تدوين- نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات، رواية "وزير إعلام الحرب" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2019، لكاتبها وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو.
وفيما يلي نص الحلقة الخامسة:
الشيخ جابر CV
الشيخ جابر، عميد آل أبو الجود الحمولة الأكبر من بين حمائل كفر عرب شيخ مشايخ الجبل، ومنقع الدم، وإن اكتسب مكانته بالوراثة إلا أنه برهن عن جدارته بالزعامة من خلال مواهبه المتميزة عن كل زعماء الحمائل الأربعة، التي تكوّن مجتمع كفر عرب، لم يحصر نفسه في دائرة قريته والخرب التابعة لها، بل مدّ نفوذه ليغطي الجبل الذي يتألف من خمسين قرية وألف ضيعة تسمى بالخربة، وقد عزّز نفوذه ليس فقط بالإرث والموهبة، وإنما بالكرم والإغداق والتسامح وبلاغة القول والقضاء بين الناس.
كانت تحالفاته التي تشبه تحالفات رؤساء الدول قد امتدت لتغطي البلاد
الأوسع، هي الدعامة الثانية كونه أهم قاض عشائري يقصده أصحاب القضايا
من كل مكان ذاع فيه صيته، وشاعت أخبار نجاحاته المشهود لها في حل أعقد القضايا وأكثرها صعوبة. لقد حقن دماءً كان يمكن أن تنزف عقودا من الزمن بفعل حمّى الثأر، وعالج قضايا العرض بحكمة وسلاسة، حتى سمي بأبو
الولايا.
لم يغفل الشيخ جابر حاجته لصلة قوية تربطه بالنظام الحاكم، كان ذلك هو الضلع الثالث من أضلاع زعامته كان حريصا على إظهار ولائه للملك، واحترامه لممثليه من رجال الدولة، من أصغر رتبة إلى أعلاها، الذين بدورهم كانوا يظهرون احترامهم له كما لو أنهم مأمورون بذلك من جلالة الملك مباشرة. كان همه الأول ومهمته الأولى أن يرعى مصالح عائلته الكبيرة وأن لا يتقاعس عن حماية مصالح العائلات الحليفة.
جاء وقت تعرض فيه الضلع الثالث لزعامته لاهتزازات محرجة، ذلك حين سرى ما كان يسميه وباء الحزبية، والمعارضة السافرة للنظام الحاكم. كان يشعر بكثير من المرارة والحسرة وهو يلمس تراجع تأثيره على أمزجة ومواقف شباب العائلة وأنشطتهم البعيدة كليا عن مزاجه وولاءاته. كانت أشد حالات الحرج حين يعتقل واحد من أحفاده أو من أبناء الحمولة أو البلد. كان يعتبر ذلك اختبارا لجدوى ولائه ومدى استفادة الأهل والأقارب والمحاسيب من هذا الولاء. ورغم الحرج الشديد إلا أنه كان موهوبا في وزن الأمور وانتهـاج السلوك الأقل ضررا في أمر محرج كهذا كان يرسل خطابا إلى جلالة الملك يؤكد فيه ولاءه وولاء من يمون عليهم للعرش، وفي ذيل الخطاب يصوغ التماسا بالعفو عن الأولاد الضالين والمضللين ويؤكد تعهده بأن لا يمارسوا أي نشاط يسيء للدولة والنظام.
كان الملك يعفو ويمنح الفرصة تلو الأخرى، كان أبناء عائلة أبو الجود يمارسون نوعا من الانتهازية المستترة، يراهنون على صلة عميدهم بالنظام لعلها يعتقلون أو حين يقدمون للمحاكمة. توفر لهم وسادة أمان فإن لم تضمن عدم اعتقالهم فهي تضمن الرفق بهم حين دعي للمشاركة في الاحتفالات الكبرى بمناسبة عيد الجلوس الملكي وعشية السفر إلى العاصمة طرقت بابه امرأة وطلبت منه كونها من عائلة أبو الجود بلغة الأمر، أن لا يعود من رحاب الملك دون أن يحضر معه ابنها المسجون منذ شهور في معتقل الجفر الصحراوي، شعر شيخ المشايخ بالحرج، المعتقل شيوعي، وفي أمر الشيوعيين بالذات لا مجال للواسطة " يستنكر - يخرج.
هذه هي المعادلة، وابن السيدة الآمرة يفضل الموت على الاستنكار، فما
حيلة أبو الجود إزاء حالة من هذا النوع وأي موهبة تقدر على إيجاد حل لمعضلة الشيوعي، إلا أن الشيخ المحنك تحت ضغط الحاجة وبحكم المهنة لابد وأن يتدبر الامر.
أقسم للقريبة بأن يبذل قصارى جهده لإطلاق سراح ابنها، وأوعز لأحد الأحفاد بصياغة استرحام ورجاء كي يسلمه لجلالة الملك يدا بيد. غادر إلى العاصمة حاملا وعده وكتابه وحين عاد دون أن يحضر معه السجين الشيوعي، لم يجد ما يبرر به إخفاقه سوى القول لقد سلمت الالتماس لجلالة الملك، فهز رأسه باسما وقال لي على مسمع الجميع تكرم يا شيخ جابر.
شاءت الأقدار أن يقع زلزال هزّ الأرض من تحت أقدام هيبة شيخ المشايخ حين وصل إلى كفر عرب جثمان الشيوعي السجين الذي وافته المنية في مستشفى السجن العسكري، حيث يحتجز المبشرون بالماركسية اللينينية، التي يعتبرها النظام والناس، أكبر المحرمات، ويقدمهم شيخ الجامع على أنهم يمثلون اسوأ صنوف الشرك والإلحاد، غير أن الشيخ جابر ظل يعمل بـدأب ولا يترك شاردة أو واردة إلا ويضعها في خدمة زعامته وحمايتها وتحصينها، وقد نجح في أمر لم ينجح فيه غيره وهو تحييد صورته وايقاعه عن التقلبات السياسية التي ميزت القرن الذي عاشه تلك التقلبات التي كانت تفرض تغيير الولاءات والانتماءات، وفي زمن سريان وباء الحزبية كما كان يقول، وتجرؤ الناس على نقد النظام والتشهير بالوجهاء ومن ضمنهم المخاتير الذين هم ممثلون عشائريون للحكومة، أعفى شيخ المشايخ نفسه من المخترة وكلّف واحدا من الوجهاء الثانويين بأداء دورها برهن بذلك عن دهاء وحرص على الصورة والمكانة فهو لا يرى ميزة في أن يذكر اسمه في التراتبية الزعامية مع اثني عشر مختارا في كفر عرب وزمامها وفوقهم العشرات من نظرائهم في المدينة والقرى والخرب.
= يتحمل الجبل عشرات بل مئات المخاتير إلا أن الزعامة تتحمل شيخ مشايخ واحدا وليأت بعده من يشاء ولكن ليس أمامه ولا حتى إلى جانبه.
أوجد شيخ المشايخ معادلة تحفظ مصالحه عند الحكومة وتوفر لصورته مكانة مهيبة عند المعارضة.
كانت الحكومات المتعاقبة تضم وزيرا دائما من العائلة وكان مجلس النواب والأعيان يضم عضوا دائما كذلك، وحين انتشر وباء الحزبية كان المتعلمون من أبناء العائلة يحتلون مراتب قيادية في حزب الكفر والإلحاد " الشيوعي وكذلك في الحزب المحرّم من قبل الحكومة والمسمى بحزب البعث الاشتراكي، وكذلك في الأحزاب الدينية، الإخوان والتحرير، ومع أن العربي الإخوان كانوا أشبه بمليشيا تعلن ولاءها للنظام واستعدادها لخوض معارك مسلحة للدفاع عنه إذا ما تعرض لأي أذى من جانب القوميين أو الشيوعيين، إلا أنه مع اتفاق الولاء لم يكن يحبهم، بل كان يواصل انتقاده العلني لهـم متبنيا مبدأ النحاس باشا في مصر بحتمية فصل الدين عن السياسة.
لما قرر الملك إجراء انتخابات برلمانية حرة ونزيهة كما يقال، توجس شيخ المشايخ شراً إذ تهيأ له أن زمن العضوية الدائمة والمضمونة لأبناء العائلات قد ولى، فقرر أن يقتحم الانتخابات بواحد من المع شباب العائلة. استدعى شيخ المشايخ المحامي ياسر ذلك قبل أن يفتح باب التسجيل للترشح، واختلی به تصرف كما لو أنه سيخوض انتخابات مصيرية، لن يكسبها إلا إذا استعان من أجل بلوغ الفوز بالقاعدة التي تقول استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان
= ياسر كيف ترى قصة الانتخابات؟
سأل الشيخ
= والله يا عم ولا أخفي عليك، أرسلت رسالة إلى قيادتي في دمشق أطلب الإذن بخوض الانتخابات باسم الحزب.
قال المرشح المحتمل
= وما علاقة دمشق بانتخابات في كفر عرب وبرلمان ليس في سورية؟
تساءل الشيخ مستنكرا الفكرة والسلوك.
= انا يا عم عضو قديم في الحزب، ودعمه ورضاه وتبنيه مهم بالنسبة لي والمستقبلي السياسي.
أوشك الشيخ على فقد صبره فهو يعرف أن الأصوات اللازمة للنجاح في انتخابات حرة ونزيهة لا توفرها دمشق بل العائلة وحلفاؤها، لم يرغب الشيخ في إثارة مشكلة مع الشاب الحزبي، فما زال لديه شهر يستطيع في مداه أن يجند كل قدرات التأثير العائلي والتحالفي لتغيير موقفه، لم ولن يهضم فكرة الترشح باسم الحزب، إذ الأجدى والمسألة محسوبة بالصوت أن يترشح باسم العائلة وحلفائها.
الأقدار خدمت شيخ المشايخ فقد جاء الرد سريعاً من دمشق:
“لا داعي للدخول في انتخابات لن يستفيد منها سوى النظام الحاكم”
وأقل ما قيل في النظام أنه عميل يحاول تزيين صورته أمام أسياده وخلص الرد بقرار حزبي حاسم، ترفض القيادة القومية للحزب ترشح أي بعثي في الانتخابات البرلمانية وكل من يخالف يحاكم حزبيا وعقوبته الفصل.
حمل المرشح المحتمل رسالة الحزب وذهب بها إلى شيخ المشايخ، وبقدر ما كان البعثي الملتزم قلقا ومشوّشا وحائرا، بقدر ما كان شيخ المشايخ سعيدا، حيث قال ضاحكا:
= هذه حلت نفسها بنفسها، اذا ماذا ستفعل يا ياسر ؟
أجاب على السؤال بسؤال.
ما رأيك انت يا عم؟
أجاب الشيخ
= بسيطة قل إنك لم تتسلم رسالة الحزب " طنش " يا أخي.
ووضع يده على كتف الشاب وقال
: على مسؤوليتي مبروك النيابة سلف.
امتثل المرشح الحزبي لقرار العائلة واستبعد قرار القيادة البعيدة.
بعد أيام وحين شاع خبر ترشح الرفيق ياسر للبرلمان جاء قرار عاجل بفصله من الحزب أصدر ياسر بيانا أعلن فيه أنه يرفض قرار الحزب وتعهد بأن يواصل الترشح والسعي إلى الفوز من أجل خدمة البلد والوطن والأمة وفي مناورة هداه اليها الشيخ الداهية خاض ياسر معركة الانتخابات تحت شعارات الحزب، وتولى الشيخ جابر جمع الأصوات وإحصائها أولا بأول قبل ان تذهب إلى صناديق الاقتراع. سهر القوم إلى جانب الراديو انتظارا لنتائج الانتخابات. وحين أعلنت النتائج وحاز مرشح العائلة والبلدة على أعلى الأصوات، ضحك شيخ المشايخ واستحضر نكتة.. قال.
= الظاهر يا جماعة الخير إنو حزب العيلة أكبر من حزب الشام.
وأتبع الجملة بقهقهة مجلجلة ...
تفهم النظام دعم شيخ المشايخ للمرشح الحزبي وحين اعتقل ياسر مع من زملائه الذين التزموا جانب المعارضة ما أدى إلى حل البرلمان، سعى شيخ المشايخ للإفراج عنه. وإكراما لـه وللاعتبارات العشائرية التي يحترمها النظام ويعتمد عليها، خفف الحكم عن ياسر وزملائه إلى أدنى حد، واصل شيخ المشايخ جهوده لتثبيت دعامات زعامته ورعاية مصالح حمولته وحلفائه.
لم يكن يسعى للقب ملك أو رئيس أو وزير فيكفيه ما اعتبره أفضل ما وصل اليه.. منقع الدم، سيد القضاء العشائري وشيخ المشايخ جابر أبو الجود.
ظل رجال النظام يعاملونه باحترام يقدّمون له ما هو بحاجة إليه من الخدمات ما يوطد مكانته، إلا أن الأرض الصلبة التي كان يقف عليها الرجل الثمانيني تحوّلت إلى رمال متحركة تغوص فيها الأقدام والاعتبارات والمقامات، تحت طائلة المجهول القادم مع الحرب الوشيكة.
يتبع..