تدوين- نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات، رواية "وزير إعلام الحرب" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2019، لكاتبها وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو.
وفيما يلي نص الحلقة الأولى:
هذا النص
هذا النص، استعدت وقائعه من ذاكرتي، قمت ببعض التصرف بأسماء الأشخاص والأماكن، وكل ما عدا ذلك كان حقيقياً.
لقد عشت ما حدث في تلك الأيام، لم أكن مراقباً بل كنت مشاركاً، انتظرت الحرب "الأُمنية" مع المنتظرين، وراهنت عليها بإلحاح يصل حد الشبق، كان قلبي يهوي خوفاً كلما سمعت قولا يشي باستبعادها، ويرقص طربا كلما سمعت ما ينبئ بحتمية وقوعها، فالحرب هي النصر، حقيقة تلقائية لم تكن قابلة للنقاش، تأجيلها أو الغاؤها هو مزيد من التوغل في الكارثة، هكذا كنت وكل الناس نفكر ونعتقد.
كانت الإذاعات هي موَّرد المسلمات اليقينية لوعينا وتقديرنا للحرب ومزاياها، لم نكن لنفكر بما نسمع.
في ذلك الوقت كنا تلاميذ، لم يعلمنا أساتذتنا كيف نفكر، كانوا يعلموننا كيف نحفظ، المتفوق منا من يؤدي المقرر المدرسي كمحفوظة.
لم يكن الأمر متعلقاً بقصائد الأولين، ولا القرآن والأحاديث النبوية فقط، كنا نحفظ العمليات الحسابية والمعادلات، فتشكل وعينا على هذا الأساس، كانت حتمية النصر في أي حرب سوف تقع لها جذر ثقافي صنعه شعراء الفخر من زمن عمرو بن كلثوم صاحب.
ملأنا البر حتى ضاق عنا... وماء البحر نَملؤهُ سفينا...
حين كان هذا الشعر مقرراً صدقنا أنّ رضيعنا إذا ما بلغ الفطام، فكل جبابرة الدنيا يخرّون له ساجدين.
النصر إذا هو القاعدة وإذا كان ما حدث في العام 1948 هزيمة، فهذا هو الاستثناء العابر الذي لابد وأن يزول كما تقول الأشعار والأغنيات.
كان الماضي في وعينا يحتل الحاضر، حتى صار الإنسان منّا وعاءً يمتلئ بلحم ودم ووهم.
حين وقعت الحرب وأفرغنا كل المكبوت في داخلنا في احتفالات جنونية، وجدنا أنفسنا في حال آخر، كان يوماً للفرح يليه يوم للشك، وجد القوم بعد تلكؤ الإذاعات في إعلان النصر أنهم بحاجة للبحث عن اليقين في مكان آخر، فسرت بينهم عادة سرية لا يمارسونها إلا تحت لحاف سميك، راحوا يسترقون السمع لراديو العدو، بدأت بواحد أو اثنين أو ثلاثة، ثم انتشرت وعمّت القوم كلهم. راديو صوت العرب للنهار، وراديو إسرائيل للّيل.
وقائع متناقضة عمرها ثلاثة أيام، يومٌ استبد فيه الشبق للحرب، ويومٌ عاش فيه الناس نصرا مبينا، ويومٌ سقطوا جميعا في قاع الهزيمة، غير أن الأيام الثلاثة هذه لم تكن ساعاتها مجرد حساب للزمن بل صارت زمناً حكم ما بعده لخمسين سنة حتى الآن والغيب وحده من يعرف النهاية.
فكرت في كتابة هذا النص بعد شهور من ذلك الحزيران، إلا أن الحياة التي أسلمتني لانتقالات وانشغالات، أبعدت فكرة الكتابة، بل إنني مع كل مصيبة وقعت وحياتنا منذ ذلك الحزيران هي حلقات مصائب وكوارث، كنت أكتشف أن حزيران 1967، كان جذراً تنبت عليه غابة من حزيرانات أكبر وأفدح.
بعد أن مرت سنوات على ربيع البوعزيزي التونسي، أمسكت بالقلم وشرعت في كتابة نهائية، كانت تلح عليّ فكرة التشابه بين ما حدث قبل خمسين سنة وما يحدث الآن. مقهى أبو علوان وساحة المسجد الذي لم يبنى بعد والصالون العصري لصاحبه نعيم، والمخاتير والسياسيون والمجانين والمخفر وعبد الشقي انتقلوا جميعا وتوزعوا على الميادين، كانوا في كفر عرب يعدّون بالعشرات فإذا بهم في العواصم يعدّون بالملايين، جذر ذلك الحزيران ما زال ينتج أشجارا وغابات.
الناس هم الناس والبلاد هي البلاد والأمس هو اليوم وهو غدا كذلك.
في ذلك الحزيران البعيد أنتجت القرائح كلمات وموسيقى وأصوات. صلاح جاهين، كمال الطويل، والعندليب الأسمر، ويا أهلا بالمعارك، لم يتغير الكثير، ففي ربيع البو عزيزي ازدهرت قرائح الشعراء والكتاب ومؤلفوا الاماني. وعدونا بربيع تتحقق فيه كل الأمنيات بفعل عود ثقاب أشعله الشاب الذي فقد مصدر رزقه بطرفة عين، فاشتعلت النار في هشيم كان ينتظر، لنكتشف أن فداحة الواقع أظهرت بؤس الوصف فالربيع كان متخيلا وحقيقته جحيما، بدا أمامه حزيران الأصلي طفلا ربما أنتجته الخطيئة، أما حزيران البوعزيزي فقد أنتج قدراً لا راد له، صار يؤرخ للأيام والشهور والسنوات بالجثث والهاربين إلى قاع البحر، ففيه أمان أكثر مما في الأوطان.
كان أحمد سعيد في ذلك الحزيران القديم قد أصدر أوامره للسمك في البحر بالاستعداد لاستقبال الجثث وبعد خمسين سنة عرفنا أي جثث استقبلها البحر.
الناس هم الناس والبلاد هي البلاد وحزيران ليس شهرا ولا هزيمة ولا نكسة، هكذا فهمناه أول الأمر أما في زمن البوعزيزي فيبدو أنه قدر.
وزير اعلام الحرب
الرابعة عصر الرابع من حزيران، ساعة "القايلة". الصمت يخيم على البلدة، والشارع الوحيد الذي عبّده الانجليز قبل رحيلهم، وينتهي عند مخفر الشرطة، يخلو تماماً من السيارات والمارة. كانت الشمس اللاهبة في ذلك الصيف الحزيراني المبكر قد أحالت الإسفلت إلى طين أسود، تغوص فيه أقدام من يضطرون للسير عليه. صمت "القايلة" وفر للصوت المنبعث من الدراجة النارية، رجع صدىً كما لو أنه صليات رشاش، أيقظ النائمين وحمل كل من سمع إلى إعتلاء سطح داره، للتعرف على مصدر الصوت الذي قلّما سمع اهل البلدة مثيلاً له من قبل.
= أنه المراسل الحربي.
قال شاويش متقاعد مستعينا بمعلوماته العسكرية وأضاف: يعني الحرب قربت.
قال الواقف على السطح المجاور.
= الله أعلم، كل إشي بيصير.
وأضاف مغمغما.
= ربنا يجيب اللي فيه الخير.
انخفض الصوت تدريجيا، وما أن انعطفت الدراجة شمالا مختفية عن الأنظار، وراء السور المرتفع لمخفر كفر عرب، حتى توقف نهائيا.
الا أن المواطنين الذين استيقظوا من قيلولتهم سارعوا إلى التوجه ناحية المخفر لمعرفة حقيقة الامر.
****
قبل توقف الدراجة في الساحة الخارجية، كان رجال المخفر من مدنيين وعسكريين يغطون في نوم الظهيرة اللذيذ، إلا أنهم استيقظوا على صوت الدراجة، وهرعوا لملاقاة راكبها.
قائدهم الملازم أول محمود، الذي كان يستمتع بقيلولته في سكنه المقام على الطابق الثاني، راقب مشهد وصول المراسل العسكري من الشرفة المطلة على الساحة.
انتبه إلى أن المغلف الذي يحمله سائق الدراجة، مختوم بالشمع الأحمر، فهبط الدرجات العشر مهرولا، يدفعه فضول لا يحتمل التأني، حتى أنه استقبل التحية العسكرية من حامل الملف وردّها وهو بملابس النوم، كشط بأظافره الختم الشمعي الأحمر، وفتح المغلف الحكومي، واستلّ من داخله ورقة شفافة وراح يقرأ بصمت، دلّت قسمات وجهه على أن هنالك امراً بالغ الأهمية. أدار راكب الدراجة المحرك وغادر.
سارع رجال المخفر إلى ارتداء ملابسهم الرسمية، وتموضع كل واحد منهم في المكان المخصص له.
هتف الملازم محمود.
= أين يوسف؟
= في بيته سيدي.
أجاب أحد الجنود
= استدعوه فورا، أريده امامي بسرعة.
يوسف. هو الرجل الثاني فعليا في مخفر كفر عرب، مع أنه موظف مدني متعاقد، أي أنه يعمل بالقطعة، غير أنه اكتسب مكانته المميزة على من هم اعلى منه مرتبة من الموظفين الرسميين، بفعل جاهزيته الدائمة لتقديم خدمات هامة لقائد المخفر، لقد تجاوز وضع السكرتير الأقرب إلى المراسل، وصار الساعد الأيمن للقائد، والمستشار الذي يُلجأ إليه في كل صغيرة وكبيرة، ويوسف هذا أثبت كفاءة في أداء دور الخبير في شؤون كفر عرب، حين بسط امام الملازم محمود في أول يوم تسلّم فيه مهامه، خريطة البلدة بكل تضاريسها وألوانها وخصائص عائلاتها ومخاتيرها ووجهائها وملّاك الأراضي، وأصحاب النفوذ فيها، وكذلك ما اعتبره الضابط الشاب حديث العهد في الوظيفة، معلومات نادرة عن أهم المهربين والخارجين على القانون ومعارضي الحكومة. وميول مدراء ومديرات ومعلمي المدارس "السياسية والحزبية"، مع معلومات تنفعه كثيرا عند رؤساءه وترشحه لارتقاء السلم الوظيفي، تختص "بدواسي الظلمة"، وهذا هو الاسم الاصطلاحي لمجموعة من شباب كفر عرب، امتهنوا التسلل إلى المستوطنات المحاذية للقرية، ويعودون بعد كل غارة ليملئوا كفر عرب بالمواشي السمينة من خراف ونعاج وماعز وابقار، فضلا عن أسلحة وذخائر كانوا يختلسونها من حراس المستوطنات، ويتاجرون بها في وضح النهار، ويؤجرونها لاستخدام مؤقت في الأعراس، معتمدين على تكتم أهل البلدة، مموهين أنفسهم بارتباط غير مؤكد بجهاز الاستخبارات أو المنظمات الفدائية.
=يوسف اقرأ.
ارتسمت على وجه السكرتير علامات اهتمام، ولما فرغ من القراءة قال:
=سيدي. يبدو ان الحرب على الأبواب.
هز الملازم رأسه موافقا على استنتاج مساعده وقال:
= إذن. كيف نعمم هذه التعليمات على السكان خلال ساعتين على الأكثر.
= سأتولى الامر سيدي.
أجاب السكرتير.
***
"كفر عرب وفق آخر إحصاء أجرته الحكومة، تعد داخل حدود مجلسها القروي سبعة آلاف مواطن، وإذا ما أضيفت لها الخرب المتصلة بها والتابعة لحمائلها، فيصل العدد الكلي إلى خمسة عشر الفا".
راح يوسف يقلب في رأسه الوسائل التي سيلجأ اليها لتعميم التعليمات الحكومية الهامة، خطر بباله استخدام المساجد إلا أنه أقلع عن الفكرة خصوصا وأن الكهرباء لم تكن وصلت إلى كفر عرب، ما يجعل المآذن والمؤذنين محدودي الإمكانيات في أمر كهذا، فكر في دعوة المخاتير ليكلف كل واحد منهم ابلاغ حمولته، غير أنه استبعد الفكرة لأن المخاتير بطيئوا الحركة، ولا يعتمد عليهم في إيصال التعميم للجميع خلال ساعتين، إلا أن السكرتير الحريص على إرضاء سيده، اهتدى إلى فكرة....
تحت ضغط الحاجة، وضيق الوقت، وإلحاح القائد وأهمية الأمر، تجرأ وطلب من رئيسه استخدام سيارة اللاند روفر الوحيدة المخصصة للملازم وحده، وبعد أن أُذن له كان خلال دقائق قد وصل إلى كراج الباصات الواقع في قلب كفر عرب.
***
حجر الأساس الذي وضعه وزير الأوقاف قبل ستة أشهر إيذانا ببناء مسجد كفر عرب الكبير، هكذا تقول اليافطة المثبتة جوار الحجر، إتخذه العم عبد الشقي مقعدا دائما له، كان يجلس على سطحه الأملس ليشرف على عمل ابنيه، خميس وجمعة، اللذين امتهنا العتالة بعد اعتزاله بفعل الشيخوخة والآم الظهر التي امتدت إلى أطرافه العليا والسفلى، فأنهكت جسده السبعيني.
كان عبد الشقي قد أعدّ ولديه لمواصلة مهنته التي احتكرها ما يربو عن خمسين سنة، دون أن يفكر أي مخلوق بمنافسته فيها، كان جديراً بلقب العتال التاريخي والوحيد لكفر عرب، فمن يتقدم للمنافسة، والرجل بتمتع بقوة شاحنة، وهو وحده من يحمل الكيس " أبو خط احمر" ممتلأ بالقمح او الشعير أو الأرز، ويصعد به أعلى أدراج كفر عرب دون أن يقول "أخ"، ومع الزمن وانعدام المنافسة فرض عبد الشقي نفسه كضرورة لا غنى عنها لدى مواطني البلدة، ولقد أسبغ على مهنة العتالة اخلاقيات ومواصفات شرّبها لولديه ورباهما على التقيد بها تحت شعار " العتالة كالسياقة.. ذوق وفن وأخلاق".
***
أجفل عبد الشقي حين وضع يوسف يده على كتفه كمن يوقظه من النوم.
= عم عبد الشقي. تفضل معي، جناب قائد المخفر عايزك.
= عايزني أنا. خير إنشاء الله.
= في المخفر ستعرف كل شي.
= إذا جناب القائد عايزني عشان عتلة، صدقني يا إبني ما بقدر أحمل حبة بندورة. وهاي أولادي خميس وجمعة، خذ واحد منهم أو خذ الاثنين.
= قم معي القايد عايزك إنت شخصيا ولا في عتلة ولا ما يحزنون.
غاص قلب الرجل السبعيني حتى بلغ قدميه، واضطرمت في داخله هواجس ومخاوف وتساؤلات، هي تلك التي يحس بها كل من يطلب للمخفر دون أن يعرف لماذا، ساعد السكرتير يوسف العتال المعتزل على النهوض ثم الصعود إلى السيارة الحكومية التي انطلقت بهما عائدة من حيث أتت.
يتبع..