تدوين- نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.
وفيما يلي نص الحلقة الخامسة:
لم ينقض بعد ذلك إلا بضع دقائق حتى كان الأربعة عزيز واستير وناثان وسارة - في عربة من العربات الكبيرة الجميلة تنهب الارض إلى جهة فندق شبرد وما هي إلا عشرون دقيقة حتى وصلوا وطلبوا عشاءً في ردهة جميلة من ردهات ذلك الفندق المشهور وجلسوا يتجاذبون أطراف الحديث وقد صُفّت أمامهم زجاجات الخمور على أنواعها.
فقالت استير: نحن الآن في أواخر شهر تموز ولكني شعرتُ بحال خروجنا من المسرح ببرد شديد لا أزال أرتجف منه حتى الآن وأخشى أن يصيبني بسبب ذلك حمى تقعدني في الفراش أياما.
فضحكت سارة وقالت حقا إن البرد شديد فلماذا لا ترتدين فروة أو غير ذلك من الأردية الثقيلة في مثل هذه الليلة؟ قالت: ذلك لأن عزيزا يريد أن يدفئني بالكلام فقط. فقد وعدني منذ زمان بفروة جميلة ولا يزال يعدني بها.
فقال عزيز: غدا أو بعد غد تكون لديك فروة من أحسن الفراء وأجملها وأثمنها فلا تستائي يا عزيزتي.
وقالت سارة: إن استير من الممثلات النادرات المثال بالجمال والفن وقد رأيتُ الليلة منها ما أدهشني وأدهش الجمهور كله. فمن الحيف أن تُحرم شيئاً من أسباب السرور والانبساط.
استير: وزيدي على ذلك أن عزيزا من أهل اليسار ولا يهمه أن يشترى فروة و فروتين كل يوم ولكنه بخيل من الدرجة الأولى. وأنا لو أردت أن أسلم زمامي إلى غيره ممن يتهالكون في سبيل مرضاتي لحصلتُ على كل ما أريد وأكثر مما أريد.
عزيز: لا تصفيني بالبخل أيتها الحبيبة وقد قلتُ لك أن
غناي ليس في يدي الآن ما دام عمي حياً يُرزق. فانتظري قليلا إلى أن أصبح ولي أمري ومطلق القيادة في أشغالي.
استير: إذا كنت صفر اليدين من المال وعمك في هذا الغنى العظيم فلا أسهل من أن تستدين قدر ما تريد. ولكنك قليل التدبير قليل السعي بل أنت أحمق ومجنون.
فظهرت على وجه عزیز علامات الغيظ وقال: ولكن بماذا أسأتُ إليك حتى تعامليني بمثل هذا الاستخفاف أمام الغير؟
استير: لا تغتظ أيها الحبيب فما كلامي إلا من باب المداعبة ولا غريب بيننا الآن لأننا كلنا أصدقاء.
عزيز: أنت تعلمين أن عمي على فراش الموت فهو لا يمشي ولا يضطجع بل ينام جالساً، وأنا لا أجد وقتاً أستطيع أن أفارقه فيه لحظة، وإذا وجدت فإني أستخدم هذا الوقت لمقابلتك، ولذلك يعسر علي جداً أن أستخدم هذا الوقت القصير لتدبير المال، فضلا عن أني لم أعتد الإستدانة قبل الآن.
قال عزيز ذلك وعلامات الإنقباض والتأثر لا تزال مرتسمة على وجهه، فأخذته استير برأسه وعزّته في خده وقالت: أنت تعلم أني احبك بكل جوارحي، فأريد أن تقابلني بالمثل ولا تدعني في حاجة إلى شيء. وكلنا نعلم أن عمك من كبار أهل اليسار وأنك وريثه الوحيد وأنه قد شاخ جدا وثقل مرضه، فلم يبق لك والحالة هذه إلا أن تستدين شيئا من المال من بعض الاصدقاء، فأكون كلّي لك.
عزيز: وإنا لا أريد إن أعصي لك أمرا وهذا ما جئنا لأجله إلى هنا.
استير: نعم، وقد أدرك المسيو ناثان الأمر، وهو مستعد أن يسلفك ما شئت فاغتنم هذه الفرصة واسأله حاجتك.
ناثان: إني مستعد أن أساعد المسيو عزيزاً بكل ما استطعتُ إلى ذلك سبيلا، غير أن المال في هذه الايام قد أصبح عزيزا جدا، لأن الناس يتوقعون الحرب العامة من يوم إلى آخر، وأصبح كل ذي مال حريصا على ما لديه خشية الوقوع في أزمة مالية تضطرب لها البلاد. وقد سمعت اليوم أن النمسا شهرت الحرب على الصرب وأخذت تطلق مدافعها على عاصمتها بلغراد فإذا صح الخبر ولا أظنه إلا صحيحا فستعلن روسيا الحرب على النمسا وتعلنها المانيا على روسيا وتعلنها فرنسا على المانيا وقد تنحاز انكلترا إلى جانب فرنسا وروسيا فتعلن الحرب على ألمانيا وتركيا على انكلترا وروسيا وفرنسا. فيشتبك العالم كله في حرب طويلة الأمد كثيرة الويلات. وهذا الآن أكبر الاسباب التي تضطر أصحاب الاموال إلى الاحتفاظ بأموالهم وعدم المجازفة بها.
استير: دعنا بالله من الحرب لأني أخشاها وأرتجف من ذكرها، وهات دبر لنا مسألة عزيز بكل ما لديك من الوسائل.
فقال ناثان لعزيز وكم هي حاجتك إلى المال؟
عزيز: يكفيني خمسمئة جنيه تسلفني إياها بأي رباً شئت.
قال: أنا لا أسلف أحداً شيئاً لأني لست من ذوي الأموال ولكني سأجد من يقدم لك المطلوب على شروط لا بد منها لي وله.
عزيز: سواء كان المال منك أو من غيرك فأرجو أن تسهل لي هذا الأمر.
استير: ولا تخش یا مسیو ناثان عدم الوفاء لأن لعزيز عماً غنياً جداً لا شيء في نظره مثل هذه المبالغ الصغيرة.
ناثان أنا أعرف الناس بعمه ولذلك فلا يريبني من جهته شيء.
فقالت استير لعزيز فما دام الأمر على هذه الصورة والحرب على الأبواب فاستدن ألف جنيه دفعة واحدة.
عزيز لا، فقد يكفيني الآن خمسمئة.
ناثان: نعم وتدبير الخمسمئة جنيه الآن من أصعب الأمور
ثم أطرق قليلاً وقال : ويلوح لي أن المسيو عزيزا يريد أن يشتري بهذا المال بعض الاشياء كفروة وغيرها.
استير: نعم فإنه يريد أن يشتري لي رداءً مبطنا بالفراء وعقداً من الألماس وغير ذلك.
ناثان: فأنا أرى والحالة هذه أن يبتاع الرداء من أحد الفرائين والعقد من أحد الجوهريين وغيره من غيره، كل شيء بسعره ورباه.
استير: بورك فيك يا مسيو ناثان ما أحضر ذهنك وأحكم تدبيرك.
عزيز ولكني في حاجة إلى المال أيضا.
ناثان: وستأخذ مالاً أيضاً فإننا نستطيع أن نشتري فراءً أو
عقودا أو آلات موسيقية من بعض التجار ثم نبيعها فيكون
لك ما تشاء من البضاعة والمال من أهون سبيل وبخسارة
قليلة وهذا أيسر وأقرب تناولاً من استدانة الأموال رأساً.
فقالت استير لعزيز إذا كان الأمر كما يقول فلا يبقى لك إلا أن تفوّض إليه الرأي وتتمما المسألة غداً، وغداً يكون عندي العقد والفروة.
وما زالوا في مثل هذا الحديث حتى اقتنع عزيز برأي ناثان واتفقا على أن يذهبا في الغد لتدبير الأمر. وقد وافق عزيز على أن يكون الربا عشرين في المئة لأصحاب البضاعة وخمسة في المئة لناثان. وكانوا قد فرغوا من الشراب وحضر الطعام فأكلوا، ثم عادوا إلى منازلهم، وأكثر الكل سرورا استير بما وعدت به من الهدايا السنية، وناثان بالربح الكثير.