تدوين-ذاكرات
نشرت مجلة النفائس العصرية الصادرة في القدس في جزئها السابع عشر في الخامس عشر من آذار للعام 1920 مقالة للأستاذ خليل السكاكيني بعنوان "الحياة الأمريكية"، يتحدث فيها عن حياة الأمريكيين ويقارنها بحياة الشرقيين وما لاحظ من أنماط الحياة هناك بعد زيارته لأمريكا، وفيما يلي نص المقالة:
من زار أميركا من الشرقيين بعد أن يكون قد زار أوروبا رأى بينهما فروقاً كثيرة منها ما نشير إليه هنا على سبيل الفكاهة والتبصرة.
إن السرعة في أميركا تكاد تكون خمسة أضعافها في أوروبا فما قولك بالفرق بينها وبين الشرق ... الأميركي سريع في قدمه ويده ولسانه ونظره وخاطره. يمشي بسرعة ويعمل بسرعة ويتكلم بسرعة ويأكل بسرعة، إذا أردت أن تعرف كيف يتحرك الأميركي بسرعة البرق الخاطف فقف على جدار السفينة التي تقلك عند أول ميناء أميركي تصله وانظر تلك الحركة الهائلة التي تتخطف الابصار: يفرغون جبالاً من الشحن في أقل من ارتداد الطرف. بل قف عند أول محطة للقطارات أو الترامات وانظر الألوف من الناس كيف ينزلون أو يركبون. أو أدخل أحد المعامل وانظر كيف يشتغلون.
أو أدخل الجامعات أو الكليات أو المدارس الإبتدائية في أوقات اللعب وانظر كيف يلعبون. بل أدخل إلى أحد المصارف مع مئات الداخلين وانظر كيف يكتبون ويحسبون ويقبضون ويصرفون وينهون أشغال الناس بأسرع ما يمكن أن يتخيله الانسان. بل قف في محطة الترامات في سلك مئات من الواقفين وانظر كيف تتحرك الأيدي وتقطع التذاكر. بل قف على جانب الطريق حيث تأمن الصدمات وانظر ألوف الترامات والدراجات والسيارات والعربات يكاد يثب بعضها فوق بعض. بل أنظر إلى الناس الرجال والنساء والشيوخ والعجائز والشبان والشابات حتى الأطفال كيف يشقون الطرق كالسهام المنطلقة.
إذا رأيت ذلك لأول مرة بعد خروجك من الشرق فلا بد أن يأخذك الدوار وتصاب بالصداع وتلزم الفراش ثلاثة أيام على الأقل... لا ترى الرجل في أميركا يمشي الهوينا يتهادى ذات اليمين وذات اليسار وهو يكاد يتعثر بأذياله لا يرى عربة أو حصاناً أو عصفوراً أو ورقة شجرة أو غير ذلك إلا اشرأب عنقه ووقف ينظر بمجامع عينيه، لا يرى تجمعاً إلا دس نفسه فيه وتحرش بما لا يعنيه. لا يرى حسناء مقبلة من بعيد إلا ساحت أقدامه في الأرض وجمد في مكانه لا يتحرك. وجعل يصوب نظره ويصعده من رأسها إلى قدمها ثم من قدمها إلى رأسها مراراً. وإذا جاوزته أتبعها نظره وقلبه الذي يحمله في كمه لا في صدره ولا يلفت رأسه إلا وقد زاغ بصره وتشنجت عضلات عنقه.
لا ترى في أميركا كلها محل قهوة يجلس فيه الناس الساعات الطوال يدخنون وعلى وجوههم علائم التأمل والتفكير كأنهم فلاسفة هذا الزمان وأساطين السياسة فيه.
لا ترى الرجل يلقى صاحبه في الطريق فيستوقفه ثم يصافحه كأنه لم يره من أمد بعيد ثم يبادله المجاملات الكاذبة الطويلة ثم يسأله من إين أنت آت وإلى أين أنت ذاهب وأين صرفت ليلة أمس وأول من أمس إلى غير ذلك من الاسئلة البليدة. بل بلغت منهم السرعة أن عندهم مطاعم يطلق عليها اسم «الغداء السريع» لا ترى فيها كرسياً وإنما يتناول الناس فيها طعامهم وقوفاً وقد يخرج الواحد منهم واللقمة في فمه ...
إذا كانت درجة الحياة في الأمم تقاس بالسرعة كان لأميركا التفوق على الأمم كلها في نشاطها وقواها الحيوية. الأميركي سريع أولاً لأنه نشيط قوي الأعصاب مرهف الذهن. وثانياً لأن الوقت عنده أثمن منه عند كل الأمم. وثالثاً لأن هناك نظاماً محكم الحلقات والحركات مضبوطاً بالشكل
الكامل فأقل إبطاء أو تهاون أو غفلة يوقع خللاً كبيراً ورابعاً لأن قيمة الشخص عنده إنما تتوقف على قدر همته ونشاطه واجتهاده ونفعه، لا على حسبه ونسبه.
والشرقي إذا عاش في ذلك الوسط الحي النشيط الراقي مهما كان بليد الطبع فاتر الدم بطيء الحركة مسترخي الجسم ساقط الهمة فلا بد أن تسري إليه عدوى السرعة فيتحرك ولو كان بدون عمل.