تدوين- نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.
وفيما يلي نص الحلقة السابعة:
وخرج الاثنان فركبا عربة أقلتهما إلى بيت رجل من اليهود يقال له ارميا. وقد استقبلهما بغاية الترحاب وأراهما كل ما كان عنده من آلات الطرب. وكانت كلها من الأنواع الثمينة التي لا توجد إلا في منازل أهل الثروة والجاه. فاشترى عزيز منها بمبلغ أربعمئة وستين جنيها واستطاع بعد كل عناء أن يستدين من صاحبها أربعين جنيها وكتب له صكا بخمسمئة وخمسين جنيها تعهد أن يدفعها بعد مضي ستة أشهر من تاريخ الصك.
وقال ناثان لعزيز وهما خارجان من بيت ارمیا إننا سنذهب
الآن إلى منزل خیاط مشهور من معارفى يقال له اشعيا لا أظن أحدا يفوقه في عمل الفراء من كل نوع فاختر منها
الفروة التي تروقك وساومه على الثمن وعلي الباقي. ولكني
لا أكتمك مذ الآن أنك ستخسر شيئا من ثمن الآلات التي اشتريتها.
قال: أنا أعلم ذلك ولكني أرجو أن لا تكون الخسارة كبيرة
كما أرجو أن نوفق إلى الفراغ من هذا الأمر الشاق ونحصل على الفروة والعقد في هذا النهار.
قال: أنا أرغب منك في ذلك وسأسعى جهدي في سبيل مرضاتك. ولكني أرى أن تكتفي اليوم بالفروة وغداً نسعى للحصول على العقد من أحد اصدقائي الجوهريين.
قال: وهل يرضى هذا الجوهري باستبدال العقد بشيء مما
لدي من الآلات الموسيقية؟
قال: قد لا يرضى إلاّ بثمنه مالاً. وقد يرضى بالمبادلة أيضاً إذا رضيت أنت بخسارة نحو ربع ثمن الآلات أو ثلثها.
قال: وكيف العمل إذا كان الامر كما تقول؟
قال حينئذ لا يبقى لنا إلا أن نرهن هذه الآلات على ثلثي
ثمنها. حتى أن ارميا نفسه وهو الذي باعك إياها لا يبعد أن
يسترهنها أي يبقيها عنده ويدفع لك ثلثي ثمنها بربا جديد.
فجحظت عينا عزيز وقال فما دام في وسع ارميا أن يسترهنا فلماذا لم نأخذ منه المال المطلوب من أول الأمر؟ ألم يكن ذلك أسهل علينا وأقرب تناولا؟
قال: نعم غير أن تلك الطريقة أوفر ربحاً لأصحابها وأكثر عائدة.
قال: ولكنها طريقة سلب ظاهرة وهي غير شريفة في نظري.
فضحك ناثان وقال: أنت لا تزال جاهلا في أساليب التجارة أيها الصديق ولكن سوف تنفتح عيناك على كل عجيب وغريب من هذه الاساليب إلى أن لا تعود تستغرب شيئاً.
وما زالا في مثل هذا الحديث حتى بلغا بيت اشعيا. وكان
الرجل عالما بقدومهما فقابلهما بالبشاشة ودخل بهما غرفة
من منزله حسنة الرياش وهو يرحب بهما. وأخذ يريهما كل
ما كان عنده من الفراء إلى أن وقع اختيار عزيز على واحدة منها بلغ ثمنها مئة وخمسين جنيها. وقد رضي اشعيا أن يأخذ بدلا منها قطعة أو أكثر من الآلات الموسيقية التي لعزيز. ثم اتفق الثلاثة أن يذهب اشعيا وناثان ليفحصا الآلات ويبقى عزيز في المنزل. وكان لاشعيا ابنتان جميلتان إحداهما في سن الثامنة عشرة والأخرى في سن السادسة عشرة من العمر فاستدعاهما اشعيا وعرفهما بعزيز وأوعز إليهما أن تنوبا عنه في تسلية الضيف ثم خرج في صحبة ناثان وبقي عزيز في تلك الغرفة وقد راقه جمال الفتاتين وظرفهما وحسن اسلوبهما في المفاكهة وقضى
وإياهما نحو ساعة من الزمن وهو طيب النفس منشرح
الخاطر إلى أن عاد اشعيا وناثان فقال اشعيا لعزيز: لقد رأيت الآلات الموسيقية وفحصتها جيداً فلم أر فيها ضالتي لأنها ليست من الأنواع الممتازة ولكني رغبة في صداقتك أرضى بالمبادلة.
فقال عزيز ليكن كما تقول. فهل انتقيت شيئاً منها؟
- انتقيت البيانو الكبير والبيانو الصغير فما ثمنهما؟
- ثمن الكبير مئة وأربعون جنيهاً والصغير مئة فخذهما وأعطني الفروة وتسعين جنيهاً فوقها.
- لا يمكن أن يكون هذا.
- وكيف تريد إذاً؟
- آخذهما وعشرة جنيهات أيضاً لأعطيك الفروة.
ولكني اشتريتهما بمئتين وأربعين جنيهاً وثمن هذه الفروة مئة وخمسون جنيهاً كما قلت.
- حسن ولكن ثمن الفروة الحقيقي هو مئتا جنيه وقد جعلته
لك مئة وخمسين إكراماً لصديقي ناثان وحباً بصداقتك.
- أشكرك وأرجو أن أكون عند ظنك بي.
- هل تعدني إذا أن تخيط عندي ثياباً لنفسك مدة ثلاث
سنوات متوالية بمبلغ ستين جنيهاً كل سنة؟
- أعدك.
- أكتب لي تعهداً بذلك.
- ولم هذا التعهد؟
- هو لتوثيق عرى الصداقة والمودة فيما بيننا ليس إلا وحينئذٍ أرضى بأن أستبدل هاتين الآلتين بالفروة دون أن آخذ منك إضافة مالية.
- إن ثمن هاتين الآلتين هو مئتان وأربعون جنيهاً ولا سبيل إلى تخفيض هذه القيمة إلا أن يكون ذلك بضعة جنيهات فقط.
- إذاً يستحيل علينا الاتفاق فلنفترق صديقين لأني أحببتك من أول نظرة وأرجو أن يكون فيما بيننا علائق حسنة.
فأسقط في يد عزيز لدى سماعه هذا الكلام وأخذ ينظر إلى
ناثان غير أن هذا كان يتلهى بأشياء أخرى وهو يحاذر أن
يلتقي نظره بنظر عزيز.
وعاد عزيز فقال: أعطني فوق الفروة سبعين جنيها وكفى
وهذا أقصى حد أستطيع البلوغ إليه في التساهل.
- لا. وهذا مبلغ كبير جداً لا يمكنني أن أرضى به ولعلك
تتوفق إلى فرّاء آخر يكون أكثر تساهلاً مني.
وما زال الإثنان يتساومان وقد إشترك معهما ناثان في الجدال وهو يظهر رغبته في الانتصار لعزيز حتى اتفقوا أخيراً على أن يعطي اشعيا عزيزا عشرين جنيها فوق الفروة. غير أن اشعيا اشترط في مقابل ذلك أن يأخذ من عزيز تعهدا بأن يخيط عنده ثيابا مدة ثلاث سنوات بستين جنيها كل سنة.
فقال عزيز إني أعدك بذلك بدون هذا التعهد الغريب.
اشعيا: لا غرابة في الأمر. وما إلحاحي بهذا التعهد إلا لتذكرني وتأتي لزيارتي من وقت إلى آخر وتحضر على الخصوص المآدب وحفلات الرقص التي تحييها ابنتاي في هذا المنزل لجمهور كبير من حسان المدينة وخيرة شبانها.
عزيز أشكرك وأعدك بحضور هذه الحفلات كما أعدك بالزيارة.
اشعيا: ومع ذلك فلابد من كتابة التعهد لتوطيد الصداقة فيما بيننا.
عزيز: هذه أول مرة في حياتي أسمع بأن الصداقة تتوطد
بالتعهدات.
اشعيا: وما الذي يخيفك من هذا التعهد؟ ألا تخيط لنفسك
بستين جنيهاً كل سنة؟ وإذا لم تكن أنت في حاجة إلى الثياب الجديدة كل سنة أفليس لديك من المستخدمين من يحتاجون إلى الثياب بأكثر من هذا المبلغ؟ فالتعهد إذا وعدمه سيان فلا يثقلن عليك الأمر.
فضحك عزيز وقال ليكن ما تريد. وقام بعد ذلك فكتب التعهد. ثم ودع اشعيا وابنتيه على أن يعود بعد ساعتين أو أكثر ليأخذ الفروة. وخرج وخرج معه ناثان.
فقال عزیز أشكرك أيها الصديق لأنك ساعدتني أحسن
مساعدة في تدبير الامر. واسألك أن تجتهد غدا في مبيع
بقية الآلات الموسيقية لأشتري العقد واستطيع أن أقوم ببعض النفقات الأخرى المطلوبة لاستير.
قال: إذا أردت أن يتم ذلك سريعا فما عليك إلا أن ترهنها ولو عند بائعها نفسه.
قال: افعل ما تشاء بشرط أن يتم كل ذلك غداً. وغداً أحاسبك بما أصبحت مديناً به لك.
ثم افترقا وذهب كلّ منهما في طريقه.