الخميس  02 أيار 2024

محمود درويش عند استشهاد غسان كنفاني

2023-07-08 09:10:55 AM
محمود درويش عند استشهاد غسان كنفاني
غسان كنفاني ومحمود درويش

تدوين- ذاكرات 

في الذكرى الواحدة والخمسين على استشهاد المناضل والأديب الفلسطيني غسان كنفاني، ننشر نصا كتبه الراحل محمود درويش عن غسان كنفاني في مجلة شؤون فلسطينية العدد 12 (أب 1972) بعنوان :"عرس الدم الفلسطيني". 

وفيما يلي ما جاء في النص: 

لم تختلف نهاية غسان كنفاني عن بدايته إلا بمدى ما تختلف مراحل تطور مأساة الإنسان الفلسطيني.  ولا تتصل نهاية غسان كنفاني ببدايته إلا بمدى ما تتصل حلقات هذه المراحل. 

من هنا، لا تكون هذه النهاية قفزة أو تحولا وإنما هي تسلسل طبيعي بكل ما تحمله الكلمة من دقة وفجيعة.

ذلك، لأن غسان كنفاني الذي هو رمز مكثف لالتحام ما يحمله من وجوه التعبير والممارسة، كان منسجما كل الانسجام مع نفسه التي هي قضيته ووطنه في آن واحد وكان متطابقا مع ما يمثله من سلوك وكلمة.  ومن هنا أيضا، سيجد الدارسون صعوبة واضحة في محاولة تصنيف شخصيات غسان كنفاني، لأن فصل الواحدة عن الاخرى قد يؤدي إلى عملية قتل.  لأن غسان كان واحدا لا يتجزأ مهما تعددت ظواهره ومظاهره التعبيرية.  وهذه الحقيقة النادرة في تاريخ ممارسة الكتابة العربية الحديثة هي ذاتها، ما تعطي غسان كنفاني هذا الحجم الذي يفجر حياته القصيرة ويتجاوزها. إنه شبيه بالينبوع الذي لا يتسع مجرى النهر لغزارة مياهه، فيفيض جداول فرعية توهم الناظر إليها بأنها مختلفة. وهي ليست سوى أشكال متعددة لجوهر واحد.

غسان كنفاني الذي هو رمز مكثف لالتحام ما يحمله من وجوه التعبير والممارسة، كان منسجما كل الانسجام مع نفسه التي هي قضيته ووطنه في آن واحد

عاش غسان كنفاني حياة قصيرة، ولكنها عريضة كما يقولون.  ولم يكن ابنا باراً لشعبه ووطنه بالمفهوم الأخلاقي للكلمة فحسب. ولكنه كان ابنا بارا لشعبه ووطنه بالمفهوم الإبداعي للكلمة أيضا. ما اختار مصيره وبدايته، ولكنه اختار الإلتزام الإبداعي بتطوير هذا المصير، فكان من الرواد الأوائل للإرهاص الوجداني والفكري بميلاد الشخصية الفلسطينية الجديدة. وهي الشخصية المقاومة.  لم يجهض هذه النتيجة الحتمية بتكهنات مترفة. فقد رافق الشخصية الفلسطينية -وهي هو على السواءـ منذ مرحلة التمزق الأولى، إلى مرحلة التشرد والضياع، إلى مرحلة الذل والإبادة، حتى مرحلة المقاومة والموت. لم تكن غربته شخصية، فالتمزق الراهن ناتج عن تمزق آخر هو تمزق الوطن. وهكذا توحد السعي نحو إلتئام الشعب الفلسطيني مع السعي نحو إلتئام الوطن.  وكان غسان كنفاني – الفلسطيني حتى النخاع - من رواد الباحثين الأكثر أهمية عن تجميع ملاحم هذه الهوية الفلسطينية التي أن تلتئم ما دامت لاجئة. من هنا يصبح التمرد على صيغة اللاجئ هو مفتاح امكانية العودة. كيف يكون هذا التمرد؟

الموت واقع لا ينجو منه الفلسطيني، ولا يملك إزاءه اختيارا.  ولكن بوسعه أن يختار طريقته الخاصة في الموت. وهكذا عثر غسان كنفاني - الفلسطيني والفنان- صيغة الفلسطيني المقاوم، صاحب الماضي العريق في المقاومة، ثم تجسدت المقاومة بالكائن البشري الذي يمارسها وهو الفدائي.

الموت واقع لا ينجو منه الفلسطيني، ولا يملك إزاءه اختيارا

لم يكن غسان كنفاني صبورا، فمن وصل ساحة الموت لا يتحلى بالصبر. إن شراهة الحياة تجعله كالعاصفة مندفعا ومتفجرا على الدوام. ووصف المقاومة والفداء ليس صفة غسان.  انخرط في الممارسة النضالية وسط شعبه، وهنا، أيضا حقق التطابق الرائع بين حركتين أو بين ثوريتين - حركة مضمون الأدب الثوري والممارسة الثورية فكان نموذجا لتلاحم من طراز فريد.  يتساءل النقاد والادباء عن دور الأديب إزاء كل محنة، وكثيرا ما يطرح هذا التساؤل في المواسم المأساوية. ولكن مأساة غسان لم تكن موسمية.  وتلك حقيقة بسيطة لا يعيها الجميع. ومن هنا، لم يتساءل غسان دوره.  لقد مارس دوره بهذا الزواج الخلاق بين الحلم وبين قبضة اليد، بين الكلمة وبين الخطوة. ولم تكن نهايته طلاقا لصحبة العمر أو قدر العمر، وإنما كانت حفلة زفاف دموي لذلك الزواج التاريخي الذي لم تتح لنا الأيام العاصفة فرصة الاحتفال به. هكذا التحمت نقطة النهاية مع نقطة البداية لتشكل دائرة رمزية متوهجة لتاريخ غسان كنفاني ولتاريخ شعب فلسطين ولتاريخ الصراع.

كل الناس لاحظوا التشابه الرمزي الجارح حتى البكاء بين مأساة البداية ومأساة النهاية بين جسد غسان وبين جسد الوطن..

بين طريقة تمزيق غسان وبين طريقة تمزيق شعب ووطن.  وغسان كنفاني نفسه كان يلاحظ هذا التشابه قبل وصوله إلى حد التطبيق. لقد وصلت رؤياه إلى النهاية قبل أن يصل جسده.

من هنا، تكون حياة غسان درسا لا رمزا فقط.  ليس الدرس الذي ينتظره الاعداء - النهي عن المسيرة ونشر الفزع في القلوب. ولكنه الدرس الذي ينتظره الثوريون الحقيقيون - تعميق الإصرار على الاستمرار، وتحرير الرغبة في الانتقام من معناها القديم وإغناؤها بمزيد من الالتزام الثوري الخلاق بالوطن والثورة، لأن مقتل غسان لا يعادله مقتل عدو مهما كبر، لا يعادله إلا المثابرة على تحقيق احلامه وأحلامنا التي نسفته. وهو درس لكل من يتعامل مع القلم الصادق، لا الدرس الذي ينتظره الاعداء - تنصيب شبح اسرائيلي على عقل الكاتب ووجدانه.  ولكنه الدرس الذي ينتظره الثوريون الحقيقيون - تحرير القلم من التردد إزاء النكسات، وتحقيق الوحدة والتزاوج العميقين بين حركة الفكر والإبداع وحركة الثورة.

حياة غسان درسا لا رمزا فقط.  ليس الدرس الذي ينتظره الاعداء - النهي عن المسيرة ونشر الفزع في القلوب. ولكنه الدرس الذي ينتظره الثوريون الحقيقيون 

أن استشهاد أول كاتب فلسطيني منذ ما يزيد عن عشرين عاما لهو دليل ساطع على خطورة القلم في مسيرة الإنسان الفلسطيني وعلى دوره الخلاق في المعركة من ناحية، وهو دعوة للكتاب إلى سد الفراغ الذي يتصور الأعداء أنهم قد خلقوه بغياب غسان كنفاني من ناحية أخرى لقد علمنا غسان دروسا كثيرة في الانسجام والصدق والاحتراق من أجل قضية قاتلة.

وأول ما علمنا إياه هو أن الفلسطيني يفقد ذاته وحضوره الإنساني في العالم والكون إذا كف عن أن يكون فلسطينيا.  والفلسطينية ليست انتماء الوراثة والحنين إلى أشياء ضائعة وانتظار الانبعاث العربي. الفلسطينية معناها ثورة، وتغيير، وتفجير، وإبداع. إن غسان درس سياسي وأدبي وأخلاقي معا. لم تذهب لحظة من حياته سدى. كان ملحمتين: ملحمة شعب، وملحمة ابداع. لا تعرف أين يبدأ غسان الثائر وأين يبدأ غسان المبدع.  ذلك لأن الثورة الحقيقية والإبداع الحقيقي معادلة واحدة. الثورة إبداع. والإبداع ثورة.  لقد إختار الموت المبدع تعبيرا مأساوياً حتميا عن انتمائه إلى الحياة ولكنه لم يتمكن من إختيار الأرض التي يموت فيها. هذه هي مأساته، وهذه هي مأساتنا جميعا. وتلك هي القصة الباقية مهما بلغنا من سعادة الموت الحقيقي المختار.

هذه هي المأساة.

وهذه هي الوصية...

لأن موت غسان كنفاني ليس موت كاتب أو مناضل فقط.

أنه انفجار قضية..

قضية شعب.

وقضية وطن.

محمود درویش