تدوين- سوار عبد ربه
يعتبر الكاتب والروائي والأكاديمي الفلسطيني أحمد حرب، شاهداً على التحولات التي مرت بها الرواية الفلسطينية في كافة مراحلها، التي انعكست أيضا على كتاباته الأدبية، كما أنه بفعل هذه المواكبة، وكونه عمل في المجال النقدي، ليس من الصعب أن يلتقط إرهاصات تحول الرواية الفلسطينية مستقبلا.
شكلت روايات أحمد حرب، مواكبة للأحداث السياسية الطارئة على البلاد بدءًا من النكبة، مرورا بمرحلة أوسلو، وحتى وقتنا الحالي، وبالاستناد إليها، يمكن قياس أثر هذه التحولات، من خلال الربط بين روايته الأولى "حكاية عائد"، وصولا إلى آخر إنتاجاته الأدبية "مواقد الذكرى" الصادرة عن دار الناشر في رام الله والأهلية في عمان عام 2023.
وأحمد حرب هو كاتب فلسطين من مواليد بلدة الظاهرية، حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي والمقارن والكتابة الإبداعية من جامعة (أيوا) بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن في جامعة بيرزيت.
نشر عدة روايات أهمها الثلاثية التي تضم "إسماعيل"، "الجانب الآخر لأرض الميعاد"، و"بقايا"، ثم صدرت له رواية "الصعود إلى المئذنة"، ومؤخرا صدرت له رواية "مواقد الذكرى"، بالإضافة إلى العديد من الدراسات الأكاديمية في الأدب والنقد.
التقت تدوين بالكاتب والروائي أحمد حرب، وأجرت معه الحوار التالي:
تدوين: كيف تبدو الحياة بعد التقاعد بالنسبة للكاتب، وهل يكون للوقت الذي أصبح متاحا أكثر، انعكاس على الأعمال المنجزة في هذه المرحلة؟
د. حرب: من الأشياء التي كانت تشغلنا دائما عن كتابة الرواية أو الكتابة الإبداعية؛ الانغماس الشديد في العمل النقدي، والأكاديمي بشكل خاص، لأن الحياة الأكاديمية لها متطلباتها ولها ظروفها، فمن أجل التقدم في مجالها يجب أن نقوم بأبحاث محكمة، ذات قيمة أساسية.
ومن ناحية أخرى الإنسان لا يستطيع أن يحصر حياته في مجال واحد، خاصة في ظل الظروف التي يعانيها الفلسطينيون، وما يترتب عليها من ظلم وانتهاكات متتالية للحقوق، إلى جانب عملي كمفوض عام في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان.
لكن بالمحصلة، كل مرحلة وتجربة لها إيجابياتها، إذا ما كان الشخص المعني لديه وعي لما قد يترتب عليه، فكما يقال الفن ابن الوعي، وهذا ينطبق على هذه التجربة وكيفية الاستفادة منها في مراحل متعددة.
تدوين: في عملك الأخير "مواقد الذكرى"، تركت للقارئ حرية تصنيف الجنس الأدبي لهذا العمل، ما هي الحدود الفاصلة بين السيرة والرواية وهل يتداخل الجنسان في مواضع معينة؟
د. حرب: لم أشأ أن أسميها سيرة أو رواية، ولم أشأ أن أعطيها أي تصنيف أدبي معين، وهذا من منطلق واعٍ ومن فهم للشيء الذي أكتبه، وبالتالي كانت أول عتبة على الرواية "سمها كما شئت سيرة أم رواية أم قبضة من زمن مفقود"، لأنه في تقديري هناك سوء فهم وتعميم بالمفاهيم في السيرة والرواية.
تاريخيا كل رواية تعتمد على تجربة ذاتية، ومفهوم الإبداع كله يعتمد على الأنا، كما أن مفهومي السيرة والرواية متداخلان في الأصل، وما يفرق بينهما هو وسيلة التعبير، وبالتالي القارئ أو الناقد يمكن أن يجد فيها بعض التشابك الروائي، وفي مناطق أخرى ترجع إلى "أنا" الكاتب.
في رواية مواقد الذكرى لم تكن سيرة الأنا طاغية إطلاقا، فالأنا التي عاشت هذه التجارب في فترة معينة، عندما تكامل وعيها فيما بعد، خرجت بشيء مختلف تماما بالعودة إلى هذه التجارب.
مهما كانت التجربة سواء ذاتية أو تتماهى مع شيء آخر، إذا ما كانت هناك حالة تأمل تدفع الكاتب للتسامي أو الترافع عن واقعية الحدث نفسه، أعتبر أن الكاتب لم يؤدِّ الغرض أو ما يتوقع منه من ناحية فنية في العمل.
وختاما، "الوردة وردة، مهما أعطيناها من الأسماء، تبقى رائحتها زكية" هذه المقولة المقتبسة من مسرحية روميو وجولييت للكاتب الإنجليزي شكسبير تنطبق على موضوع مواقد الذكرى.
تدوين: إذن بهذا المعنى، لماذا توجد تصنيفات للأعمال الأدبية، وهل مهم بالنسبة للقارئ أن يفرق بين الرواية، السيرة، القصة القصيرة.. الخ؟
د. حرب: حسب اهتمام القارئ، ولكن قبل أن يفرق، يجب أن توضع معايير للتصنيف والحكم على الجنس الأدبي للعمل.
عندما بدأت الرواية كنوع جديد في عالم الكتابة، كانت التعريفات كلها ملتبسة ومتداخلة، ولكن نقديا وأكاديميا مقبول أن يتم تصنيف العمل وفقا لمعايير محددة، ويوجد منهج نقدي معمول به في مجالات النقد والمؤسسات الأكاديمية، رغم أني لا أتفق معه. كما أنه يوجد منهج نقدي لتحليل وقراءة الكتب والروايات على أساس أنها سيرة للكاتب وكيف انعكست تجربة الكاتب الحياتية في هذه الرواية.
أما بالنسبة للقارئ العادي، قد يكون مهتما فقط في أن يستمتع بما يقرأ، مع إمكانية عمل إسقاطات هنا وهناك.
تدوين: بالعودة إلى أولى رواياتك "حكاية عائد" والتي جاءت كردة فعل على توصيف الفلسطينيين بالنمل في رواية لكاتب "إسرائيلي" كما قلت في إحدى مقابلاتك.. لو لم تكن هذه الحادثة، متى يشعر الكاتب أنه أصبح جاهزا للكتابة؟
د. حرب: أعتقد أن هذا القرار ينبع من شعور ذاتي أو داخلي، نتيجة للخبرة، أو لحدث مستفز ينبه الكاتب للبدء في الكتابة.
بالنسبة لرواية النمل الإسرائيلية، نفى كاتبها أنه يصف الفلسطينيين بهذا الوصف، وقال إنه يتكلم عن النظرة الوجودية للحياة، إلا أنني في ذلك الوقت فهمتها كما قلتِ، وهذا يبين أن خلفية القارئ، لها تأثير على فهم الأمور.
الاستجابات الأدبية كانت طريقة مهمة في تطور الرواية بشكل عام، فالرواية عندما بدأت، كانت نتيجة لأن الكاتب استفزه شيء معين وحاول أن يعبر عنه
ومن منظور تفاؤلي، بأننا في النهاية سننتصر، كانت هذه الرواية محفزا بالنسبة لي، وشعرت أنها تطلب مني نوعا من الاستجابة الأدبية، والاستجابات الأدبية كانت طريقة مهمة في تطور الرواية بشكل عام، فالرواية عندما بدأت، كانت نتيجة لأن الكاتب استفزه شيء معين وحاول أن يعبر عنه.
تدوين: في رواية "إسماعيل" المقتبسة شخصياتها من رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني، قلت إنها جاءت احتجاجا على عدم طرق شخصيات كنفاني للخزان. ألا يحق للكاتب أن يختار النهاية التي يريد لشخصياته؟ ولماذا رجال في الشمس؟
د. حرب: في هذه الرواية يوجد تناص، قرأت رواية غسان كنفاني رجال في الشمس، وهي رواية لخصت المأساة الفلسطينية في مرحلة ما، فجاءت رواية "إسماعيل" كاحتجاج على عدم طرقنا للخزان بعد كل هذه المآسي، والموت المستمر.
عملية التناص هذه كانت في فترة الانتفاضة، شعرت أنني أريد القيام بنوع من الانقلاب على مفهوم طرق الجدران عند غسان، حيث أن شخصية أبو قيس في الرواية، استوحيتها من رواية غسان كنفاني لتتناسب مع جو الانتفاضة والثورة، ففي روايتي جعلت هذه الشخصية بدلا من أن تموت وهي في طريقها إلى الحجاز، تعود إلى فلسطين لتقود الثورة، وبهذا أكون قد عكست الرحلة التي بدأها غسان كنفاني بأخذه لشخصياته إلى الخليج بحثا عن نوع من الخلاص الذاتي، فشخصياتي رفضت المضي في الرحلة، وعادت إلى أرض الوطن والجذور وطرقت الخزان.
تدوين: أي من الروايتين تنطبق نهايتها على واقعنا المعاش حاليا؟
د. حرب: جزئيا في كل رواية هناك شيء ينطبق على الواقع، وهذه قيمة الأدب، إذ أنه ليس مرحليا، نحن نردد شعار "لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟" عندما نكون في حالة عجز، وهي تنطبق بكل الأحوال.
وبمعزل عن التناص في هذه الرواية، اجتهدت فيها في كيفية كتابة الرواية عن حدث يجري حاليا، فالرواية تحتاج إلى تأمل شديد وابتعاد نفسي عن الحدث من أجل تحقيق ذلك التأمل، وإذا كان الكاتب في قلب هذه التجربة، هناك معضلة، كي يخرج العمل فنيا يحتاج الكاتب إلى تأثير معين، وإذا أراد أن يتقاتل معها مباشرة يمكن أن يكتب تقريرا أو مقالا سياسيا.
الرواية تحتاج إلى تأمل شديد وابتعاد نفسي عن الحدث
كما اجتهدت في كيفية كتابة رواية في الوقت الذي يكون فيه الحدث الذي أكتب عنه أكثر درامية مما تعكسه هذه الرواية، وهنا نعود إلى العلاقة بين الفن والواقع، ومن الذي يقلد الآخر.
وفي رواية "أرض الميعاد" وهي الجزء الثاني من رواية "إسماعيل"، أردت تقويض الفكرة التوراتية التي بنيت عليها "إسرائيل"، أنها أرض الميعاد، وفيها اقتباسات من أماكن مختلفة في الرواية بهذا المعنى.
تدوين: كان لأوسلو أثر على الحياة الفلسطينية بكافة مستوياتها وصدر لك في أعقابها رواية "بقايا".. ما هي التحولات التي طرأت على الرواية الفلسطينية بعد أوسلو وكيف ظهرت في روايتك المذكورة؟
د. حرب: هناك تحولات كبيرة، نحن جيل النكبة والنكسة، الجيل الذي توحده فكرة فلسطين، وهي الحلم، جاءت أوسلو وأحدثت انكسارا في المفهوم النفسي والفكري والروحي.
أوسلو أحدثت انكسار في المفهوم النفسي والفكري والروحي
ككاتب عاش هذا الحلم والفكرة، وبنيت حياته كلها على هذا الطريق، أحدثت أوسلو بالنسبة لي انكسارا في الوعي، واختلف معها الواقع السياسي، والمسميات كذلك، حتى اسم فلسطين اختلف، والهوية الثقافية، أيضا.
تدوين: المقصود بهذه التحولات على صعيد الخطاب السياسي أم الأدبي أيضا؟
د. حرب: لا يمكن الفصل بين الخطاب السياسي والأدبي، أوسلو خلقت وضعا جديدا، سياسيا جغرافيا، نفسيا، وعلى كافة الأصعدة.
حتى مفهوم البطولة والفدائي أيضا تغيرا، ومفهوم العلاقة مع الآخر تغيرت، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنها لم تؤثر، هذا الواقع له متطلبات جديدة يجب العيش معها، أوسلو قطع الجغرافيا والحلم وكل ما بنينا مستقبلنا عليه.
لا بد أن للحلم بقايا، وبالتالي على هذا الصعيد، لا يجب أن نستسلم ونتخلى عن حلمنا.
تدوين: بالحديث عن التحولات.. كيف ترى مستقبل الرواية الفلسطينية شكلا ومضمونا، بالنظر إلى المؤثرات من حولها؟
د. حرب: كل رواية سيكون لها مضمون، المهم بالنسبة لي هي وسيلة التعبير، وهي أكثر من يتأثر بالتغيرات والتحولات، في كل مرحلة هناك تحول، وكل جيل له ذائقة.
جيل التسعينات لا يعي ما الذي جرى في النكبة والنكسة، بسبب إهمال الثقافة العامة لهذا الجانب، وأصبح أكثر تأثرا بما يدور من قضايا حول العالم، وما يراه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هذه القضايا مهمة لكنها بالنسبة للقضية الشمولية هي قضايا جزئية.
الرواية بمفهومها التقليدي، تغيرت، وعلى حد قول بعض الروائيين الآخرين هذا الفهم قد مات بالفعل، فهي تتطلب وقتا طويلا للتأمل، لكن الجيل الجديد لا يمتلك وقتا لهذا، بسبب المعلومة السريعة وسهولة التواصل، بالإضافة إلى الذكاء الاصطناعي الذي سيؤثر على منحى الرواية في المستقبل.
الرواية بمفهومها التقليدي، تغيرت، وعلى حد قول بعض الروائيين الآخرين هذا الفهم قد مات بالفعل
الرواية يجب أن تكون فيها روح، وإذا لم تتحقق هذه الروح، يصبح العمل الأدبي كأي منشور يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي. وهذه مسألة تحتاج إلى دراسة أكاديمية وبحث كبير، لنرى كيفية تطور الرواية الفلسطينية في المستقبل.
تدوين: إذا كانت الذائقة العامة للقارئ والكاتب على حد سواء ذاهبة بهذا الاتجاه، لمن ستترك مسألة التقييم إذن؟ أي تقييم العمل الجيد من غير الجيد؟
د. حرب: هناك نقطة ضعف في كل حركتنا الأدبية منذ بداياتها، وهي عدم وجود حركة نقدية مواكبة، ودراسات أكاديمية مواكبة، وهذا أيضا بدون تعميم يسبب نوعا من الفوضى فيما نرى من نشر.
كما أنه في العصر الحالي، أصبحت سرعة النشر وسرعة التواصل وردود الأفعال التفاعلية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تخلق شعورا أن هذا الكاتب عظيم ويبدأ بالتصرف بناء على هذا الأساس، ويبدأ بالدفع نحو الشهرة.