السبت  18 أيار 2024

رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 4)

2023-07-05 09:49:49 AM
رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 4)

تدوين- نصوص 

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.

وفيما يلي نص الحلقة الرابعة: 

ونهض عزيز في صباح اليوم التالي ورأسه لا يزال مثقلاً بالأفكار وقد وطن النفس على مقابلة استير في المساء ولو كان في هذه المقابلة الحكم عليه بكل حرمان وخطر في باله أن ينتحل بعض الأعذار يمهد بها لعمه اضطراره إلى التغيب عن المنزل الليلة المقبلة. ولكنه لم يتوفق إلى شيء من ذلك، فترك الأمر للتقادير ودخل مخدع عمه ليطمئنه عن صحته ويحييه تحية الصباح، كما اعتاد أن يفعل ذلك كل يوم قبل خروجه من المنزل، فرآه جالساً على سريره ودلائل العافية بادية على وجهه فحياه عزيز وهو يظهر السرور والارتياح.

فقال له الشيخ: لقد كانت الليلة الفائتة أسعد ليلة بتها في
الأيام الاخيرة فقد قضيتها كلها نوماً دون أن يؤرقني ألم أو يزعجني، حادث، وأراني في نشاط يفوق نشاطك وعافية لا تتمتع بها أنت الآن لأني أرى في عينيك أن الكرى لم يزرهما فقضيت ليلتك مسهدا مضطرباً.. أنا لا أريد أن استشف دخيلة أمرك، ولكن يلوح لي أنك على غير هدى منه وأريد أن يكون لك من نفسك زاجر. فاذهب الآن إلى المحل واجتهد أن أقرأ في عينيك غير ما أقرأه الآن.
وما صدق عزيز أن خرج حتى تنفس الصعداء. ولم يبطئ أن خرج من المنزل وسار جهة المحل وهو في هم شديد. وقضى ذلك النهار وهو في المكتب في الطبقة العليا، لم يشرف على شيء من أحوال البيع والشراء كأن الأمر لا يعنيه ولا هو من متعلقاته.

وكان إذا سأله أحد المستخدمين أو جاء أمين الصندوق لمفاوضته في شيء يختصر المقابلة ما أمكن ويتبرم متضجراً. ولما أقبل المساء استدعى سليماً أمين الصندوق، وقال له: إن شغلا في غاية الأهمية يضطرُّني أن أغيب هذا المساء عن المنزل فأرجو أن تأخذ مفاتيح المحل إلى عمي وتشعره بالأمر واجتهد أن تقنعه بضرورة ذلك وتؤكد له أني لم أقدم على هذا الأمر إلا بعد أن اطمأنّ بالي من جهة صحة عمي وتحسن أحواله. فنظر سليم إلى عزيز شزرا وقال لبيك، فسأذكر لعمك ما تريد غير أن تغيبك لا يمكن إلا أن يكون له أسوأ تأثير في نفسه وهو سريع التأثر سريع الغضب هذه الأيام وأرى أن كل محاولة من جهتي لإقناعه بضرورة تغيبك لا تقنعه وقد لا يسمع كلامي فتكون النتيجة على غير ما تحب.

قال: هذا ما أتوقعه ولكن لا سبيل إلى النكوص عما عزمت عليه. وبعد حديث قصير في هذا الموضوع خرج عزيز من المحل، وخرج سليم وسائر المستخدمين أيضا فأقفلوا المحل وسار كلُّ في طريقه، وقد أيقن عزيز أن سليما سيحاول تسكين اضطراب الشيخ ما أمكن.

وما سار عزيز بضع خطوات حتى رأى عربة فوثب إليها وراح ينهب الارض إلى المسرح، فوصله وكان الممثلون قد شرعوا في التمثيل وغصَّ المكان بالجماهير على اختلاف الطبقات. وما هي إلا لحظة حتى برزت استير في جملة الممثلين والممثلات، فدوى المكان تصفيقاً ثم رقصت وغنّت فلم يبقَ إلاّ  من أعجب بها وسُحر بحركاتها وجمال تكوينها ولين اعضائها ورخامة صوتها وبراعتها وتفننها وكان عزيزا أكثر الحضور من أُعجب طربا وإعجابا وفخرا.
وما كاد ينتهي الفصل الاول من التمثيل ويُسدل الستار حتى هبَّ من مكانه ودخل إحدى غرف الممثلين حيث كانت استير واقفة أمام مرآة كبيرة هناك تراجع ما ستقوله في الفصل الثاني فهجم عليها وأخذ يدها وقبلها.
ولم تكن استير تنتظر مثل هذه المفاجأة، فذعرت وصاحت.
ثم تجلدت وقالت : وكيف دخلت الى هنا؟ وباي حق؟ ومن أذن لك بذلك؟ إنك قد رعبتني وعكّرت علي صفاء أفكاري فلم يعد في إمكاني أن أمثل دوري كما أريد وتزيد شهرتي ويزيد الجمهور.

فقال عزيز وهو ينظر إلى كتفيها العاريتين وذراعيها الناصعتين ولا يشبع: عفوك يا عزيزتي، فقد جئتُ لأخبرك إني هنا حسب أمرك.

- لستُ عزيزتك ولا أريد أن تقابلني ما لم أحصل على مطلوبي كله.

وأنا إنما أتيتُ هذا المساء لهذا الأمر عينه. وقد جاء ناثان الصيرفي ايضاً وفي صحبته حظيته سارة.

-نعم وقد رأيتهما. فعد الآن من حيث أتيت ولا تبلبل أفكاري قبل أن ينتهي التمثيل.

فتنهد عزيز وقال: ولكن اسمحي لي أن أمتع نظري لحظة فقط بجمالك النادر المثال. آه يا استير يا حبيبتي إنك حورية هبطت من السماء.. وليس لعين أن تبصر ما أراه  أنا الآن من هذا الجمال والسناء وهذا القد والاعتدال وما ألطف هذا الثوب الذي ترتدينه إنه لم يُخلف  إلا ليكون على هذا البدن البض الغض.

إنه يكون أجمل مما هو الآن لو زُيّن بعقد جميل من الالماس غير أن حبيبي ليس بالحبيب الكريم الذي يقدر الجمال حق قدره.

سيكون لك العقد يا سيدة الملاح ويكون كل ما تشتهين إني سأستدين المال هذه الليلة وأقدم لك كل شيء.. لقد
سحرتني يا استير وسلبت عقلي وبصري فلم أعد أبصر من الدنيا إلا جمالك ولم أعد اسمع من الانغام إلا صوتك
سأبيع روحي للأبالسة وأقدم لك الرداء والعقد.

- ولا تنس العربة.

والعربة ايضاً.

-حسن فاخرج الآن من هنا واجتهد أن يكون التصفيق حاداً.
- سيكون كل شيء على ما ترغبين.

قال ذلك واختطف قبلة من عنقها ثم خرج سريعا وعاد إلى كرسيه.
وعاد التمثيل إلى حاله إلى أن قارب الليل أن ينتصف. ولم يكن بين الجمهور من لم يدهش لبراعة استير في التمثيل والغناء وكان كثيرون من الرجال الذين جلسوا بالقرب من عزيز يذكرون اسم استير ويثنون عليها. وقد قال واحد منهم وكان صحافيا إني سأكتب غدا فصلا كبيرا في وصفها.
وقال آخر وكان شاعرا أنا لا أصدق أيها الاخوان أن هذه الفتاة بشر فهي ملك هبط من السماء وقد محـا ذكرها ذكر كل جميلة وقفت على مسارح التمثيل أو في معابد الجمال.
وقال غيره وكان ضابطاً في العسكرية يجب أن نقدم لهذه المخلوقة هدية تليق بجمالها وبراعتها في الفن. وقال آخر ولكنها يا للأسف يهودية. وقال غيره: لتكن كيفما شاءت فنحن إنما نهواها لجمالها وفنها والكل في دين الجمال والفن سواء.

وقال آخر: وزد على ذلك فالبنات الوطنيات في هذا الشرق لا ينصرفنَ إلى مثل هذه الفنون لأنّ تربيتهنَّ تختلف عن تربية أمثالهن في الغرب.

وقال غيره: وقد أصاب الشرقيون في ذلك فوقفوا حائلا منيعاً دون فشو الخلاعة والتهتك بين بناتهم ونسائهم.
وقال غيره: ما لنا ولكل هذا فإنما نحن عباد فن وعباد جمال وقد سلبت هذه الفاتنة عقولنا والسعيد منا من استطاع أن ينال حظوة في عينها.

وكان عزيز مصغيا بكل حواسه إلى هذا الحديث وقد شعر بنار الغيرة تتقد في صدره وخشي أن تكون شهرة استير سبباً لزيادة عشاقها وحرمانه أخيراً منها ولذلك فقد صمم أن لا يدع وسيلة لاحد أن يدنو منها أو يتزلف إليها بشيء.
وكان الفصل الاخير قد انتهى وسُدل الستار وأخذ الجمهور يخرج زرافات زرافات، فأسرع عزيز إلى داخل المسرح، إلى الغرفة التي اعتادت استير أن تبدل فيها ملابسها فرآها واقفة بثيابها الاعتيادية وعندها عمتها وناثان وسارة، فحيا الجميع وصافح ناثان وسارة وأراد أن يجلس فحدجته استير بنظرة حادة وقالت أراك تريد الجلوس هنا ونحن قد اتفقنا أن نتناول طعام العشاء هذه الليلة في فندق شبرد حيث نتكلم في الموضوع الذي اجتمعنا لأجله. فاذهب سريعا وهيئ عربة جميلة تقلنا إلى هناك واجتهد أن يكون عشاء هذه الليلة أشبه بمأدبة ملكية وإياك أن تقصر في شيء.
ولم يكن عزيز متوقعاً مثل ذلك. ولم يكن لديه من المال ما يقوم بنفقات العشاء والعربة على ما يريد. غير أنه خرج من الغرفة وذهب توّا إلى أمين الصندوق في المسرح وسأله أن يقرضه عشرين جنيها إلى الغد. وكان أمين الصندوق هذا رجلا يهوديا يقال له موسى وكان يعرف عزيزا تمام المعرفة ولم تخف عليه علاقته باستير. بيد أنه وجم في بادئ الامر حين فاتحه عزيز بأمر المال. ولما وعده أن يدفع له ربا هذه العشرين جنيها جنيهين ليوم واحد عاد فافتر ثغره وناوله القيمة وطلب منه صكاً بها. فكتب عزيز صكاً باثنين وعشرين جنيها يدفعها في اليوم التالي.