ولا تنسي أن توصي ناثان بالرفق بعزيز لأن هؤلاء الصيارفة من أكثر الناس طمعاً وجشعاً وخصوصاً إذا وقع بين أيديهم مثل عزيز فأنا أخشى أن يسلخ جلده ويعرق عظمه.
فضحكت راحیل :وقالت: وماذا يهمنا نحن؟ ليفعل به ما شاء بشرط أن نحصل على ما نريد.
- اما أنا فلستُ من رأيك. وخير لي أن لا يحصل عزيز على شيء من أموال ناثان من أن ينشب فيه مخالبه ويستقطر دمه. وقد اتصل بي طرف من أخبار الذين وقعوا في اشراك الصيارفة المرابين أمثال ناثان فلم أر واحدا منهم إلا ونكب شر النكبات وكان الانتحار خاتمة كل حادث من هذه الحوادث.
- كوني براحة فسأوصي ناثان خيرا بحبيبك.
قالت هذا وخرجت وتقدمت استير بعد خروجها إلى المرآة فوقفت بضع دقائق أمامها وهي تصلح شعرها وتبتسم لما تراه من جمال وجهها وتناسب اعضائها ثم عادت فاستلقت على سريرها وأخذت في يدها اوراقاً وجعلت تراجع دورها لتلك الليلة.
وما قرعت الساعة الخامسة حتى قرع باب المنزل. وما هي إلا دقيقة حتى سمعت استير وقع أقدام مسرعة. فالتفتت وإذا بها ترى عزيزاً وقد دخل مخدعها راكضاً ثم هجم عليها بوجه يطفح بشرا وهو يقول: ألف شكر لك يا عزيزتي. فقد ابهجت نفسي واسعدتني بهذا الصفح الذي بشرتني به عمتك منذ هنيهة.
وأي صفح هذا؟ إني لا افهم ماذا تقول.. ولكن أرجو أن لا تدنو مني بل ق/ ف مكانك لأنك لا تزال مذنباً ما لم أحصل على المطلوب.
- ولكن عمتك قد كانت عندي الآن وأوعزت إلي أن أقابلك فطرت إليك على أجنحة الحب.
- نعم لكن هذه المقابلة يجب أن تكون في المسرح وليس هنا لأني قد آليت أن لا اقابلك في منزلي ولا أسمح لك بالدخول إلي إلا بعد حصولي على الرداء والعربة.
- إنك ستحصلين عليهما في أقرب وقت فاصفحي لي عن هذا الذنب العظيم الآن واسمحي لي أن اجلس إلى جانبك امتع نفسي ببضع دقائق من حياة السعادة.
لا يمكن أن يكون هذا فاجلس على ذلك الكرسي وقل لي هل أخبرتك عمتي عن ناثان؟
- نعم اخبرتني وأنا موافق على كل ما دبرت غير أن ناثان قد اعتذر بعدم تمكنه من الحضور إلى المسرح هذا المساء ووعد أن يأتي غداً.
- وهل تأتي أنت إلى المسرح هذه الليلة؟
- يستحيل عليّ ذلك أيتها الحبيبة لانّ عمي قد ساءت احواله جداً والطبيب لا يفارق غرفته منذ أمس وقد قطع الأمل من شفائه فلا بدّ من عقد جمعية أطباء عندنا هذا المساء للنظر في حالته وأما غداً فإني سأكون في المسرح مهما كانت الظروف.
- وهل اخبرتك عمتي عن الغرض من مقابلة ناثان؟
- نعم وقد غدوت ممتناً لاهتمامك وعنايتك.
- لو كنت ممتناً حقيقةً لأهديتني شيئاً آخر في مقابلة اهتمامي وسعيي.
- سأهديك ما شئت متى اصبح المال في يدي فهل أنت واثقة بأن ناثان لا يرفض ادانتي؟
- وما الباعث له على الرفض ما دمت أنت وريث عمك وهو من الاغنياء الكبار. فسيدفع لك قدر ما تطلب ويصير عليك قدر ما تشاء ولكنه سيطمع بلا شك برباء كبير شأن كل صيرفي إذا سنحت له فرصه كهذه.
- إذا سأطلب منه مئة وخمسين جنيهاً.
- وماذا تنفعك المئة والخمسون جنيهاً؟ فاطلب خمسمئة جنيه على الأقل.
- ولم كل هذا؟ إني في حاجة إلى مئة وخمسين فقط.
فضحكت استير: وقالت وستحتاج إلى خمسمئة وأكثر لأني لا أريد بعد إلا أن أعيش كما كنت عائشة قبلاً ولا أريد أن أقنع بالقليل ما دام حبيبي غنياً وما دمت أنا في هذا المقام في عيون الناس.
- سأفعل ما تأمرين غير أني أخشى أن يتعذر علي الوفاء بعد ذلك.
- قد يمكن أن يقضي عمك نحبه بعد بضعة أيام فلا تعود تخشى أحداً ويصبح هذا المبلغ لا شيء في نظرك.
- ليكن ما تريدين. فاسمحي لي الآن أن أقبل يدك الجميلة وأعود من حيث أتيت.
- إنك تطلب مستحيلاً الآن. فلست لك إلا إذا تم كل شيء.
- ولكني أريد أن أتزود منكِ هذه القبلة لتقويني على احتمال ألم فراقك هذا المساء.
-ولكن إياك أن تطمع في غيرها.
ثم أعطته يدها فقبلها وخرج وهو أسعد الناس حالاً.