الجمعة  22 تشرين الثاني 2024

رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 8)

2023-07-24 08:44:53 AM
رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 8)

تدوين- نصوص 

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.

وفيما يلي نص الحلقة الثامنة: 

ولما عاد عزيز إلى منزله استقبلته مريم حظية عمه والاضطراب باد في وجهها. فذعر عزيز وقال: ماذا جرى وكيف حال عمي الان؟

فقالت له: مريم قد ساءت حاله جداً هذا النهار وكاد يقضي نحبه. وقد أرسل في طلبك مراراً إلى المحل فلم يظفر بك أحد هناك.

قال: ولكني ودعته صباحاً وكان في عافية ونشاط فكيف تبدلت أحواله بهذه السرعة.
قالت: نعم وقد ظلّ في نشاطه إلى الظهر ثم أخذ يتعب ويتلاشى.

قال: ألم تدعوا له طبيبا؟

قالت: بلا شك. ولكننا لم ندعُ طبيبه الخاص لأننا لم نجده فاستدعينا طبيبا آخر وقد فحصه فحصا مدققا وأعطاه علاجاً مفيداً جداً ما كاد يتجرعه حتى أخذت العافية تدب في عروقه وأظنه أحسن الآن مما كان عليه منذ ساعة.

قال: وهل هو وحده الآن؟

قالت عنده نجلاء تقرأ له في الكتاب المقدس. فاذهب إليه إذا أحببت لأنه ينتظرك.

قال: هاءنذا ذاهب.

قال هذا وسار تواً إلى مخدع عمه فألفاه جالساً في سريره ونجلاء على كرسي إلى جانب السرير فحياه عزيز وسأله عن حاله.

فقطب الشيخ جبینه وصاح به أین كنت النهار بطوله أيها الولد العقوق فقد طلبتك مرارا ولم أجدك. فأين كنت غائصا؟

فقال عزيز كنت يا عماه في بعض البيوت التجارية في المدينة أدرس الحالة الحاضرة وأسعار البضائع وغير ذلك مما لا بد منه. وكانت نجلاء لما رأت الجدال آخذا في الاحتدام بين الشيخ وابن أخيه قد نهضت وخرجت.

وعاد الشيخ نعمان إلى الحديث فقال: أنت كاذب في كلامك ولم يعد في استطاعتك أن تغشني وتخدعني كما كنت تفعل أولا. إن نفسي حزينة وأنت لا تزال عاملاً على زيادة حزني وألمي دون أن يهمك شيء من أمري.

 لقد ربيتك صغيراً وثقفتك في أحسن المدارس لتكون وريثي وحامل اسم أسرتك الشريفة غير أنك لا تبالي بكل هذا. إنك تخادعني الآن وتكذب علي ولكنك لا تخدع إلا نفسك ولا تكذب إلا عليها. فماذا يحل بك بعد موتي؟ بل ماذا يحل باموالي وأملاكي متى صارت اليك؟

لا شك أنك ستبددها ذات اليمين وذات الشمال وتصبح صفر اليدين حقيراً.
وكان عزيز يسمع كلام عمه والتأثر ظاهر في وجهه وكاد يقع على قدميه ويعترف له بحبه لاستير ولكنه خشي أن يزيده حنقاً وألما فأمسك عن الكلام وأطرق برأسه مفكراً.
ورأى الشيخ تأثيره فأمسك عن الاسترسال في توبيخه وقال: تركتني صباحاً في عافية غير أن المرض لم يلبث أن اشتد علي فشعرت بأن صدري يكاد ينشق وروحي تكاد تفيض. وما أقبل المساء حتى عادت إلي العافية ولا أزال في هذه الحالة الآن فعسى أن يجد الكرى سبيلاً إلى أجفاني فأنام مرتاحاً.

فقال عزيز وهو يحاذر أن يلتقي نظره بنظر عمه نعم يا عماه وأنا أرى النشاط في عينيك الآن أكثر منه اليوم صباحاً فأستودعك الله على أمل أن أراك غداً أحسن حالاً ـ من الآن.

قال: أرسل إلي نجلاء لتواصل قراءتها لعلي أنام على صوتها وأرقد أنت بعد العشاء في سريرك وتأمل ملياً في كلامي لعلك تهتدي إلى أفضل مخرج مما أنت فيه من الضلال؟

فخرج عزيز وذهب إلى حيث كانت نجلاء فرآها مع والدتها فأشار إليها أن تدخل على عمه .. وبقي هو مع الوالدة يحادثها على خلاف العادة وقد عزم أن يتحبب إليها ليأمن الخطر من جانبها لأنه كان عازما أن يخرج تلك الليلة من المنزل ليجتمع باستير وخاف أن يدري عمه بخروجه بدون رضاه فرأی أن يتخذ مريم من حزبه لتدرأ عنه هذا الخطر.

ولبث عزيز في حديثه مع مريم حتى خرجت نجلاء من مخدع الشيخ وأقبلت عليهما. فبش عزيز في وجهها وسألها عن عمه.

فقالت: إنه نام ودلائل العافية ظاهرة في وجهه ولا يبعد أن ينام الليل بطوله.
فقال عزیز: كنتُ أود أن أراه قبل استغراقه في النوم لاستأذنه في الخروج لبعض

الشؤون الخطيرة وأخشى إن خرجت بدون إذنه أن يستشيط علي غضباً حسب عادته.

 

فقالت: مريم إذا كان لا بدّ من خروجك فاخرج ومتى أفاق عمك وطلب مقابلتك أخبره بالواقع.

قال: هذا إذا طلب مقابلتي. أما إذا لم يسأل عني أو ظل مستغرقا في النوم فلا تخبريه شيئاً.
فوعدته مريم خيراً. فشكرها ثم ودعها وودع نجلاء بلطف لم تعهده فيه من قبل وخرج وما كاد يخطو بضع خطوات في الشارع حتى مرّت به عربة فوثب إليها وأمر السائق أن يأخذه إلى منزل اشعيا الفرّاء. وكان اشعيا قد هيأ له الفروة
فأخذها وواصل سيره إلى المسرح. وكان الممثلون قد شرعوا في التمثيل وانتهى الفصل الأول.

وذكر عزيز بحال دخوله الدين الذي لموسى أمين صندوق المسرح عليه، وكأن موسى كان ينتظره، فلما أبصره عزیز تقدم إليه ونقده الاثنين والعشرين جنيها، ثم ناوله الفروة وقال:

أدخلها حالاً إلى مدير التمثيل واطلب منه بلساني أن يقدمها إلى استير حينما تخرج إلى المسرح لترقص.

وكان موسى عندما تسلّم المال قد طفح وجهه سروراً ولم يعد يعلم كيف يشكر عزيزاً ويقوم بخدمته. فلما أوعز عزيز إليه بتقديم الفروة قال له: السمع والطاعة يا مولاي إني سأقدمها في الوقت المناسب وأقدم معها ضمة من أحسن الزهور جاءتني اليوم من إحدى الحدائق لأبيعها لطالبيها وأنت بلا شك أحق بها من غيرك فسر عزيز غاية السرور ودفع لموسى ضعفي ثمنها وأسرع بعد ذلك إلى المكان الذي اعتاد أن يجلس فيه. وكان بقربه عدد ليس بالقليل من الضباط والأعيان وفي جملتهم نفر من الطاعنين في السن والكولونيل والتاجر الغني اللذان كانا يتزلفان إلى استير ويخطبان مودتها.

 وكان موضوع حديث الكل استير وتفننها العجيب وجمالها الباهر. وكان عزيز يسمع كلامهم وطرفه شاخص وقلبه خافق وفكره سابح في لجج العواطف الحبية والوجدانات النفسانية وكان كلما ذكر اسم استير يرتعش خوفا عليها أن تفلت منه وتصير إلى بعض هؤلاء المتدلّهين بها. فعزم على أن يتوسل بكل وسيلة للاستئثار بها وتمكين حبه في قلبها ثم قال في نفسه ولكن أنى لهؤلاء أن يقوموا بخدمتها كما أقوم أنا أو يقدموا لها من التحف الجميلة ما أقدمه أنا؟ إن استير لا تنتظر أن تكون الفروة التي وعدتها بها من هذا النوع الثمين وجل ما كانت تتمنى أن تحصل على فروة بثلاثين أو أربعين جنيها لا بمئة وخمسين أو بمئتين. وساقدم لها غداً العقد ثم أستأجر لها عربة تكون قيد إشارتها كل يوم. وقد صحت عزيمتي أن أتخذ لها منزلاً فخماً أنقلها إليه من منزلها الحالي وأفرشه بأحسن المفروشات وأزينه بأجمل الرياش وأفخر الأثاث. ولا أظنها بعد كل هذا تروم سواي خليلاً أو ترضى عني بديلا ... وأما أنتم أيها المعجبون باستير والهائمون بجمالها فلن تنالوا منها قلامة ظفر.

وبينما عزيز في مثل هذه التأملات برزت استير إلى المسرح، فصفق الجمهور لها ابتهاجاً وترحيباً. ثم رقصت فسلبت القلوب. وغنت فسحرت العقول. وكان عزيز أشد الناس كلهم تصفيقاً واعجابا وافتتانا وقد نسي عمه ونصائح عمه ولم يخش تهديده إياه بالحرمان ولما بلغت استير آخر دورها في الرقص دخل المسرح مدير التمثيل يحمل بين يديه الفروة وضمة الزهر فقدمهما إليها.

فضج الناس في الحال بأصوات الاستحسان والتصفيق حتى اهتزت لذلك أركان المسرح. وعلمت استير بأن هذه التقدمة هي من حبيبها عزيز فأرسلت
إليه نظرة وابتسامة ثم أخذت الفروة والضمة وخرجت بخفة الظبي ولكنها ما كادت تفعل ذلك حتى أخذ الجمهور يصفق ويضج طالباً عودتها. فعادت وقد ألقت الفروة على كتفيها فازدادت بذلك رؤاء. ثم رقصت وغنت فبهرت الأبصار كما بهرت الأسماع.

ولما انتهى التمثيل دخل عزيز إلى غرفة استير في المسرح فاستقبلته وهي تطف فرحاً ثم وثبت إلى عنقه تقبله وتقول: لقد أسعدتني اليوم أيها الحبيب وأنجزت وعدك كأكرم الرجال وأوفاهم. ولست أكتمك إني لم أكن انتظر أن تكون هديتك هذه من هذا النوع الثمين الذي لا يقتنيه إلا أهل الطبقة العليا من أرباب الثروة والجاه.
فنظر إليها عزيز وهو يزداد افتتاناً بها وقال: وهل يطاوعني قلبي أن اقدم لك شيئاً بخساً؟
وكانت راحيل عمة استير حاضرة فقالت: حقاً إنها فروة ملكية ولا أظن أن ثمنها يكون أقل من مئتي جنيه.

فقال عزیز: أصبت فإنها كذلك.

استير: هكذا تكون الهدايا وإلا فلا.

عزيز: وساقدم لك غداً العقد والعربة ثم أهتم بتجديد أثاث منزلك وقد أتخذ لك منزلاً

آخر يليق بك لأني أروم أن تكوني كملكة يحسدها الجميع.

استير: تعال إذا لأقبلك مرة أخرى وأهمس في أذنك شيئاً.

ثم أخذته في رأسه وعضته في خده حتى صاح عزيز من شدة الألم. ولكنه عاد فافتر ثغره سروراً عندما أسرت إليه ما أرادت.

وجاء في هذه اللحظة مدير التمثيل ومعه ناثان والكولونيل ودعا استير وعزيزاً إلى العشاء في أحد الفنادق القريبة.

فقالت استير: وهل يكون المسيو ناثان مرافقاً لنا؟

ناثان: نعم يا سيدتي وقد جئت الليلة خصوصاً إلى هنا لاجتمع بك وبالمسيو عزيز.
فشكرته استير ثم التفتت إلى الكولونيل وقالت وأنت يا حضرة الكولونيل ألا تصحبنا ايضاً؟
قال: إذا سمحت لي بذلك فإني أكون من الشاكرين. واعلمي يا سيدة الملاح بأني لم أستطع الانصراف إلى منزلي قبل أن أقوم بشعائر الشكر والامتنان لربة الفن فرآني مدير التمثيل ولم يشأ إلا أن يجعل حظي كبيراً بالاجتماع بك على العشاء. فحنت استير له رأسها شاكرة ثم عادت وقالت لناثان أما أنت أيها الصديق فلا أظنك من رأي الكولونيل في موضوع الفن وإنما جئت لتقابل عزيزا.

قال: أصبت ولكنك لا تلبثين أن تجعليني من عباد كل فن جميل.

قالت وأين سارة؟ إني لم أرها معك هذه الليلة.

قال: بقيت في المنزل وهي ستزورك غداً.

قالت: حسن والآن إذا طلب عزيز منك أثاثاً جديداً لي فاجتهد أن يكون هذا الاثاث من أجود الأنواع وأتقنها وأجملها.

قال: لا أحب إلي من القيام بكل خدمة لك وللمسيو عزيز.

وكان مدير التمثيل قد هيأ العربات فركبها الحضور وساروا إلى الفندق الذي أعد فيه العشاء. ولبثوا هناك ثلاث ساعات قضوها في أحسن حالة من الانشراح والسرور ثم عادوا وأكثرهم في حالة السكر وقد ذهب عزيز في صحبة استير يشيعها إلى منزلها.