تدوين- نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.
وفيما يلي نص الحلقة السادسة:
ونهض عزيز في صباح اليوم التالي من الرقاد وليس لديه شيء من المال. فضحك من حالته لأنه لم ير أنجع دواء لما هو فيه من الهم والقلق إلا الضحك. ولم يشأ أن يسترسل في التأمل أو يفتكر في ما عساه أن يقول لعمه عن سبب غيابه. وبهذه الحالة خرج من مخدعه وقصد غرفة عمه. فألفاه جالسا في سريره فتقدم إليه وحيّاه.
وكان الشيخ قد سرَّ لقدومه عليه وهو في تلك الحالة من الانبساط والانشراح. وكان هو أيضاً قد نام تلك الليلة نوما هادئا لم يشبه انزعاج وأصبح في عافية ونشاط. فقال له: انتظرتك أمس المساء بطوله فلم تحضر فعسى أن لا يكون غيابك إلا لأمر يعود على المحل بالفائدة والخير.
ولم يكن عزيز ينتظر مثل هذه المجاملة من عمه فسر وزاد وجهه اشراقاً وقال: نعم يا عماه فلم أقض الوقت إلا في درس ما ستؤول إليه حالة التجارة في هذه البلاد بسبب الحرب التي أعلنتها النمسا منذ أول أمس والتي لا تلبث أوروبا بأسرها أن تخوض غمارها.
قال: نعم. إنها حالة مقلقة وقد قرأت لي نجلاء البرقيات الأخيرة فدهشت لرفض النمسا كل توسط سلمي أو تحكيم دولي بينها وبين الصرب. وظهر لي أن لألمانيا يداً قوية في حمل حليفتها على هذا الرفض لما تتوقعه من المنافع الجمة التي تظن أنها ستجنيها من وراء ذلك.
وكان عزيز لا يميل إلى السياسة ولا تهمه الحرب، لأن في نفسه حرباً أخرى كانت تستغرق كل أوقاته ولا تترك له فرصة للاهتمام بأمر آخر غير أنه كان يصغي إلى أحاديث السياسة ويطالع بعض الصحف من حين إلى آخر إرضاء لعمه ليس إلا. وكان إذا فاتحه عمه في هذا الموضوع يعلم أنه في ارتياح وسرور فيسرد له كل ما سمع وقرأ في يومه وهو يعلم أنه كلما زاد في الخبر ازداد عمه ابتهاجاً وارتياحاً. فلما أشار الشيخ إلى يد ألمانيا الخفية في اضرام هذه الحرب قال عزيز: وقد ذكرت الصحف أن روسيا أصدرت أمرها بالتعبئة العامة انتصارا للصرب.
قال: هذا منتظر من روسيا لأن صربيا ربيبتها وقريبتها جنساً ومذهباً فلا ينتظر من روسيا أن تدع النمسا تطأ الصرب تحت أقدامها. ولكن الغريب أن تكون ألمانيا هي الراغبة في هذه الحرب والنافخة في نارها وهي الدولة النشيطة التي بلغت في ميدان الرقي المادي والأدبي شأواً لم تبلغه امة من الأمم الاوروبية
الأخرى في مدة قصيرة. فكيف تريد الآن حرباً ستكون ولا شك أعظم مأساة بشرية هولاً وفظاعة وتعود بالأمم كلها إلى الوراء مسافات شاسعات.
ثم تنهد الشيخ وقال: وما هذه الحرب إلا عاصفة جنون هبت على العالم لتزعزع أركان الدول وتهدد كيان المدنية.
فقال عزيز: يقال أن المانيا تستعد لهذه الحرب أربعين سنة كاملة.
قال: كل أمة تستعد لمثل هذا اليوم العصيب. غير أن ألمانيا أكثر الأمم استعداداً لكل طارئ وهي الآن في أحسن أدوار حياتها وكل أمة تحسدها وترهبها ولكنها ويا للأسف سوف تخسر كل شيء.
قال: أراك يا عماه كثير التشاؤم بمصير ألمانيا في هذه الحرب بعكس الجمهور الكبير من رجال السياسة الذين يقولون باستحالة الانتصار عليها. فهز الشيخ رأسه وقال: إن الذي قهر نابليون وهو في قعس عزه وجبروته سيقهر ألمانيا. أن بريطانيا التي ألّبت على فرنسا ونابليونها كل أمم أوروبا ستؤلب على ألمانيا كل أمم الأرض إلى أن تقهرها وتنفرد هي بازمة الكون بأسره. نعم يا ولدي إن انكلترا الواقفة الآن وقفة المتفرج على مقدمات هذا النزاع تنتظر بفارغ الصبر دخول المانيا في الحرب لتخوض هي أيضاً غمارها وتضرب المانيا أخيراً الضربة القاضية. إن تجارة المانيا قد انتشرت في جميع الأقطار بالرغم عن حقارة مستعمراتها بالقياس إلى مستعمرات انكلترا وفرنسا وأصبحت على وشك استعمار العالم بأسره استعمارا اقتصاديا فإضرام نار الحرب الحالية جنون من المانيا وفوز لإنكلترا. ومن يعش ير.
وكان عزيز لدى سماعه هذه الاقوال قد نسي ما به ورأى من نفسه ارتياحا إلى الحديث. وكان الشيخ نعمان قد تعب وظهر ذلك على وجهه فصمت وهو يهز رأسه متألماً. ورأى عزيز أن يخرج من لدنه قبل أن يغير مجرى أفكاره ويعود إلى مخاطبته في موضوع غيابه فقال ها أنا ذاهب يا عماه إلى المحل فعسی أن تقضي نهارك في أحسن حال من الراحة والعافية.
ثم ودعه وخرج يريد الذهاب إلى المحل. وما كاد يخطو بضع خطوات حتى عاد إلى نفسه فشعر بشدة اضطراره إلى المال وعزم أن يستدين شيئاً من أمين الصندوق ليفي ما أخذه بالأمس من صراف المسرح. غير أن سليماً «أمين الصندوق» لم يعطه إلا عشرة جنيهات بدعوى أنه لا يملك غيرها وأنه إنما يقدمها
من جيبه لا من الصندوق. فأخذها عزيز وهو منقبض الصدر وجلس إلى مكتبه ينتظر قدوم ناثان وما يأتيه به من الفرج. وما هي إلا ساعة حتى أقبل ناثان فاستقبله عزيز باشاً وانفرد به في الطبقة العليا من المحل وأخذا في الحديث. فقال ناثان يسؤني أن أخبرك بأني لم أجد تاجراً من أصدقائي يرضى بأن يعطيك فروةً أو عقداً كما ظننت أمس ولكني وجدت تاجراً من تجار الآلات الموسيقية عنده أنواع شتى من هذه الآلات من أنواع البيانو والكمنجة والقيثار وغيرها.
فتململ عزيز وقال: وماذا تنفعني هذه الآلات؟ إني في حاجة إلى المال أو إلى الفروة والعقد.
قال: لا تضطرب أيها الصديق وما على المرء إلا أن يسعى وقد سعيت جهدي فلم أفز بطائل. وعندي أن ترضى بشراء بعض هذه الآلات ثم تبيعها وتبتاع الفروة والعقد. ويجب أن لا تبطئ قبل أن يستفحل خطب الحرب ويصير عسراً الحصول على شيء.
قال: إذا لم يكن مناص من ذلك فأنا راضٍ بشرط أن تتولى أنت تدبير هذا الأمر.
قال: سأفعل كل ما يرضيك فكن ناعم البال وهلم نذهب الآن الى منزل هذا التاجر لتتعرف به وترى بعينيك البضاعة وتشتري ما يعجبك منها.
قال: حسن فهيا بنا.
يتبع..