تدوين- نصوص
في ذكرى استشهاد الأديب والمناضل غسان كنفاني، ننشر ما كتبه شقيقه مروان كنفاني في كتاب "سنوات الأمل" الصادر عام 2008 عن دار الشروق في القاهرة.
واستشهد غسان كنفاني رفقة ابنة أخته لميس، في بيروت في الثامن من تموز عام 1972 إثر انفجار عبوة ناسفة وضعت في سيارته.
وفيما يلي ما كتبه مروان عن شقيقه غسان:
لم يكن غسان كنفاني عنيفًا، وإنما كان يؤمن بالقوة والمقاومة المسلحة وحدها وسيلة لاسترداد الأرض التي سلبت من شعبنا بالعنف والقوة، ولم يكن يخفي هذه القناعة. كان غسان شخصًا صادقًا دمثاً مهذبًا موهوباً محبًا للحياة. كانت موهبته في الكتابة والتأليف قد تفجرت فجأة أثناء دراسته الثانوية في دمشق، حيث كانت أسرتنا قد استقرت بعد رحلة هجرة طويلة، واستمر عطاؤه الأدبي في قصص طويلة وقصيرة ومقالات ومسرحيات أثناء عمله كمدرّس للرسم في مدرسة الأليانس للاجئين في دمشق، ثم مدرّساً في الكويت، فكاتباً وصحفياً ورئيس تحرير مجلة الهدف التي كانت تصدرها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بيروت.
يعتبر كثير من النقاد أن قصته القصيرة رجال في الشمس هي التي ساهمت في تفجير الثورة الفلسطينية الحديثة في ستينيات القرن الماضي. كان غسان أيضًا أقرب إخوتي إلي فقد كان يكبرني بعامين فقط، وقضينا أنا وهو وأخي الأصغر عدنان فترة طويلة من طفولتنا في قرب شديد. كنا نلعب سويًا وكذلك نتحدث ونحلم ونستمع إلى أحاديثه الأخّاذة عن يافا وعكا وبطولات الفلسطينيين في مجالات مختلفة. وكنت أنا وأخي الأصغر أكثر شقاوة منه ولكنه كان صاحب التأثير والاحترام الأكبر والمعرفة والإطلاع والقدرة على إقناعنا بتسيير الأمور كما يرى. ولقد عشت معه مغامراته العاطفية وشاركته أصدقاءه وتطوعت لمرافقته واشتبكت في معارك من أجله كثيرة مع أولاد الحي وتعلمت منه وأسكنته قلبي وما زال.
كان غسان مصابًا بمرض السكر منذ صغره وكذلك كانت أختي الكبيرة ولم يكن أحد آخر من العائلة مصابًا بهذا المرض. كان يحظى بسبب ذلك ونظرًا أيضًا لرقته وتهذيبه وعطفه، على حنان والدتي وأختي الكبيرة التي قامت بتربيتنا والعناية بنا والتي فقدت ابنتها البكر والوحيدة جراء الانفجار الذي أودى بحياة غسان صباح اليوم الثامن من شهر يوليه عام 1973.
كان غسان ضعيف البنية بسبب المرض رغم أنه كان يمارس رياضة كرة السلة في شبابه مع أصدقائه المدرسين. ونتيجة لحالته الصحية التي أثر عليها أيضًا كثرة التدخين الذي كان غسان مولعًا ومدمنا له، فقد تحالفت العائلة بكاملها مع زوجته السيدة آني في نهاية شهر مارس من ذلك العام لدفعه للتوقف عن التدخين، وقد لعبت خالتي وابنها فاروق الصديق القديم الدائم لغسان، دورًا كبيرًا في إقناعه بذلك، الأمر الذي تسبب في شكواه المستمرة لي بسبب زيادة وزنه. كان غسان واحدًا من ذلك الرعيل الرومانسي، الذي كنت أنا أيضًا جزءًا منه، الذي كان يعتقد بالعدالة المحتمة التي سوف تنالنا كفلسطينيين فيما لو عرف العالم حقيقة ما جرى لنا خلال أيام الهجرة من بلادنا، ذلك الرعيل الذي كان يعتقد أن الكفاح المسلح سوف يقودنا بقوته الذاتية وعدالته إلى تحقيق أهدافنا. لم نكن ندرك بعد حجم ردود الفعل الإسرائيلية، ولا موقف السياسات العالمية ومصالح الدول وأهدافها. كان السلاح بحد ذاته بالنسبة لنا، على ندرته وتواضع إمكاناته، هو أول الطريق وآخره، الأمر الذي تعلّمنا في وقت لاحق، وبعد دفع ثمن باهظ أن لهذا السلاح حدين أحدهما لنا والآخر لغيرنا. ازداد قلقي على غسان بازدياد الحملات الصحفية والرسمية الإسرائيلية عليه والتركيز على دوره القيادي في الجبهة الشعبية كنت أعرف أنه لا علاقة لغسان في العمل الميداني الذي كان من اختصاص جماعة مغلقة ومستقلة ترتبط فقط بالأمين العام للجبهة الشعبية، الدكتور حبش.
في نهاية شهر يوليه من نفس العام، وقبل اغتيال غسان بحوالي أسبوع، علمت أنه قد طلب من المسؤولين عن الأمن في الجبهة الشعبية سحب الحراسة المقررة له، التي كانت مجرد شخص واحد يحمل مسدسًا قديمًا، ملفوفا بجريدة يومية لإخفائه، يجلس على كرسي في مدخل البناء الذي يسكن فيه غسان، وعندما اتصلت بغسان مستفسرًا عن السبب أخبرني أنه ليس محتاجًا لها حيث إن لديه مسدسًا صغيرًا يحمله معه، ولكنه أشار إلى أن بعض البيانات الفلسطينية قد صدرت منددة بالقيادات المقيمة في الأبنية الفاخرة في الأحياء الحديثة، والذين يشغلون المقاتلين بنوبات الحراسة على أبواب بيوتهم. اتصلت بعده بعلي سلامة راجيا تأمين حراسة من قبله على منزل وتحركات غسان ووعد بالاتصال بمسؤولي الجبهة الشعبية في هذا الشأن، ثم عاد ليبلغني أنهم قد أبلغوه باستمرار الحماية والحيطة في هذا الشأن، الأمر الذي لم يمنع تفجّر العبوة الناسفة التي وضعت في سيارته الصغيرة أثناء الليل الذي سبق صباح ٨ يوليه. كنت قد قررت السفر لبيروت وحجزت مقعداً على طائرة طيران الشرق الأوسط في أقرب وقت متاح للسفر في ظل ازدحام الرحلات الصيفية للطائرات المتجهة إلى بيروت، وتحدد موعد سفري، في مصادفة قدرية، ضحى يوم 8/7/1973.
كنت على وشك المغادرة إلى مطار القاهرة في ذلك اليوم عندما اتصل بي أحد زملائي في العمل، وأخبرني أنه تلقى خبرًا عن انفجار قنبلة قرب سيارة أخي غسان وعن إصابة غسان وابنة شقيقته لميس نتيجة لهذا الانفجار. ولم يخبرني ذلك الصديق أو ربما تجنب إعلامي أن كليهما قد قتل. علمت عند وصولي إلى مطار بيروت أن القنبلة كانت مزروعة داخل السيارة وأن غسان ولميس قد قتلا. توجهت إلى منزل غسان كان هناك حشد من رجال الشرطة اللبنانية، ومسؤولين سياسيين لبنانيين وفلسطينيين، ورجال التحقيق القضائي والأصدقاء والجيران وكذلك عدد من المسؤولين الأمنيين في الجبهة الشعبية الذي كان يرأسهم شخص يدعى أبو أحمد يونس، المسؤول الأول عن الأمن فيها. كانت أختي التي جاءت من الكويت لقضاء إجازة الصيف في لبنان وأقامت في منزل غسان، والتي فقدت ابنتها وأخاها في الانفجار، محاطة بأفراد عائلتي وأقاربي وهي في حالة من الهيستيريا. علمت هناك أن غسان كان سيصطحب ابنة أخته لميس صباح ذلك اليوم إلى الجامعة الأمريكية في بيروت لإتمام إجراءات تسجيلها في الجامعة حيث إنها قد أنهت دراستها الثانوية في الكويت، وإن الانفجار حصل بعد بضع ثوان من تحريكه السيارة التي كان يقودها بنفسه إلى الخلف للخروج من المساحة المفتوحة تحت البناء، كان الانفجار سوف يتسبب في انهيار البناء بكامله لو تم في المكان المخصص للكراج والذي
كان يقع أسفل البناء. كانت السيارة مهشمة تمامًا وقد تناثرت قطعها التي كانت تحمل معها أجزاء من الضحيتين، في كل مكان. بدا للمحقق العسكري اللبناني أن التفجير قد تم عن بعد وفي مجال الرؤيا حالما خرجت السيارة من أسفل البناء، بينما أخبرني مسؤول الأمن في الجبهة الشعبية، الذي تم إعدامه في وقت لاحق من قبل الجبهة لتورطه في قتل أخت السيدة ليلي خالد وزوجها في منزلهما في بيروت أن لديه شكاً في أحد الأبنية على الجانب الآخر من الوادي، حيث كان في الطابق الثاني أو الثالث شباكًا خشبيًا مغلقًا، وطلب مني أن أراقب تلك النافذة وأعلمه إذا تم فتحها. ذهبت صباح اليوم التالي إلى ذلك البناء الذي كان لم يسكن بعد وجميع نوافذه على مختلف الجهات مغلقة، وحتى غادرت بيروت بعد الحادث بحوالي عام كنت أتعمد النظر إلى تلك النافذة التي لم يتم فتحها أبدا.