تدوين- فراس حج محمد
الأسير الشاعر أحمد عبد الرحمن حج محمد من قرية تلفيت، جنوب نابلس، ولد عام 1987، يحمل شهادة البكالوريوس في تخصص هندسة اتصالات، متزوج وله طفلتان. يقبع حاليا في سجون الاحتلال منذ عام 2016، ومحكوم سبع سنوات ونصف، وسبق أن اعتقلته قوات الأمن الفلسطينية عام 2015، بعد مطاردته (22) يوماً.
كتب الشاعر المقالات والقصائد الفصيحة الكلاسيكية، كما كتب الأغاني الوطنية باللغة العامة، وينشر عادة إنتاجاته الأدبية والفكرية في منابر متعددة إلكترونية وورقية، منها مجلة حريتنا، وموقع حضارات للدراسات السياسية والاستراتيجية.
صدر للأسير ديوان شعر بعنوان: "ألفية حماس المسير والمصير"، عن وزارة الثقافة الفلسطينية في غزة، عام 2022، وجاء في ما يقارب (300) صفحة، وبدأ في نظم أول أبياته عام 2019 في سجن جلبوع، وفضلا عن المقدمات الاحتفالية في أول الديوان، فقد بدأه الشاعر بفصل تمهيدي شعري عن النكبة الفلسطينية عام 1948، ثم يتتبع القضية الفلسطينية تاريخيا حتى يصل إلى تأسيس حركة حماس وأعلامها الأوائل، ليرصد الشاعر في هذا الديوان مسيرة حركة المقاومة الإسلامية حماس، منذ النشأة وحتى آخر حدث يوثق له الأسير عام 2019 وأحداث إضرابات الحركة الأسيرة وانتخاب الهيأة في المعتقل، ولم ينسَ بطبيعة الحال شهداءها وقادتها، فجاء الديوان سجلا حافلا بالإنجاز الجهادي لأبناء الحركة، من وجهة نظر الشاعر بتحيّز كامل لا مواربة فيه، ولا تقية، ولا تورية، ولعلّ هذا الديوان بهذه الكيفية متفرد؛ فلم يسبق لأسير- حسب علمي- أن وثّق لحركته شعريا بهذا التفصيل البلاغي القائم على الإشادة والتمجيد وإعلاء الشأن.
يقوم هذا المؤلف الشعري على البناء المنطقي؛ من تمهيد شعري وعرض أفكار متسلسل وخاتمة، ويتبع في بنائه أسلوبا شعريا لافتا للنظر، إذ يعيد إلى الأذهان مفهوم الألفيات الشعرية التراثية التي كان ينظمها العلماء من أجل توثيق العلوم والمعارف، لتصبحَ أسهل في الحفظ والمدارسة، وكان الشعراء يتبعون في تلك الألفيات- غالباً- بحر الرجز المزدوج، وفيه تتم المحافظة على الوزن واختلاف القافية في كل بيت شعري، مثل ألفية ابن مالك. ويمكن للباحث أن يحيل القارئ إلى "الألفية الفقهية على مذهب السادة المالكية"، وأراجيز العلماء في الطب أو في الفلسفة، وإن لم تصل هذه الأراجيز إلى ألف بيت، ويدخل في هذا النوع من الشعر ما شاع من القصائد المقصورة، ويقف على رأسها مقصورة ابن دريد في اللغة. وتشير كل هذه النماذج إلى القدرة الشعرية، وتمكن أصحابها من النظم وإتقان شروط الصنعة الشعرية الأساسية القائمة على التوافق بين المعنى والبنى توافقا يجعلها موحدة في الأسلوب والفكرة، مع ملاحظة القدرة على تفريع الأفكار ضمن الخط العام للفكرة الرئيسية.
يعد هذا الشعر- في جانب كبير منه- من الشعر التعليمي؛ إذ كانت الغاية منه نظم قواعد اللغة أو أحكام الشرع الفقهية، أو أحكام التجويد، أو الفلسفة، وأحداث التاريخ والحكايات القصصية شعرا، ليسهل على المريدين حفظها، وترديدها واستدعاؤها كلما عنّت لهم واحتاجوا لشيء منها.
واستمرت هذه القصائد في الشعر العربي بعد ذلك، ووجد لها مبدعون في كل العصور، فوجدت في عصور متأخرة- على سبيل المثال- الألفيات الصوفية، كالألفية الوفية للسادة الصوفية، وصولا إلى العصر الحديث وتأليف الشاعر أحمد محرم ملحمته الإسلامية، ديوان "مجد الإسلام" المكون من أكثر من خمسة آلاف بيت متنوعة في الوزن والقافية، ونحا فيها منحى التأريخ. يتناول في هذه الملحمة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليختمها بمجموعة أبيات حول سرية أسامة بن زيد بن حارثة، حيث توفي الرسول الكريم ولم يتم بعثها وإرسالها، إلا بعد استلام أبي بكر الخلافة. فجاءت هذه الملحمة حول موضوع واحد. وأغلب الظن أن الشاعر أحمد التلفيتي كان على اطلاع على هذه الملحمة، وهذا التراث الغني المشبع بهذا النوع من التأليف العلمي التعليمي القائم على توظيف الشعر لأهداف غير فنية في الدرجة الأولى، إذ لم يقل هؤلاء الشعراء تلك القصائد من أجل الشعر وإنما من أجل خدمة المضمون والفكرة، وبهذا تدخل هذه الألفية في باب المطولات الشعرية، إذ لا حدّ للمطولات، فيمكن للشاعر أن يطيل بها لتصل مئات الأبيات، ويعدّ "التطويل" أحد المقاييس النقدية في الحكم على جودة الشعر عند النقاد، فقد "مثلت المطولات الحيز التجريبي الذي حاول فيه الشعراء إظهار مقدرتهم الإبداعية مستثمرين أقصى ما وهبتهم اللغة من إمكانيات أسلوبية في المستويات كافة". (البنى الأسلوبية- دراسة في الشعر العربي الحديث، د. كمال عبد الرزاق العجيلي، ص291)
وقد شاعت هذه المطولات في الشعر الحديث بصور مختلفة، مبتعدة عن الهدف التعليمي، متوخية أهدافا إبداعية وتوثيقية، كأن يكتب شاعر القصيدة الديوان كما فعل درويش في جداريته، والمتوكل طه في ديوانه "فضاء الأغنيات"، ومعين بسيسو في ديوانه الأخير "القصيدة"، كما يدخل في هذه المطولات المسرحيات الشعرية، والسير الشعرية كما فعل الشاعر إبراهيم نصر الله في ديوان "مرايا الملائكة" الذي يتناول فيه سيرة الشهيدة الطفلة "إيمان حجو".
ومن بين هذه المطولات والأعمال الشعرية جميعا، يبرز ديوان "مجد الإسلام"- كما سبق وذكرت- كأقرب عمل شعري يتقاطع معه أحمد التلفيتي في الفكرة العامة والهدف، وبعض جوانب الأسلوب، فما بين العملين بعض الوشائج، إذ يتناول أحمد سيرة حركة حماس وقيادييها، وشهدائها في هذا العمل، كما وظهر في العملين النزعة التأريخية، وما فيها من اعتزاز وفخر، ممتزجا بالعاطفة الدينية التي سيطرت على كلا العملين، عدا أن كلا الديوانين، ينطلق من فكرة سياسية؛ سياسة دولة الرسول الكريم في "مجد الإسلام"، والسياسة المعاصرة الفلسطينية "في ألفية حماس"، لذلك حفلت الأبيات عند الشاعرين بالمواقف السياسية تجاه الأحداث، وتخللتها أيضا بعض الاستنتاجات التي حاولت أن تصوغها على شكل حكم سياسية أو فكرية ذات بعد عقدي أو فلسفي، كأسس سياسية دينية عامة في حياة الرسول الكريم وصحابته عند محرّم، وفي حياة الحركة ورجالها عند التلفيتي.
جاءت ألفية أحمد الحمساوية في ألفين وأربعمائة وخمسة وأربعين بيتاً من الشعر الموزون والمقفى، وينتظم هذه الأبيات قافية النون المكسورة، ويركب فيها الشاعر بحر الكامل التام (أخو الرجز). وهنا يختلف أحمد الجديد عن أحمد محرم، ففي الوقت الذي جاءت ملحمة محرم متنوعة القافية والوزن جاءت ألفية أحمد التلفيتي موحدة في الوزن والقافية والموضوع.
يمتاز البحر الكامل بالغنائية والانسيابية والمطاوعة، بل إنه- كما ألاحظه في نماذج شعرية معاصرة كثيرة لشعراء شباب- أنه "حمار الشعراء" المعاصرين، وليس بحر الرجز الذي كان مطية الشاعر المبتدئ وحماره، كما تقول المدونة الثقافية العربية القديمة. وقد ساعد الشاعر على إطالة النفَس في الشعر عامل آخر؛ غير البحر الشعري، وهو هذه القافية التي تتزاحم المفردات فيها بكثافة لتكون قافية مستدعاة بفنية عالية، غير مجتلبة، فالنون لا تعد في عرف الشعراء حرف روي صعباً، بالإضافة إلى أن الردف (حرف الألف الذي يسبق النون) مكّن الشاعر من خلق المفردات المثناة التي يمكن لها أن تنقذ الشاعر في كثير من الأبيات.
حرص الشاعر في هذه الألفية على ضبط الأبيات، ضبطا صرفيا ونحويا كاملاً، وفي هذا الأمر عدة إشارات، منها: أن الشاعر حريص على نصه وتجويده، ومراجعته وإتقانه، فعندما يقوم الشاعر بضبط النص بكل حرف فيه، يعني أنه يطيل التأمل فيه، وبذلك تكون أخطاؤه أقل، فهو ليس عملا عابراً، فالشاعر كتبه في السجن، وعرضه على إخوته الأسرى أيضاً، ما أتاح له فرصة مراجعة هذا العمل غير مرّة، ليخرج بهذه السوية اللغوية الخالية من الأخطاء أو تكاد.
إضافة إلى أن شعراء الاتجاهات الدينية والسياسية الإسلامية يحرصون- غالباً- على ضبط النص متأثرين بالنصوص الدينية، وخاصة القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وكأن في هذا الأمر أيضا حماية للنص من سوء القراءة، ومن ثَمّ من سوء التأويل، ما يعني أن ضبط النص كاملا بهذه الطريقة يحمي القارئ من الوقوع في زلل القراءة، ما يتوجب عليه أنه سيقرأ هذا الشعر بالكيفية المطبوع فيها، أي أنه لن يخطئ أبدا، وليس مسموحا له أن يخطئ في القراءة أو يلحن فيها، فلا مبرر لسوء المآل القرائي للنص، ما يمنحه إمكانية جمالية أولية ناشئة عن حسن القراءة، وحسن القراءة للنص الشعري أول عتبة لجودته، إذ تتطلب قراءة الشعر مهارات وانتباهات مضاعفة، فأي خلل في الحركة، صرفيا أو نحويا ستؤدي إلى خلل في جمالية القراءة وسلاستها الإيقاعية عدا ما ينشأ عن ذلك في أحيان كثيرة من انتقاص في المعنى أو تغييره أو اضطرابه.
يحقق هذا الديوان الحماسي الحمساوي بامتياز نواحيَ كثيرة من الشعرية الإسلامية المعاصرة، هذه الشعرية التي اعتمدها شعراء الحركة الإسلامية المعاصرين من أمثال سيد قطب وهاشم الرفاعي ويوسف القرضاوي وعبد الرحمن العشماوي وآخرين، وتتجلى في هذا الشعر المصوغ بصحة لغوية عالية، فلا يعتمد على الانزياحات والاستعارات الغريبة، بل إنه ينحاز إلى المثل العليا والأهداف السامية، مع وضوح في المعاني، وسلاسة في التراكيب، والبعد عن الرمزية والغموض، واجتراح الحكمة أو تمثلها.
وترسم هذه الأشعار لأصحابها الشعراء- على مرّ العصور- صورة مثلى، تقارب صورة الأنبياء والقديسين والصحابة، وهي نفسها الصورة التي يرسمونها لأبطالهم الذين يتحدثون عنهم، وهي بالأصل مقتبسة عن أصل تاريخي سلفيّ النزعة، ينتسب إلى تلك الصورة التاريخية للصحابة- رضوان الله عليهم- والتابعين وكل الصالحين، هذه الصورة التي يراها القارئ في شعر علي بن أبي طالب وشعر الشافعي، والبوصيري، ويراها في شعر أحمد محرم، وكل من سار على هذا النهج من الشعرية الإسلامية، بالإضافة إلى ما ترسّخ من صورة للشاعر الفذّ، حيث تتجلى في هذا النوع من الشعر أيضاً مقدرة الشاعر على النظم بسلاسة وتمكن من الأدوات الفنية الأساسية التي تؤهله إلى دخول نادي الشعراء الكبار.
لا شك في أن هذا الديوان بهذه الكيفية التي أشرت إليها، والتقاطعات الفنية مع الشعرية العربية قديما وحديثا، تؤشر إلى شاعرية ثرية ومتدفقة يتمتع بها الشاعر أحمد عبد الرحمن حج محمد التلفيتي، ملتزما بشعرية مغايرة متفقة مع منهجه الفكري الإسلامي العام، والسياسي الحمساوي، ويرسم لمبدعه صورة الشاعر المقاوم الملتزم والمنغمس في تاريخ الحركة ومفاصلها التاريخية ومنهجها السياسي، متبنيا دون نقاش كل متبنيات حركة حماس السياسية والفكرية، فالديوان بمجموعه يمثل نوعا من الشعر السياسي الفئوي الذي يدور حول فصيل سياسي، محاولا تمجيده بطريقة شعرية، وبذلك يكوّن صورة أخرى للشاعر الأيديولوجي المؤطر في إطار تجعل شعره يسير في هذا المسار الضيّق، وتجعله خادما للسياسة ووجهة نظر معينة، وغير قادر على التحليق في فضاءات الإبداع كما ينبغي للشاعر أن يكون.
وهذا لا يعني بحال من الأحوال ألا يكون الشاعر ذا موقف سياسي وأيديولوجي معين صلب، يدافع عنه بكل ما أوتي من إمكانيات إبداعية وفكرية، لكن عليه ألا ينسى نفسه وإمكانياته الجبارة في كتابة القصيدة التي عليها أن تحاول أن تفلت من إسار السياسة المغلق بأفكارها ومعجمها اللفظي، ولغتها الفقيرة بصورها الفنية، والمحدودة في شعريتها وشاعريتها إلى شساعة الإبداع المتحرر من كل شيء سوى الفن، فلو وصل إلى هذا الفلك العالي لارتفع بشعره وأفكاره السياسية والأيديولوجية عندما يلبسها لبوس الفن الخالص، فلا تعارض- كما أرى- بين الفن الرفيع والشعر الصافي البلاغي الصافي الشفاف وبين الموضوع الأيديولوجي أو الديني العقدي أو السياسي الواقعي اليومي.
ثمة إنسانية عظيمة في حركة الإسلام سياسيا واجتماعيا وثقافيا أرحب من فصائله السياسية، تدعو أحمد وأتباعه إلى تجربة ذلك شعريا، والقفز على كل تلك المسلمات التي تضج بالشعر فتلجمه بلجامها القاسي، بل ربما عليه أن يفكر بالكيفية التي تمكنه من التحرر من ثوبها الذي يضيق مع الزمن على شاعريته الفذّة المثبتة الزاخرة، فيتقلص، ويتضاءل شعريا إن لم يخرج من هذا السجن اللغوي الفكري الذي هو- بلا ريب- لا يقل خطورة على الشعر والشاعر من سجن المكان وقضبانه التي لا ترحم، فليكن هذا الديوان مرتكزا إبداعيا، ومنصّة فكرية قوية وصلبة للانطلاق لما هو أعظم وأدوم عُمراً. فمن حق هذه الشاعرية الممتدة طولا وعرضاً أن تُخلّد بالنصوص العظيمة التي لا تموت.