السبت  18 أيار 2024

رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 3)

2023-07-03 09:23:18 AM
رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 3)

تدوين- نصوص 

عام 1920 صدرت رواية "الوارث" للكاتب والقاص والروائي الفلسطيني خليل بيدس، التي تعتبر أم الروايات الفلسطينية.

وخليل بيدس (1874- 1949) هو كاتب وأديب ومترجم فلسطيني ومؤسس مجلة النفائس عام 1908، والتي كان لها صيت واسع بين الأوساط الثقافية والعلمية في البلدان العربية. ويعتبر من رواد الترجمة من الروسية إلى العربية.

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.

وفيما يلي نص الحلقة الثالثة:

كان الشيخ نعمان الحلبي - عم عزيز - يقطن منزلا كبيرا له في بعض الأحياء المشهورة من القاهرة وكان المنزل فخم البناء تحيط به حديقة واسعة الأرجاء دائمة الخضرة والأزهار.

وكان الشيخ نعمان هذا في سعة من العيش وله أملاك كثيرة وأطيان واسعة وثروة لا تحصى. وكان قد تزوج في صباه وتوفيت شريكة حياته بعد زواجه بها بعشرين سنه دون أن يُرزق منها ولدا. وكان له وصيفة ذات جمال رائع وخلق حسن تدعى مريم فأحبها واقترن بها ولكنه لم يرد أن يشهر هذا الاقتران فبقي الأمر مكتوما إلا عن أهل المنزل واقترب اصدقائه.

وكان لمريم من الشيخ نعمان ابنة كالخيزران قامة وكالبدر
طلعة يُقال لها نجلاء كانت تقطن وإياها منزلا صغيرا بالقرب من منزل نعمان ولكنهما كانتا تترددان إلى منزله أكثر الاحيان.
وكان الشيخ يحب الفتاة حب الآباء لأعز أولادهم ولا يبخل
عليها بأفخر الملبوس وأثمن الحلي حتى أصبحت نجلاء أجمل صورة في ذلك المنزل. ولما مرض الشيخ نعمان انتقلت مريم بابنتها إلى منزله ولم تعودا تفارقانه وكانتا تقومان على تمريض العليل وتعالجانه بكل نصح وحذق. وكان عزيز يرى في ذلك تزلفاً إلى المريض تبغيان من ورائه نصيبا من الميراث فكره الأم وابنتها بسبب ذلك وصار يتجنب مقابلتهما والاجتماع بهما ما أمكن حتى أدى به الأمر إلى أنه لم يعد يطيق محادثتهما. وكان إذا اتفق وجلس وإياهما إلى مائدة الطعام لا يكاد يرفع نظره عن صحفة طعامه أو ينبس ببنت شفة.
ولم يكن ذلك ليخفى على زوجة عمه فكانت تبذل كل جهد
وتتوسل بكل وسيلة لاسترضاء عزيز ومصادقته ولكنها كانت كلما توسلت بوسيلة زاد هو نفاراً منها وبعداً عنها. وكان كلما رأى الأم تزداد تزلفاً إلى عمه يزداد هو بغضاً لها لا خوفا على الميراث بل اعتقادا منه برياء زوجة عمه ودناءتها.
ولما عاد في هذا المساء من منزل الحبيبة قابلته مريم بحال
دخوله فلم يشك في أنها تترصد عودته فلم يستطع أن يخفي
امتعاضه من مقابلتها. وأما هي فتقدمت إليه وقالت إن عمك
قد سأل عنك مرارا في هذا المساء.

فقال عزيز وهو لا يكاد يرفع نظره إليها: وكيف هو الان؟
قالت: لا يزال على حاله والاطباء عنده منذ ساعة. فأمسك عزيز عن الكلام وسار إلى مخدع عمه. وكان الشيخ نعمان جالسا في سريره وقد أسند بالمخدات من كل جانب وجلس بقربه ثلاثة من نطس أطباء القاهرة. وكانوا قد فحصوه فحصا طبيا واتفقوا على نوع العلاج اللازم له وكانوا على أهبة الخروج. فلما دخل عزيز وكانوا كلهم يعرفونه عادوا إلى مجالسهم واستأنفوا الحديث. وكان عزيز قد تقدم إلى عمه فصافحه وقبل يده ثم عاد فجلس إلى الأطباء وخاض وإياهم عباب الحديث. وكان الشيخ نعمان من المولعين بالسياسة فكان يرتاح إلى مطاعة الصحف ويميل إلى سماع كل خبر. ولما مرض ولم يعد قادراً على المطالعة بنفسه كان يطلب من عزيز أو نجلاء أن يقرأا له بعض ما تتناقله الجرائد من الاخبار. وكان أهم مواضيع السياسة وقتئذ خبر مقتل ولي عهد النمسا واضطراب الأندية السياسية الكبرى بسبب ذلك خوفا من نشوب الحرب بين النمسا والصرب وما يتلو ذلك من الشؤون التي كان يخشى أن تؤدي إلى حرب طاحنة عامة تشترك فيها اوروبا بأسرها. وكان أحد الاطباء قد أومأ إلى ذلك في حديثه وهو يقصد أن يسلي الشيخ نعمان بهذا الخبر ويطلعه على آخر ما نقله البرق من الأنباء.

وكان الشيخ نعمان يظن أن اوروبا لا بد أن تتلافى الخطب وتحصر الخلاف بين النمسا والصرب خشية الوقوع في الشر المستطير.
فقال أحد الجلوس: غير أن الحوادث لا تدل على الاخلاص في سعي اوروبا في هذا السبيل لأن كل دولة من دولها الكبرى تريد الحرب لتكون هذه الحرب فصل الخطاب في هذه المناظرة الإقتصادية والاستعمارية القائمة بينها على ساق وقدم.

وقال آخر: صحيح ذلك غير أن هذه المناظرة يمكن حصرها بين إنكلترا وألمانيا فقط وكل دولة من الدول الأخرى إنما تعمل لتأييد إحدى هاتين الدولتين ففرنسا وروسيا تتحزبان لإنكلترا والنمسا تتحزب لألمانيا. وقال غيره: وما قولكم في تركيا؟ وما هي سياستها هذه الأيام. فقال الشيخ: نعمان أرى أن سياسة تركيا غامضة كل الغموض وليس لأحد أن يتكهن عما سيكون من أمرها. وقال عزيز: ولكن هذه السياسة أخذت تنجلي الآن فقد كتب إليّ أحد عملائنا في دمشق يقول إن الحرب إذا نشبت فلا بد لتركيا من خوض غمارها إلى جانب ألمانيا والنمسا. وقد استدلّ على ذلك بأدلة كثيرة استقاها من بعض المصادر الموثوق بها. وقال أحد الجلوس: إن الحرب واقعة لا محالة، فالويل لبني البشر منها أنها ستذيقهم أمر كؤوس البؤس والشقاء، حتى ترتعد من شدة هولها الارض والسماء.
وقال آخر: إن لأوروبا في هذه الحرب مآرب. ولكن ما هو مأرب تركيا منها؟ إنها ستكون الخاسرة لو إنتصر الفريق الذي ستنحاز إليه وتكون كالباحث عن حتفه بظلفه.
وقال غيره: أما أنا فلا أظن أن الجنون سيحمل تركيا على هذه المخاطرة، فتزج نفسها في مارج من النار لا خلاص لها منه بعد أن قهرت في حربين متواليتين ليس العهد بهما ببعيد.
ومضى على الجلوس بعض الوقت وهم في مثل هذا الحديث، والشيخ نعمان مصغ بكل ارتياح إلى ما يُقال. ثم قام الأطباء فودعوا وخرجوا وخرج عزيز معهم، ثم عاد فجلس بالقرب من سرير عمه وسأله عن حاله. فقال الشيخ لم أشعر بألم كل هذا المساء والحمد لله، ولكن يسوني يا عزيز أنك تكثر التغيب عن المنزل هذه الأيام مع علمك بشدة الاحتياج إليك وأنا في هذه الحالة من الضعف والشدّة.

فقال عزيز وهو يكاد يتلعثم صحيح هذا يا عماه، غير أن تغيبي لا بدّ منه لمراقبة سير العمل في المحل.
فنظر إليه الشيخ شزراً وقال: يكفي لذلك النهار بطوله، لأن
المحل لا يفتح إلا نهارا، وأما أنت فتغيب النهار والليل معا
ولا يهمك شيء من أمر عمك وهو في ساعاته الأخيرة من
هذه الحياة. فوجم عزيز ولم يحر جوابا.

فقال الشيخ: وإني أخشى أن يكون اهتمامك بالمحل كإهتمامك بعمك .. أخشى أن يؤدي بك الطيش إلى إهمال المحل والاعتماد في إدارة شؤونه كلها على المستخدمين. نعم إن سليما أمين الصندوق على جانب عظيم من الأمانة والصدق والإستقامة والاقتدار، وكل المستخدمين في المحل من ذوي السيرة الحسنة والاجتهاد والدراية، ولكن هذا لا يكفي. فمن واجباتك أنت أن تكون كثير العناية شديد، الانتباه لا تغفل أمرا ولا تلهو بشيء آخر. وقد كان المحل حتى الآن مشهورا وفي مقدمة أمثاله من المحلات التجارية الكبرى فلا تعمل على الاضرار بسمعته وتقليل ثقة الناس به والذي تعمله، إن خيراً او شراً، فإنما تعمله لنفسك لا لغيرك لأن المحل وكل ما لي فهو لك. فكن رجلاً لتقرَّ عيني بك وأموت مطمئنا. ووصيتي لك أن تُعنى بنجلاء ووالدتها، فلا تسيء إليهما ولا تتجنبهما، فما نجلاء إلا ابنتي وأنا أحبها كثيراً وأريد أن أضمن لها السعادة ورغد العيش. فلا تنسَ وصيتي واذهب الآن إلى سريرك لإني تعب من الكلام وأود أن آخذ نصيبا من الراحة.

فدنا عزيز من الشيخ وأخذ يده فقبلها وخرج وهو متبلبل
الخاطر وقد وقع كلام عمه في قلبه أشد وقع ولكنه ما كاد
كل ما سمع وتاه في عالم الخيال.