تدوين- نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات، رواية "وزير إعلام الحرب" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2019، لكاتبها وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو.
وفيما يلي نص الحلقة الرابعة:
شياب كفر عرب، ينتشون بعزف وقصيد الحادي، ويصدرون تأوهات حرّى كلّما لامس الشعر والعزف ذاكرتهم وذكرياتهم، أما الشباب الذين يملون بسرعة هذا النوع من الفن العجائزي المتكرر، فقد تواطؤا على أمر من شأنه إشاعة البهجة والفرح في نفوسهم.
أخذ حادي الربابة دوره ووقته، وبدأ الشياب ينفضون من حوله إذعانا لسطوة النعس ما هيأ له الشباب وتعجلوا على بدئه هي وصلة الثنائي الأشهر في كل الأعراس حسن السميني، عازف الأرغول، الذي لو عرفته موسوعة جينيس لمنحته أفضلية صاحب أطول نفس في المعمورة، ما أن يطلق العنان لأرغوله فهيهات أن يتوقف حتى طلوع الفجر كانت أشداقه الضخمة تنافس القربة الإسكتلندية، وبأصابعه الغليظة يتفوق في الحركة على أرق الأصابع التي تعزف على البيانو مثلا. كان يتوسط حلقة الدبكة يدور حول نفسه بجسده الذي يزيد وزنه حسب آخر مرة صعد فيها على قبان الحسبة عن المائة وخمسين كيلو جرام هي القدرة القصوى للقبان المخصص لوزن أكياس الحب وسحاحير الخضار والفاكهة وشوالات الشمام والبطيخ.
حسن السمين هذا هو التوأم المهني لعبد الإله القصاص، الذي يقود الدبكة بمختلف صنوفها ويطلق المواويل والأهازيج المعدة خصيصا للمناسبة، ولإرضاء أصحاب العرس.
لقد تمت الاستعانة بالقصاص بعد انقطاعه عن العمل لعدة سنوات بفعل حادثة مؤسفة وقعت له وكاد يفقد حياته جراءها. كان يمكن أن يطلق عليه لقب شهيد الحب لولا تدخل العناية الإلهية عبر محبيه الذين خلصوه من قبضة المنون بما يشبه المعجزة، وهذه هي حكايته....
عبد الإله القصاص، لاجئ من خربة الرزة التي احتلها اليهود في العام 1948لجأ الشاب اليافع وأهله إلى كفر عرب، وحصلوا على خيمة في المعسكر الذي أقيم لاستقبال الوافدين. شاءت الأقدار وظروف النكبة حيث باب الخيمة بلاصق باب الخيمة الأخرى، بأن يقع في غرام جارته الجميلة وضحى. وجد الشاب عزاءه بهذا الحب الذي صار مع الأيام جارفا، إلا أن القسمة والنصيب التي غالبا ما تكون التفسير الأقرب والأسهل للكوارث العاطفية، قطعت خيط هذا الحب بفعل شاب طارئ هبط على المعسكر كالنيزك، فاختطف وضحى، إذ كانت مؤهلاته لا تقاوم، فأنهى مراسم الزفاف في أيام قليلة، ثم طاف بالعروس شوارع كفر عرب وأزقتها مستعرضا سيارته الأمريكية الفارهة التي أسبغتها عليه نعماء النفط. وماذا يفعل القصاص مع منافس كهذا، ومعنى أن يكون مالكا لسيارة فاخرة، فلا شك في أن جيوبه تمتلئ بآلاف الدنانير في وقت لم يكن القصاص وعائلته يمتلكون شيئا ويحوزون بالكاد قوت يومهم الممنوح لهم من هيئة الأمم المتحدة.
شعر القصاص بانسحاق وهزيمة ماحقة لأحلامه وآماله التي بناها على حب ربما كان تعويضا معقولا عن البؤس والشقاء الذي ألم به بفعل المآل الذي آل إليه، احتجب عن الأنظار وعزل نفسه حتى أنه لم يشارك في أي عرس أقيم
في المعسكر أو في كفر عرب المجاورة. ظل لأشهر طويلة يكابد آلام الحرمان من الحبيب ويغالب الشعور القاتل بالغيرة التي يذكي نارها التخيل لما يجري بعد إغلاق الباب على العروسين، وكما يقال فإن كل شيء يكبر إلا الحزن، فقد تعافي عبد الإله أخيرا من مرض الحرمان وصدع لنصائح أصدقائه بأن يقهر الحزن بالاندماج في الفرح، أي أن يستأنف مهنته التي لا يتقن غيرها. وحين دعـي لأول عرس يقام بعد غرقه في لجة الغرام المستحيل، وجدها مناسبة لأن يخلد قصة حبه
بموال :
شاليشك وضحى نعنع على ميي ما تخافي وضحى مرجوعك ليي.
أطلق مواله بصوت مشحون بالشجن وبدل أن يحصد ثناء من السامعين تعالت صيحات الإستنكار من كل حدب وصوب، وهبطت على رأس الفنان العاشق رفوف من الشتائم مع دعوات صريحة بطرده إن تعذر قتله.
كان يمكن لهذا الموال أن يمر لولا أن الأقدار شاءت مضاعفة عذابات القصّاص بأن يتطابق اسم حبيبته المستحيلة مع اسم العروس التي يحيي حفلها فظن القوم وخصوصا حرّاس الرصانة والتقاليد الحميدة أن القصاص يشبب ببنت الحسب
والنسب. تحلّق نفر من أصدقاء الفنان عاثر الحظ حوله، وانتزعوه من حلقة الدبكة وهربوا به راضين من الغنيمة بإنقاذ المغني. كان ذلك قبل أشهر من عرس آل أبو الجود ولأن شباب العائلة لن يملأ رأسهم في عرس ابن زعيمهم إلا القصّاص، فقد بذلوا جهدا كبيرا ومتواصلا للحصول على إذن من الشيخ جابر بالسماح للمغني وقائد الدبكة بالمشاركة في حفل الليلة الأخيرة، وبعد أن قدّموا تعهدا قوياً ضمنوا فيه عدم خروج القصاص عن اللياقة والأدب في مواويله وأغانيه ورقصاته سمح لهم بدعوته تحت طائلة الرقابة الصارمة.
بعد أن رفعت المقاطعة عن القصاص، وسمح له باستئناف نشاطه والتزامه بالشروط التي حفظها طلب للوسطاء ومنها أن لا يأتي على ذكر اسم أي مخلوقة في أغانيه، وأن يقلع عن حركاته الايحائية حين تحلق فوق رأسه رفوف زغاريد النساء اللائي يراقبنه من وراء الستارة الرقيقة الشفافة، المثبتة على شرفة الأقواس التأمت حلقة الدبكة، ووقف حسن السمين في مركزها كالطود، وأكرم سرور الدبيك بأن رش الماء العزيز على الأرض، ليؤمن مهابط مريحة لأقدامهم، ولكي لا يؤذي الغبار المتطاير من تحت الأقدام الكبيرة عيون الساهرين.
افتتح القصاص الدبكة بموال بين زحلة ومرجعيون يومين عصدرك يمرح الخيال يومين، تبادل حراس التقاليد الحميدة والرصانة المتوارثة النظرات كما لو أنهم يتشاورون في أمر الموّال الذي ورد فيه ذكر صدر امرأة وهل أمر كهذا يستحق عقوبة الطرد، لمح طلب نظرات الكبار، وعرف عما يتشاورون، ولكي لا يفسد العرس تدخل مؤديا دور الموضح وشارح المقاصد فقال على مسامع الكبار.
= هذي بنفوتها. مقصدش فيها حدا من طرفنا. وأضاف مستعرضا معلوماته في جغرافية الوطن العربي.
= احنا وين وزحلة ومرجعيون وين احنا في فلسطين وهذولاك في لبنان واستدار ناحية القصاص وقال مطمئنا؟
= كمل شغلك والله يعطيك العافية.
طارت خيزرانة اللويح في الفضاء. كانت ترسل التماعات سحرية بفعل انعكاسات الضوء المنبعث من الكهارب العشرة تعالت زخات الزغاريد التي حملتها النبرات الحادة، لتحط في الآذان والقلوب موقظة الرغبات الدفينة.
وصل وفد عربان السبع، كان حداؤهم الرجولي يسبقهم وهم على مشارف كفر عرب، قافلة مهولة كما لو أنها خارجة إلى الغزو، جمال تخرخش أجراسها المعلقة أعلى رقابها الطويلة، فتصدر ايقاعا موسيقيا تضبطه مشية الجمال المترنحة الراقصة، تمتزج بثغاء القَوَد التي أعدها كل فخذ عشيرة كنقوط لشيخ المشايخ، وصهيل خيول يزيدها مهابة وقع الحوافر ذات الحذوات المعدنية السميكة وهي ترتطم بصخور وحجارة الطريق. لقد جاؤوا من مضاربهم البعيدة لأداء الواجب الذي ما قصّر الشيخ جابر في أدائه في كل مناسباتهم السعيدة والحزينة وصلوا إلى ساحة العرس، خف الشيخ جابر ومعه كل مشايخ كفر عرب لاستقبال الوافدين.
صافح وعانق زعماءهم، وتأبط ذراع عميدهم الشيخ مسمح، ومضى به كي يجلسه إلى جواره، وأشار على طلب بأن يعفي القصاص من مواصلة الغناء والدبكة، ليفسح في المجال للدحية التي لن يدخل التاريخ أي عرس لن تكون واسطة العقد في لياليه. اصطف الرجال على خط مستقيم تلاصقت اكتافهم وتصاعدت همهماتهم إلى أن بلغت آذان الحرائر اللائي يراقبن المشهد من شرفة الأقواس العالية، فأطلقن رف زغاريد تحية للقادمين، إنبرى الحاشي حامل السيف متلفّعا بعباءته السوداء بلون الليل مقنعا بحطته البيضاء فلا تظهر إلا عيونه المكحلة، كانت مباراة بين الأجساد العزلاء، إلا من تلاقي الأكتاف والسواعد، وبين سيف الحاشي الذي يلوّح في الفضاء ويرسل التماعات تخطف - الأبصار، تذكر بواحد من السيوف التي ودّ عنترة بن شداد تقبيلها لأنها لمعت - كبارق ثغر عبلة المتبسم.
في أعراسهم الحميمة يكون الحاشي امرأة ينطق سيفها بما يمور في جسدها الأنثوي المتفجر بالرغبة والشبق، تمرر السيف على حواف الأقدام المتلاصقة التي تكر وتفر بعد أن يبدو للناظرين أن السيف سيجز الأرجل، ينبري واحد من أجل أن تبارزه لتهزمه وينبري الثاني، وما أن ترمقه بنظراتها الحادة حتى يفر عائدا إلى مكانه في الصف. تبلغ اللعبة ذروتها حين تختار الأوسم والأرشق والأكثر براعة في الرقص أمام السيف، يتفادى أن يصيبه، وبحركة لا يتقنها أهم لاعب سيرك في العالم يحتوي بقبضته القوية قبضتها الممسكة بالسيف وبتواطئ ألّفته حكاية الدحية تتراخى القبضات ويسقط السيف يتبادل الإثنان الذكر والأنثى نظرات أبلغ من كل ما جاء في دواوين العاشقين. تندلع الزغاريد تحية للقبضة والسيف والحب. كان وصل الملازم محمود إلى الساحة ومعه ثلة من المرافقين، جميعهم يرتدي لباس الميدان طلب من القصاص بالوشوشة أن يطلق موالا يحيي فيه جلالة الملك، وموالا آخر لتحية أهل الكرك حيث الملازم من مواليدها ومن عيون عشائرها.
شباب الأحزاب طلبوا من القصاص موّالاً يحيي مصر وزعيمها جمال عبد الناصر. انضم الفرسان وهم بلباس الميدان إلى حلقة الدبكة مجاملين صاحب، العرس جلس الملازم إلى جوار الشيخ جابر وهمس في أذنه
= يا عم ظب هالطابق، يمكن الحرب تولّع الليلة.
استدعى صاحب العرس مساعده طلب وهمس في أذنه بأن يشرع على الفور في إنهاء كل شيء. انطفأ أول لوكس فهم الساهرون بأن عليهم الانسحاب بهدوء، ومع آخر مغادر كان الظلام والسكون قد خيّما على المكان.
= شو بدنا نسوي يا عم؟
قال طلب مخاطبا الشيخ جابر.
= خلينا نروح ننام والصباح رباح.
أجاب صاحب العرس ولكن بصوت متهدج، مشى ناحية الدرج المفضي إلى شرفة الأقواس، جاهد لإخفاء رعبه مما هو قادم ومن مشيته البطيئة المترددة استنتج طلب أن سيده يوشك على فقدان توازنه وضع كتفه تحت إبط الشيخ الثمانيني، لامست مرفقه صبطانة البارودة الإنجليزية، المثبتة على كتفه.
استجمع قواه ليصعد الدرجات الموصلة إلى الشرفة، وخلفه طلب يسنده ويحرسه بنظرات حذرة متأهبا لالتقاطه وحمله لو خارت قواه، إلا أن الشيخ وقبل أن يلج غرفة نومه قال:
= قل لكل من يسأل عني أنني سهرت طويلا، وسأمضي طيلة النهار نائما.
يتبع...