الجمعة  15 تشرين الثاني 2024

رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 9)

2023-07-30 10:07:39 AM
رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 9)

تدوين- نصوص

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.

وفيما يلي نص الحلقة التاسعة: 

لم يرجع عزيز إلى منزله إلا الساعة السادسة صباحاً وكان في حالة من القلق والاضطراب يعجز القلم عن وصفها. وقد دخل المنزل دخول اللص المذعور وسار إلى غرفته وهو يود أن لا يراه أحد غير أن مريم أبصرته فأسرعت اليه وقالت: إن عمك قد سأل عنك هذه الليلة أكثر من ست مرات آخرها منذ نحو نصف ساعة فقط.

فوجم عزيز وقد زاد اضطرابه وخوفه وقال: وماذا كنت تقولين له كل مرة؟

قالت كنت أقول له إنك خرجت لبعض مهام خطيرة.

قال: وماذا جرى حتى أنه سأل عني بكل هذا الاهتمام؟

قالت لم ينم الليل كله فقد عاوده الألم واشتد عليه السقام حتى كدنا نيأس من حياته وكان يغيب بعض الاحيان عن الوجود فنظن أنه قضى نحبه.

فتنهد عزيز وقال: والآن كيف أصبح؟

قالت: إنه الآن في عافية وقد زال الخطر.

قال: وهل جاء الطبيب ليلا؟

قالت: نعم وقد لبث عنده بضع ساعات متوالية ولم ينصرف إلا الساعة الرابعة صباحاً.

قال: وما رأيك الآن؟ هل أدخل عليه؟

قالت: لابد من ذلك لأنه أمر أن نرسلك إليه بحال رجوعك.

قال: وهاءنذا منطلق إليه فليفعل ما يشاء.

قال هذا وأصلح من شأنه ثم دخل إلى مخدع الشيخ فرآه جالساً في سريره وهو مقطب الوجه ثائر قوى النفس. فحياه عزيز وهو مطأطئ الراس ودنا منه يريد أن يقبل يده. فنظر إليه الشيخ بعينين تتقدان بنار الغضب وصاح به قائلا: أین كنت الليل  بطوله أيها الشقي؟

فقال: عزيز لا تضطرب يا عماه ولا تغضب لأن هذا مضر بك.

فهز الشيخ رأسه وقال وهو يزداد تهيجا: وهل أنت ممن يبالون بغضبي ورضاي أو بموتي وحياتي؟ فأغرب عني أيها الدنس وأخرج من هنا في الحال.

ورأى عزيز أن لا يعتذر بشيء لأنه لم يجد سبيلا للاعتذار فخرج وقد فارقه فكره وسار وهو على غير هدى وقد أبصرته مريم ونجلاء في تلك الحالة فدنتا منه وسألتاه عما جرى فلم يحر جوابا. ثم خرج من المنزل دون أن يتناول شيئا من الطعام.
ولكنه ما كاد قليلاً حتى عاد إلى رشده وقد تمثلت له حبيبته استير بكل سنائها فذكر ما جرى بينه وبينها من الحديث وما كان من ظهورها له بأشد عواطف الحب والتعلق فتنفس الصعداء وقال في نفسه: لا بد من القيام بكل ما وعدتها به أمس فليغضب الشيخ ما شاء وليفعل ما شاء فاليوم خمر وغداً أمر.

ومرت به عربة وهو في تلك الحالة فركبها وسار إلى محل أحد أصحاب العربات واكترى منه عربة لاستير تكون قيد إشارتها كل يوم بأجرة ستين جنيها كل شهر وكتب لصاحب العربة صكاً بالقيمة وطلب منه أن يرسل العربة حالاً.

وانطلق عزيز من هناك إلى منزل ناثان الصيرفي وهو يناجي نفسه بقوله: إني سأفاجئ استير اليوم بالعربة فيكون سرورها عظيما ويزداد اعجابها بي فلا تعود تنظر إلى سواي ولا شك أنها بعد هذا ستبعد عنها الكولونيل وكل من كان على شاكلته ممن يتكلمون كثيراً ويفعلون قليلاً.

 وظل يناجي نفسه بمثل ذلك حتى بلغ منزل ناثان وقد استقبله هذا بغاية المودة ودعاه لتناول طعام الفطور معه وألح عليه بذلك. فلبى عزيز الدعوة ودخل وإياه غرفة الطعام. وكانت هناك سارة حظية ناثان فجلس الثلاثة إلى المائدة وأخذوا في الحديث وكانت سارة قد علمت بالهدية التي قدمها عزيز إلى استير أمس فقالت له أحسنت أحسنت والله بتقديم مثل هذه الهدية الثمينة لاستير فهي تستحق منك كل عناية.

قال: وقد اكتريت لها اليوم عربة تكون تحت مطلق تصرفها على الدوام.

فصفقت سارة طرباً وقالت بورك فيك فقد ابهجتها اخيراً وقمت بواجب المحب المخلص. وسأزورها أنا اليوم ونخرج معا للنزهة في عربتها الجديدة.

فقال: ناثان غير أن المسيو عزيزا لا يريد أن يقف عند هذا الحد. فقد وعد استير

بأن يقدم لها اليوم عقداً جميلاً وأثاثاً جديداً لمنزلها.

عزيز: وسأكتري لها منزلاً آخر أجمل من منزلها الحالي وأرحب.

سارة هكذا يكون المحبون وليس كصديقك ناثان فانه لا يهديني شيئاً من أمثال هذه الطرف النفيسة.

فضحك ناثان وقال: سأشتري لك عقداً في هذا النهار فلا تبتئسي. ثم التفت إلى عزيز وقال: ينبغي لنا أولاً أن نقابل ارميا الموسيقي لنرهن عنده الآلات الباقية ثم نهتم بالعقد والاثاث.

عزیز: حسن فافعل ما تريد.

وكانوا قد فرغوا من الطعام فنهض عزیز وناثان فخرجا وركبا العربة إلى منزل ارميا وكانت الآلات الموسيقية الباقية عنده لعزيز تقدر بقيمة مئتين وعشرين جنيها غير أن عزيزا لم يتمكن من رهنها بأكثر من مئة وأربعين جنيها لمدة ثلاثة أشهر وذلك بعد كل جهد وعناء.

وقال عزيز لناثان بعد خروجهما من منزل ارمیا إلی أین ترید أن نذهب الآن؟
قال أرى أن نذهب أولا فنشتري الاثاث. وأنا أعرف في هذا الحي سيدة تدعى راحاب أعلنت منذ أيام أنها تريد أن تبيع أثاثها لأنها مزمعة على السفر. وكل أثاثها من الأنواع الفاخرة الجديدة.

قال: حسن فهيا بنا ووصل عزيز وناثان بعد ربع ساعة إلى منزل راحاب وكأنها كانت عالمة بقدومهما فاستقبلتهما أحسن استقبال ودعتهما للجلوس.
وكانت هذه المرأة في سن الثلاثين من العمر وعلى أعظم جانب من الجمال والظرف.

فقال لها: ناثان إذا كنت لا تزالين عازمة على مبيع الأثاث فأرجو أن تُرينا إياه لأن صديقي المسيو عزيزاً يروم أن يشتريه.

قالت: حبّاً وكرامةً وهذا هو الأثاث معروض لمن شاء فتفضلا وافحصاه.


ثم سارت أمامهما إلى ردهة كبيرة عُرض فيها شيء كثير من الأثاث الجميل والرياش الفاخر الذي لا يوجد مثله إلا في منازل الكبراء وقد أعجب به عزيز وفحصه قطعة قطعة وهو لا يكتم اعجابه وسروره وأخذ بعد ذلك في المساومة.
 

فقالت راحاب هذا الأثاث اشتريته منذ شهر فقط بستمئة جنيه وبما أني عازمة الآن على السفر إلى أوروبا لأمر عائلي ذي بال فأنا مضطرة إلى بيعه وقد جعلت ثمنه خمسمئة جنيه.

فلما سمع عزيز ذلك أخذ ناثان ناحية وقال: غير أن منزل استير لا يتسع لكل هذا.
ناثان: ولكنك وعدتها باستبداله بمنزل آخر أكبر منه وأجمل فهل نسيت وعدك؟
عزيز: لا. لم أنسَ.

ناثان: إذا لا تضيع هذه الفرصة لأنك لن تجد أثاثاً جميلاً كاملاً بخمسمئة جنيه وأنا أرى أن هذه السيدة لولا اضطرارها إلى السفر السريع لما باعث اثاثها بمثل هذا السعر.
عزيز: فاذا كانت على أهبة الرحيل كما تقول فهل ترضى بالبيع دينا؟
ناثان علي تدبير الأمر فاسمح لي بمخاطبتها على انفراد قال هذا واختلى براحاب وقال لها إن عزيزا راض بمشتری الاثاث بخمسمئة جنيه بشرط أن تقبلي منه صكا بالقيمة لمدة ستة أشهر وهو كما يجب أن تعلمي الوريث الوحيد لأحد
أكابر التجار.

قالت ولكن المدة طويلة وهذا يصعب علي كثيراً.

قال: ولكنك لن تجدي من يشتري هذا الأثاث بهذه القيمة لأنه لا يثمن بأكثر من ثلاثمئة جنيه.

قالت: هو كما تقول وبهذه القيمة اشتريته أنا.

قال: فإذا كان هذا سعره فلماذا لا تبيعينه بخمسمئة وغداً تشترين غيره لمثل هذه الصدفة؟

قالت: ولكن من أين لي أن أشتري أثاثاً آخر إن لم آخذ ثمن هذا؟

قال: وإذا دفعت أنا إليك القيمة فهل ترضين بأربعمئة جنيه؟

قالت: نعم.

قال: تظاهري إذا بالقبول بالبيع دينا لمدة ثلاثة أشهر فقط فيكتب لك عزیز صكا ًبخمسمئة جنيه وأنا آخذ منك هذا الصك هذا النهار وأدفع لك أربعمئة

قالت: ليكن ما تريد.

فنادی ناثان عزيزاً وقال له: قد رضيت السيدة راحاب بأن تبيعك هذا الأثاث بمبلغ خمسمئة جنيه بشرط أن تكتب لها صكاً لمدة ثلاثة أشهر وتضيف إلى المبلغ ثلاثين

جنيهاً رباً.

فرضي عزيز بالشرط وكتب الصك المطلوب ثم أخذ وصلاً بالأثاث. المنزل المعد له.
وقال لراحاب: سأرسل غداً من ينقل هذا الأثاث من هنا إلى المنزل المعد له.

وانطلق عزيز وناثان من منزل راحاب إلى مخزن أحد الجوهريين واسمه حايم فابتاع عزيز منه عقداً من الالماس جميلاً بمبلغ تسعين جنيهاً وكتب له صكاً بمئة لمدة سبعة أشهر.

وابتاع ناثان لحظيته سارة عقداً صغيراً من الانواع الرخيصة ولكنه لم يدفع شيئاً بل وعد امام عزيز بدفع الثمن في فرصة اخرى. وكان المطلوب لناثان من عزيز عمالة ( كومسيونا ) قد بلغ هذين اليومين نحو المئة جنيه فطلبها ناثان بدعوى انه في امس الحاجة إلى المال فقال عزيز: ولكني إذا نقدتك هذا المبلغ لا يبقى لديّ شيء ولا لأجرة المنزل الجديد لاستير فنضطر ان نستدين من جديد.

قال: وأنا مستعد لخدمتك في كل وقت. وقد عرفت هذين اليومين تاجراً من كبار تجار الأواني الزجاجية وفهمت أنه يروم بيعها كلها صفقة واحدة.

قال: وما غرضنا من هذه الاواني؟

قال: نشتريها من هذا التاجر ديناً ثم نبيعها لغيره نقداً فيكون لنا مطلوبنا من المال.

قال وهل يمكن أن يتم ذلك في يومين او ثلاثة؟

قال: وفي قل من ذلك إذا شئت.

قال: حسن فيجب ان نبتاع من هذه الاواني بنحو ستمئة أو سبعمئة جنيه. ويا ليتك تقوم أنت بكل هذا العمل فتشتري ثم تبيع وتأتيني اخيراً بالمال فأكتب لك صكاً بالقيمة.
فاطرق ناثان مفكراً ثم رفع رأسه وقال: وعدتك بإخلاص الخدمة فلم يعد يسعني أن أتأخر عن قضاء كل أمر تعهد بي إلي.

فسأبتاع المقدار اللازم من الاواني ثم ابيعها واجتهد ان لا تكون الخسارة التي ستلحقك من جراء ذلك أكثر من عشرين في المئة.

قال: لا بأس فأنا واثق بك كل الثقة ودعني أذهب الآن فأقابل استير ثم أعود إلى المنزل لأني عزمت أن لا أغيب هذا المساء عن عمي وهو في حالته الحاضرة لئلا يفور غضبه علي فيحرمني الميراث.

قال: حسناً تفعل واجتهد أن تكون عند حسن ظنه بك لئلا يعود ذلك بالوبال علينا جميعاً.
ثم نهض عزيز وأخذ عربة أقلته إلى منزل استير حيث قابل الحبيبة وقدّم إليها العقد وأخبرها باستئجار العربة وشراء الأثاث الجديد. وكان سرور استير بكل ذلك عظيماً فضمت عزيزاً إلى صدرها وألقت رأسها على كتفه واخذت تمازحه وتداعبه بغنج ودلال نسي معهما كل تعب وعناء.

ولما نهض يريد الخروج قالت له استير ومتى عزمت أن تنقل الأثاث الجديد وكيف؟


فقال: حقاً إني نسيت فقد اشتريت الأثاث وأنا عازم على نقله إلى منزل لك جديد يكون أرحب من هذا وأجمل وليس لي متسع من الوقت لتدبير كل هذا الأمر لأني مضطر ان اعود الان إلى المنزل لمقابلة عمي وقضاء السهرة عنده.

قالت: إذا كان هذا هو العائق فإن عمتي تقوم بتدبير الأمر على ما يرام فهي تبحث لي عن المنزل الجديد وتهتم بنقل الأثاث إليه.

قال: حسن فلتباشر اهتمامها منذ الساعة.

قال هذا ونادى راحيل فدفع إليها كل ما بقي لديه من المال وأعطاها عنوان راحاب بائعة الأثاث ثم نهض فودع وانصرف وهو يتنهد ويقول لاستير: إلى الملتقى غداً أيتها المفداة.