الإثنين  06 أيار 2024

تَمشِيَة الحب: هامش قصير على سيرة " خالد في حياتي" لريما كتانة نزّال

2023-07-11 10:40:30 AM
تَمشِيَة الحب: هامش قصير على سيرة
غلاف كتاب "خالد في حياتي"

تدوين- أحلام بشارات

لو أن الحب إشاعة تتفشى من حين لآخر بين الناس؟ لو أنه النميمة الأكثر حضورا في مجالس الرجال والنساء أكثر من الحرب؟ لو أنه حبة الخضار التي لا يستغني عنها أي بيت، حتى لو كان رأس يصل؟ لو أنه أنتِ وهو ولا تطلع الشمس إلا بكما، من اجتماع الأيام السوداء، بالأبيض الذي لا يجب أن يظهر واضحا تماما، برمادية الحب والمنفى، بصفار البيض على فطور صباحات دمشق؟ لكانت الشائعة وصلتني وأنا أمرّ لسنوات من بين الرجال المجتمعين على مقاهي قباطية، على الطرفين، فأشعتُ الاشاعة، وشاركت بالنميمة.

يقولون، وقد تكون هذه اشاعة أو نميمة، إن أهل قباطية يبيعون ويشترون ويزوّجون ويطلّقون على المقاهي التي تحد الشارع وهو يمرّ على جبهة البلدة، راسما خطا خفيفا على شرقها، وهنا تحديدا، وأنا أمضي، في سفري لمدينة جنين، كان ولا بدّ أن أنال خبرا من قصة الحب تلك؟ لكن المحاجر، كما الناس، صمتت ولم تتكلم، ولم يخبرني أحد أن الصخور طرية في قباطية إلى ذاك الحد، وأن امرأة من طولكرم كانت تمسك بقطعة صغيرة من تلك الصخور، اسمها خالد، وتمررها على خدها، صباح ومساء، في سبعينات القرن الماضي، ولا ينجرح خدها، بل يزداد رقّة وشفافية!

يحدث أن يرفرف الحب في كتاب ولا تقبض عليه الصفحات، بل يحبه القلب، يصبح شريكا فيه، كأنه قصته، كأنني مثلا كنت خلف الكاميرا التي ظلت ريما من حين لآخر، في صفحات سيرة حبها وخالد، تثبتها على مشهد، بين الفرح والحزن

وكيف أقبض على هذا الحب وهو يرفرف هكذا، ثم لا أعيده فوق الجبل هناك، لينزل، ويشرب من كوباية ماء، كأس زجاجي بقامة قصيرة وبكعب عالٍ، فوق طاولة يتحلّق حولها الوالدان اللذان، كما ردد والد ريما ممازحا، سيعقد أحدهما قرانه على الآخر، وأنتما الاثنان في دمشق، ثم أقول للحب: لقد شربت، فطر، فيطير؟ ثم يضحك الوالدان، الفلاح والمدنيّ، ويضحك الفارس القبطاوي والبرجوازية الصغيرة الكرميّة!

يحدث أن يرفرف الحب في كتاب ولا تقبض عليه الصفحات، بل يحبه القلب، يصبح شريكا فيه، كأنه قصته، كأنني مثلا كنت خلف الكاميرا التي ظلت ريما من حين لآخر، في صفحات سيرة حبها وخالد، تثبتها على مشهد، بين الفرح والحزن، في استبصار لفقد آتٍ. من منا سيقرأ هذا الكتاب ولا يكون خلف الكاميرا ولا يستعير يدي ريما؟ ومن منا لم يجد قلبه هناك، وعصره، كحبة ليمون، فوق ورقة وأخرى، فتعطرت الورقة وبكت؟

كانت فلسطين الرقراقة تنطوي أيضا مثل صفحة مصنوعة يدويا، بها نتوءات صغيرة تكبر لتصبح جبالا، وتهبط لتنتظم في بطن السهول، ثم تتموج لتسير فوق حب المناضلين، في سيرة طويلة لقصص حب الأسرى والشهداء، كقارب صغير من الورق، أدفعه بيدي في الماء، أقول له: اذهب، فيذهب.

أكون على الضفاف، ومثلما تقطع ريما الجسر، والاحتلال ينفيها خارج البلاد عام 1969، أكون هناك وألوّح لها، ترسل ريما نحو الجندي نظرات مترددة، وتنتظر أن يقول، وهي تسير فوق الجسر الخشبي الذي يستقيم فوق النهر: ارجعي. لكنه لا يقول، لكنني أقول: ارجعي يا ريما، فترجع بعد سبعة وعشرين عاما، فأنا أيضا  كنت هناك على الجسر، بين الضفتين الشرقية والغربية، أودع المسافرين وأستقبلهم، المنفيين في كل سنوات نضالنا منذ عام 1948، ومن منا، ممن يقرأ سيرة حب خالد وريما، ولا يكون هناك يستقبل ويودّع؟

ريما كتانة نزال

ستلتحقون بي، مجموعة من الفتية، فنقف معا على برندة بيت عائلة كتانة، في طولكرم، ونتجول حوالي جامعة خضوري، ونراقب صعود صوت صافرة القطار، أقول لكم: هيا اصعدوا، فتصعدون. كم اشتهينا أن نصعد، مع صوت الصافرة، في القطار الذي ظل يمر من أطراف طولكرم قبل عام 1967، لكننا لم نلحقه كأنّ، أجيال كاملة تأخرت عن تاريخها. خانته أو خانها!

أطوي منشفة الحب مع ريما من صفحة إلى صفحة، منشفة مشغولة بالدموع ومعطّرة برائحة الحبيب خالد، منشفة نزقة ورزينة وحذرة كريما، في صباحات الحب المبلّل، فلا تنثال على الجسد إلا إذا اطمأنت له: أليس الحب كائنا وغطاء، يلبسنا أحيانا، وأحيانا نلبسه! لا حاجة للحب أن يكون صلدا على كل حال، ففي النهاية هو قطعة السكر المربعة التي تذوب في فم أحدهم، ولا يحتاج الأمر لاكتشاف، سوى بتلك الحركة الخفيفة، من الاصبع الشاهد، على جسد الحب، ووضعها في الفم مغمّسة باللعاب. ما هذا العسل الحزين هنا في سيرة: خالد في حياتي؟

لا أستطيع أن أعدد التواريخ، ولا أن أعدد أسماء الرفاق، ولا أن أعدد الأماكن، ولا أن أذكر اسم أحد، فكأننا نحفظه جميعا عن ظهر قلب، وكل ذلك عجنته ريما بالطحين فصار زلابية الحب. أقلّب الصفحات، فينز دمعي والعسل من أطراف الكتاب، وأقول لحبيب في رأسي: حاذر أن يذيب أحدهما الآخر، فبركة دموع الحب تعادل رائحة الحب وطعمه. فما هذا الطعم الذي أتشردق به، فأعيد صياغته في بلعومي ومجرى تنفسي، فيكون القوت والنَّفَس! كيف استطاعت هذه المرأة أن تعيشه، وتستمر بعيشه، ثم بتمشيته بيننا، في هذه المدينة، رام الله المحتلة، ثم أن نكون قريبتين إلى هذا الحد، ولا تطلق الإشاعة: قولي، هيا قولي، متى ستلتقيان أنت وخالد؟ في أي مقهى؟ الاشاعة حقيقية فلا تخفيها ولا تخيفيها، ثم تغفيها في قبضتك  كعصفور الساحر أو أرنبه، ثم تكتبي كل هذا الحب وتقولي إن خالد نزال قد مات؟ لن أصدق، سأجر الاشاعة من أذنها كسخل تربّى على صفحة جبل قريتي الحدودية، إلى مقهى قريب يجلس فيه الرجال، ربما مقهى " القمر الازرق" الذي أجلس فيه، فتأتيني أرجيلتي، وأنا أدلف المكان، مطواعة، وملتهبة، وجاهزة لرئتيّ، امرأة وحيدة تجلس بين الرجال، تراقبهم ويراقبونها دون أن يعني ذلك شيئا:  تعالي أيتها الاشاعة، واسمعوا أيها الرجال، تعرفون المناضل خالد نزال، أحد أبرز قادة العمل العسكري في الثورة الفلسطينية، الذي سافر الى أثينا عام 1986، سيعود غدا صباحا، فمن يتبرّع لاحضاره من استراحة أريحا؟ إن لم تجده فسيكون  قد عاد البارحة، صباحا، متسللا مع طراوة تموز، قبل أن تشتعل الشمس في الغور، فتحدِث فتنة الهاجرة. كان علينا أن نحتفظ ببعض الخصوصية في هذه البلد التي كشف الاحتلال أعضائها كلها، كان علينا أن نترك بعض السريّة للحب مجبولا بالنضال، فلا تُشِع الأمر، كيلا تتوزع نميمة الحب هنا وهناك، ففي النهاية عُد فارغا، خاليا من رفيق، لكن عُد، فمن يدري من أنت؟ أنا لا أدري، ربما أنت شخص آخر يُمَشّي الحب من جانبي ويشيعه!

الشهيد خالد نزال