تدوين-ذاكرات
نشرت مجلة المنتدى الصادرة في القدس في عددها الثاني عشر، في الأول من آذار للعام 1944 مقالة للكاتبة الفلسطينية جميلة الخوري بعنوان الشعر النسائي وفيما يلي نص المقالة:
إذا ذكرت المرأة فقد ذكرت الشعر. كانت المرأة وما زالت موضوعا شعريا خصبا لأقلام العالميين فلم يخلد شاعر إلا وكانت المرأة العامل الاكبر في ذلك الخلود ولم يشع شعر مطرب إلا وكان للمرأة في شيوعه أثر فعال.
إن المرأة هي وحي الرجل ومبدعة فنه، كثيرا ما استشارها في معضلاته واستوحى جمالها ولكنه لم يأتمر بأوامرها بل اعتمدها سلما قوية ارتقى عليها إلى كرسي الخلود ثم رمى بها إلى الحضيض ناسيا فضلها جاحدا نعمتها.
ولقد صدق من قال إنه في الواقع أكثر من أديب واحد من أفذاذ الادباء العالميين الذين خلدت آثارهم مدينون في إبداعهم الفني إلى المرأة التي جعل الله لها في فطرتها نوعا من السحر والخلابة والجمال هو الذي يسمو بخيال أهل الفن إلى ما يبدعونه في آثارهم الفنية ويلهم الشعراء روائع الشعر ويذكي في قلوب المحبين نار الحب، وإذا كان جمال الحياة فنا وشعرا وحبا فإن المرأة هي التي تبغي كل ما في الحياة من معاني الجمال. وهكذا فالمرأة هي ملهمة الشاعر وتعزية العالم ورائد نير لأبناء الفكر الخالدين، إن لها في تاريخ الحروب يدا ملطخة بالدم وفى تاريخ الحب والسلام أيادي بيضاء.
وإذا كانت المرأة الأولى قد دفعت بأبي البشر إلى مخالفة أوامر الشريعة فقد كانت هذه المخالفة حدثا تاريخيا استغله الشعراء لمواضيع فكرية واستقى منه الأدباء والمفكرون مادة خصبة لمواضيع فكرية كثيرة.
وهكذا لا بد لنا ونحن ندرس المرأة العربية في الشعر من أن نثبت حقيقة كل من اطلع على آداب الأمم الخالدة. فهيلانة في حرب طروادة، وافير في بحيرة لامرتين شاعر الحب والأحلام وشارلوت في آلام فرثر وبياتريس في الالعوبة الالهية، كل هؤلاء وكثيرات غيرهن استطعن بما وهبن من حسن عمیق مرهف وشعور دقيق فياض أن يخلقن الفكر الغربي خلقا ويبدعنه ابداعا.
والتاريخ العربي مليء بأعمال البطولة والمجد الذي سطرت في ابداعه المرأة سطرا خالدا مشرفا، ففاطمة الزهراء والخنساء وسكينة وولاّدة أسماء تزين التاريخ العربي لأن لها صفحة لامعة من صفحاته المجيدة.
وفي أدبنا العربي عشرات الامثلة على هذا الرأي فالشعر الغربي والشعر الغنائي في الأدب العربي، بل الآداب العالمية مدينان بوجودهما للمرأة وللمرأة فقط. فالحب قد مثّل دوره في قلوب د المجنون وقيس وكثير وجميل وامرىء القيس وإبن أبي ربيعة وغيرهم أثر هذا الغرام أن ظفر الشعر العربي بقصائد غاية في العذوبة والرقة وتصوير منازع النفس وأهواء القلوب. فلولا غيرة ابنة عم امرىء القيس لما رأينا في شعره المتعاظم الصريح هذه المسحة الرقيقة في تصوير المرأة الجاهلية تصويرا دقيقا واضحا. ولولا الثريا لما قرأنا أخلد آيات الشعر العربي وأشهى قصص الحب ولولا ليلى لما كانت قصة مجنون. ولولا لبنى لما كان قيس بن ذريح ولما تناقل العشاق شعره. ولولا «عزة» لما تمتعنا بشعر كثير وأقاصيصه العذاب.
ولولا (بثينة» لما قرأنا حرقات جميل في مقطوعاته الوجدية وقصائده الغنائية. ولولا «سلافة» وفوز، ووحيد المغنية، وعلوة، وولادة وغيرهن لما خلد الأحوص وإبن الاحنف وإبن الرومي والبحتري وإبن زيدون.
فالمرأة هي ذات التأثير المباشر في فن الأديب أو الشاعر يعكس في ادبه ما يراه في ذاتيتها من عوالم مشرقة أو قاتمة ويظل أثرها واضحا في تلوين أدبه وامداده بالوحى الذي يفيض عليه الحياة وقوة الخلود.