السبت  18 أيار 2024

رواية وزير إعلام الحرب (الحلقة 7)

2023-08-01 09:24:42 AM
رواية وزير إعلام الحرب (الحلقة 7)

تدوين- نصوص 

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات، رواية "وزير إعلام الحرب" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2019، لكاتبها وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو.

وفيما يلي نص الحلقة السابعة: 

هبط الليل على كفر عرب، نام الذين أرهقهم الانتظار القلق للحرب
التي ازدادت قرائن وقوعها من تعميم عبد الشقي، إلى فض عرس أبو الجود، إلى ما نقل عن زعيم الأمة عبر صوت العرب من أن تدمير إسرائيل صار مسألة وقت.

بقي قليلون على قيد السهر والانتظار، هم أولئك الذين رغبوا في معايشة اللحظة التاريخية لحظة الإعلان عن اشتعال الحرب، كانوا يديرون مؤشر الراديو ينقلونه من محطة إلى أخرى ودائما صوت العرب هو مركز الذهاب والإياب، فمن غير أحمد سعيد المعلّق الأشهر في زمانه سيزف البشرى. كان اليقين بأن الحرب تعني النصر، يملأ عقول وأفئدة الساهرين المنتظرين. وكان صوت العرب يواصل بث الأناشيد الوطنية والشعارات الحماسية ونشرات الأخبار المضوّعة بتصريحات زعيم الأمة.

كل شيء يصدر عن الراديو يقطع بأنّ معجزة بالكاد يمكن أن تمنع وقوع
الحرب، كان الساهرون في المقهى يسلّون انتظارهم بلعب الهاند والباصرة والضامة والزهر والبلياردو ركن البوكر الذي جهزه أبو علوان لزمن السلم، فصل عن باقي أرجاء المقهى بستارة سميكة، وكان رواد هذا الركن قد أخذوا علماً بقرار أبو علوان إبقاؤه مغلقا حتى نهاية الحرب، فالعار كل العار أن يُسمح بلعب القمار في هذه الأيام المصيرية كما وصفها صاحب المقهى ومؤسس الركن.
كانت قلوب الساهرين تهوي كلما توقف صوت العرب للحظات عن
البث، وكانت أيديهم الممسكة بأدوات اللعب تتجمد وتتيبس، إلا أنهـا تعـود
للعمل ما أن يكتشف المستمعون الكرام بأن البلاغ المنتظر لم يتل بعد.
طاولة واحدة كانت خالية من أدوات اللعب يتحلق حولها رجال تبدو
الجدية والرصانة ظاهرة على وجوههم لا يصعب استنتاج أن هؤلاء يمثلون
القوى السياسية في كفر عرب، باستثناء جماعة الإخوان المسلمين وحزب
التحرير، فأعضاء هذين التشكيلين الدينيين يحرمون على أنفسهم مجرد المرور من باب المقهى، فما بالك بالجلوس في مكان سُمع فيه تطاول صريح على الدين، فضلا عن أن مجاورة لاعبي الشدة إن لم تكن من المحرمات، فهي من المكروهات.

 فلاعبوا الورق يكفرون بالله وكتبه ورسله إذا ما حصلوا على
أوراق لا تكسب. كانوا يعرفون أن ركن الميسر المجمد حاليا بسبب الحرب، كان يعمل دون وجل، من آذان العشاء إلى ما بعد آذان الفجر، ومنذ تأسيس المقهى لم تطأ قدم إخواني او تحريري أرضه ولا حتى فناءه الأستاذ رجب وهو أستاذ الاجتماعيات في ثانوية كفر عرب للبنين فرض نفسه منسقا للحوار.
أجواء الحرب شجعته على إشهار بعثيته، والتخلي عن التمويـه علـى
انتمائه، بل أنه أفصح عن حقيقة أنه ليس مجرد عضو أو نصير في الحزب الذي يحكم قطرين عربيين، بل إنه من جيل المؤسسين والمنظرين، حذره وفـر لـه نجـاة من حملات الاعتقال التي لم تتوقف شهرا واحدا في زمن الانقلابات العسكرية، إلا أن زملاءه المدرسين كانوا يعرفون ميوله، وقد ألفوا عنه حكايات كيدية تمس طهارته الوطنية من خلال استخدامهم لعلاقته الوطيدة مع قائد المخفر حتى أن أكثر من واحد من المدرسين همس في آذان زملائه بأن أستاذ الاجتماعيات يكتب تقارير للحكومة عن أنشطة الطلبة والمدرسين في تلك الجلسة طرح الأستاذ رجب نظريته القومية التي تقطع بحتمية النصر، وبتبسيط مدرسي شرح للجالسين على الطاولة نظرية الكماشة ذات الفكين الصلبين اللذين ما أن يطبقا على إسرائيل حتى تنكسر كحبة الجوز، الفك الأعلى مصر والفك الأسفل ،سورية، فأين ستذهب إسرائيل لحظة انطباق الفولاذ على الفولاذ. استحسن الأستاذ عبد الكريم النظرية وأحب أن يزيد عليها ما يعزز صدقيتها.

 = هذا صحيح وقد سمعت شيئا منه على لسان قائدنا وزعيمنا أحمد
الشقيري، فهنالك ما هو أقوى من الفكين الفولاذيين، إنها الحرب الشعبية التي ستدعم الجيوش، وستسرع في حسم الأمر.

غير أن الأستاذ سليم لم يعجبه لا نظرية الكماشة ولا نظرية حرب
الشعب الشقيرية، كان شيوعيا يتداول الناس حكايات صموده في غرف
التحقيق، حتى أنه أعيا أشرس المحققين فلم يحصلوا منه على اعتراف عن أي من زملائه أعجب الناس برجولته، وتغاضوا عن أفكاره الهدامة، كان يجيد تحسين صورة شيوعيته، فقد نفى أن تكون الفكرة الماركسية اللينينية قائمة على الإلحاد، واستنكر الصاق مبدأ لا إله والحياة مادة بالشيوعيين، فالدين خيار حر لكل من يرغب.
كان مستمعوه يهزون رؤوسهم من قبيل المجاملة، إلا أن اكثرهم صراحة، سأله:
= هل تدلنا على شيوعي حج بيت الله الحرام أو صلى؟ فاجأ الشيوعي الجالسين بإظهار تشككه، وربما يقينه بأن ما تقوله الراديو ليس صحيحا، وأن النصر المنتظر بفعل الكماشة وغيرها لا أساس له على أرض الواقع، وقد أورد قرينة هزت يقين الجالسين معه.

= انظروا إلى الغرب، أليست إسرائيل على بعد متر من خربنا وبيوتنا؟
ولو تحركت كتيبة واحدة من الدوايمة لوصلت النهر دون أن يعترضها أحد. اسمحوا لي يا إخوان أنا ما شفت استعداد لحرب جدية.

كان أبو علوان يسترق السمع لحوار الأساتذة، لم تعجبه تصريحات الرفيق الشيوعي فاقتحم الجلسة وصاح مؤنبا:

= كلام من هالنوع غير مسموح به، والحرب لم تبدأ، ولولا أنني أعرفك
جيدا يا أستاذ سليم لقلت إنك طابور خامس يا سيدي بترجاك تسكت لحين نشوف شو بدو يصير، بعدين شو بدو يسوي الأعور الدجال ديـان قـدام جمال عبد الناصر، شو بدو يسوي بيجو وأبو لمعة قبال صواريخ القاهر والظافر، والله لو الدول الثلاث إلي بدها تحارب راجمت حجار على إسرائيل ما يطلع منها مخبّر.

تعهد الرفيق سليم بالسكوت، ولكنه قال كلمة اعتبرها الجالسون أخطر ما سمعوا:

=هذا يا إخوان إذا قامت الحرب في الأساس.

الرفيق البعثي وجه عتابا لصاحب المقهى واقترح عليه أن يعدل موقفه
من احتكار الاستماع لصوت العرب فقط، وطلب إليه الاستماع ولو لربع
ساعة لراديو دمشق وحرصا من صاحب المقهى على الوئام القومي الذي أنتجته الحرب المرتقبة فقد جامل البعثي قائلا:

= الله حاولت بس الظاهر في تشويش قوي عليها.

قال الرفيق البعثي:

= غريب مع إنو الراديو تبعي أصغر بكثير من راديو القهوة إلا أنني أسمع راديو دمشق بوضوح ولا تفوتني نشرة أخبار من نشراته منذ سنوات، جرب تنشوف على رقم4.

 اقترح رجل الشقيري كما كان يوصف من قبل عامة الناس أن يغادروا المقهى للنوم ولو لسويعات قليلة. فياما سنسهر قبل ما نروح ننام يا ترى شو وضع جماعتنا في هلعركة؟ سأل.

= الملك شاطر ما بقدر إلا يحارب وخاف الله انـو مـش راغب في هالحرب.

يتبع..