تدوين- عهد جرادات
نعيش الآن على أبواب عصر أو عالم جديد، بدأت معالمه بالظهور منذ العقود الماضية، في خفية من الأعين ولم تتضح الا منذ سنوات قليلة، وهي تعبر عن روح جديدة للعصر القادم في القرن الحادي والعشرين، هذا العصر والذي أطلقت عليه مسميات عديدة، عصر العولمة، وما بعد الحداثة، والذي قام على أساس الفردية والعقلانية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا، وسقوط آليات العمل التقليدية وظهور اليات جديدة للحياة, فقد عملت الثورة المعرفية سواء في مجال المعلومات أو تكنولوجيا الاتصالات على نقل الفكر من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، و الانتقال في التاثير من الجانب المادي إلى الجانب الاجتماعي المعنوي.
يرجع مصطلح الحداثة في اللغة العربية إلى الجذر "حدث" و من هنا فإن الحداثة ترادف مفهوم التحديث، باعتبارها مرحلة تتميز بثورة المعلومات والتكنلوجيا، الى جانب وصفها بمجتمع ما بعد الصناعة، ومن الإنتاج إلى الاستهلاك.
نشأت الحداثة كمصطلح في أوروبا منذ مرحلة تفكك الثقافة الدينية و ظهور البعد العلماني القائم على أساس العقلانية ( رفض الجانب الديني القائم على اساس سيطرة الكنيسة), و من هنا كانت وليدة النظام الرأسمالي القائم على أساس الصناعة والتنوير في الحكم والسلوك, أما مفهوم ما بعد الحداثة كمصطلح ظهر لأول مرة مع المؤرخ البريطاني توين سنة 1959 و الذي وصف هذه المرحلة باللاعقلانية ومرحلة الفوضى, بعد ذلك المفكر الأمريكي دانيال بل و الذي وصف العصر الحالي بعصر ما بعد الحداثة او عصر التكنلوجيا ( عصر ما بعد الصناعة), تعبر مرحلة ما بعد الحداثة عن الجانب الثقافي الاجتماعي و التربوي للتكنلوجيا الجديدة.[1]
التحديات التي تواجه عملية التربية في المجتمع العربي في ظل تداعيات العولمة الحديثة, سواء كانت تحديات داخلية أو خارجية, و التي تتمثل بالضغوضات والتدخلات الخارجية التي تحاول طمس الهوية العربية في عملية التربية وتشويه الشخصية الثقافية للجيل العربي الجديد, و ربطها بالجانب الإرهابي و التطرف الثقافي. إلى جانب وصفها بالتخلف العلمي والجمود الفكري. هذا الامر دفع الكثير من التربوين لضرورة العمل المتعاون لإيجاد حلول ممكنة لمواجهة هذه الأفكار و نقاش سبل تطوير العملية التربوية والأهلية, و مواجهة التدخلات الغربية في الجانب الاخلاقي و القيمي وتأثيرها على الجانب السلوكي وطبيعة العلاقات الاسرية و الاجتماعية الأمر الذي يمكن أن ينعكس سلبا على العملية التربوية الاسرية و طبيعة العلاقة داخل الاسرة خصوصا في ظل التقدم التكنلوجي و ظهور الاجهزة الذكية التي عملت على سجن الفرد داخل عالم خاص به و تفكك العلاقة الاجتماعية, كنتيجة من نتائج غياب دور المجتمع في العملية التربوية و اقتصار دور المؤسسة التلعليمية على أسلوب التلقين في التلعليم.[2]
بالرغم من وجود العديد من المؤسسات الاجتماعية المساهمة في عملية التربية و التنشئة, الا انه الى حد ما تبقى الاسرة هي المؤسسة الاجتماعية الاولى التي تتمركز مسؤولية التربية و انشاء الافراد حولها, الى جانب تاثيرها المهم في عملية التربية في ظل التغيرات الاجتماعية الكبيرة التي عكستها العولمة و تولد الكثير من المشاكل و التحديات التي رافقت الاسرة في تكوينها و وظيفتها. الاسرة هي النواة الاجتماعية الاولى التي ينشا فيها الطفل, و تتكون شخصيته نتيجة تكون علاقات و عمليات تفاعل بين اعضاءها, فهي المؤسسة المسؤولة عن عملية دمج الطفل في الحياة الاجتماعية و الثقافية و بناء شخصية الطقل خلال المراحل العمرية التي يمر بها الطفل. فالاسرة تقوم بعملية الصقل و التربية اتجاه الطفل, بمساهمة المؤسسات الاجتماعية الاخرى مثل المدرسة و المراكز و الرفاق و المؤسسات الدينية و دورها في تعليم و تدريب الافراد.
تميزت مرحلة العولمة بالتطور العلمي و التكنلوجي خصوصا في مجال الاتصالات و التي جعلت العالم اقرب الى ما يكون بالقرية الصغيرة و سهولة الوصول لكافة المصادر و المعلومات دون وجود حواجز, الى جانب سهولة التواصل بين الدول و الافراد من مختلف المناطق في نفس الوقت. هذا الامر انعكس بشكل اساسي على ثقافة الدول و تولد اشكاليات و مظاهر جديدة متنوعة سواء على الجانب الاجتماعي او الاقتصادي. مثل اشكالية عدم القدرة على الحفاظ على الهوية الثقافية للاسرة في ظل ايدلوجية الاندماج الثقافي و الفكري و التوحد المادي مثل الملابس و الافكار و سيطرة النموذج الغربي على الصناعة و التكنلوجيا و توحدها في جميع المنتجات التي غزت اغلب دول العالم. و تحول الدول النامية الى دول استهلاكية غير منتجة مما ادى الى اكتساح المنتجات الغربية في الاسواق العربية و تاثيرها على الجانب الاجتماعي, فالعولمة اسهمت في توليد اشكاليات اجتماعية تمثلت باشكالية التباعد الاجتماعي بين الناس و الافراد داخل الاسرة الواحدة, و تبديلها بالايدلوجية النفعية الفردية.
من جهة اخرى يمكن الكشف عن دور تحولات العولمة المنعكسة على الجانب الاعلامي و التكنلوجي و الثورة المعلوماتية التي اثرت على الجانب التربوي, من خلال تقليصها لدور الاسرة, و قوتها في التاثير على فكر و اتجاه الاطفال و تكوين شخصيتهم, و اندفاع الاطفال نحو اهتمامات فردية و شخصية مستقلة من خلال الابتعاد عن الاسرة , بفعل تاثير الانترنت و التلفاز و برامجه على العملية التربوية و تكوين افكار الاطفال و اتجاهاتهم, خصوصا في ظل تميز العصر الحالي بقضاء الافراد و الاطفال اغلب الوقت على اجهزة التلفاز و برامجه او شبكة الانترنت و صفحاته الالكترونية, حيث يشير الباحث الدكتور محمد شومان بان الاطفال في امريكا يقضون اكثر من ثلث ايامهم في مشاهدة التلفاز, كما اوضح بان الاطفال في البلاد العربية لا يختلفون كثيرا عن اطفال امريكا في قضاء اغلب الاوقات امام التلفاز و برامجه, خصوصا بعد تنوع القنوات و كثرة البرامج. مما انعكس سلبا في طبيعة العلاقات الاجتماعية بين افراد الاسرة و تقلص التفاعل الاسري و الاجتماعي بين الافراد. كما هو الحال باكتساح شبكة الانترنت حيث يوجد اكثر من 2 مليون مشترك في شبكة الانترنت داخل الوطن العربي بعد انخفاض تكاليف الاشتراك. فشبكة الانترنت و برامجها انتجت ظاهرة الادمان الالكتروني في استخدام الانترنت خصوصا في مواقع التواصل الاجتماعي مثل موقع " الفيس بوك" و "اليوتوب" و عدم القدرة على الاستغناء عنه بالاخص من قبل فئة الشباب, الى جانب انتشار ظاهرة العنف التي تصورها البرامج و الالعاب الالكترونية. فقد رصدت الكثير من الابحاث مدى سلبيات وسائل الاتصال التي تميزت بها مرحلة ما بعد الحداثة الحالية, من خلال تاثير التكنلوجيا على العلاقات الاجتماعية بشكل سلبي, مثل ميل الافراد نحو العزلة, و تفضيلهم لاسلوب الكتابة في التعبير عن مشاعرهم و رغباتهم و انعكاس ذلك سلبا على مدى قدرتهم في التعبير اللفظي و المشاركة مع الاخرين خصوصا في ظل استخدام "الدردشة الالكترونية" على المواقع و برامج التواصل الاجتماعي لفترات طويلة في اليوم. [3]
يعتبر نيتشيه احد اهم المصادر الفكرية الذي اعتبر انه من اهم مميزات الوضع ما بعد الحداثي هو فقدان مفهوم القيم و الجانب الأخلاقي, و الانتماء للجماعة, فانتقد نيتشيه الفكر الذاتي باعتباره عديم القيم. أما ليوتار فقد استخدم مفهوم ما بعد الحداثة لوصف المرحلة الناتجة عن عملية التقدم في مجال العلوم الداعية لتحرير العقل الانساني من القيم الاجتماعية نحو التنوير و التفكير بالمعرفة. اما فيدريك جيمسون فيرى ان مفهوم ما بعد الحداثة هو وصف مفهوم التوحد في الثقافة و طبيعة الحياة الاجتماعية ضمن نشوء انماط و سمات جديدة سواء في الثقافة او في الحياة, بالرجوع الى مبادئ و اسس النظام الراسمالي و الاستهلاكي و التي توصف بمرحلة ما بعد الصناعي او ما بعد الحداثة و التي تتميز بسيطرة النزعة الاستهلاكية. و من جهة اخرى يرى سكوت لاشي ان مرحلة ما بعد الحداثة يمكن تمييزها بتغيرات في الجانب الثقافي و رموزه و خلق نماذج ثقافية جديدة, تتميز بالانحطاط الاخلاقي من خلال كسر كافة الحواجز الاخلاقية و القيمية الجماعية. ففي ظل الراسمالية التي عملت على تفتت الثقافات المتنوعة و بنية المجتمعات عن طريق وسائل الاتصال و الاعلام, حيث يوضح جان بودريار ان مرحلة ما بعد الحداثة هي عبارة عن مرحلة تغيير متكاملة في الجانب الاجتماعي و الاقتصادي و الصناعي, اي هي مرحلة ما بعد الصناعة المتمثلة بظهور التكنلوجيا. و تاثيرها على المجتمع من خلال بعدها المعلوماتي و التقني, و التي عملت على ظهور المجتمعات الاستهلاكية.[4]
اعتبر كاستون بوتول بأن مرحلة العولمة و ما ترتب عنها من مظاهر اجتماعية خطيرة تمثلت بنشوء الحروب, و التي تعد من اسوا الظواهر الاجتماعية التي عرفتها البشرية, لما لها تاثيرات سلبية على الحياة الاجتماعية وتكوين الاسرة و وظيفتها التربوية في انشاء الاجيال, و خصوصا على جانب العلاقات و طبيعة العملية التفاعلية داخل هيكلتها كبناء اجتماعي. فالحرب و العمليات العسكرية و التي تميزت بها مرحلة ما بعد الحداثة او مرحلة العولمة تعمل على الافتقار للموارد و تدميرها, و تغيير الظروف المعيشية ضمن تحول اجتماعي صعب تعيشها الأسر. هذه التغيرات لها انعكاسات سلبية على طبيعة العلاقات الاسرية من خلال تولد التوترات و الاضطرابات النفسية و الضغوطات الاسرية, العنف الاسري, مما بؤدي في الكثير من الاحيان الى هدم بنيوية الاسرة نفسها و بالتالي انعكاسها بهدم القواعد التربوية و الاخلاقية كما هو الحال مع دولة العراق بعد الغزو الامريكي لها كمثال واقعي لتاثير الحروب على البناء الاسري, فالحرب الامريكية على العراق عملت على تحويلها لدولة ذات فوضى اجتماعية تتمثل بتفكك الاسر و ازدياد الارامل و اليتامى...,الخ, الى جانب تاثيرها على الجانب التربوي و الاخلاقي و السلوكي مثل ازادياد حالات السرقة و المخدرات و السطو و حالات الاغتصاب و الاختطاف و العنف. مما ادى الى فقدان الشعور بالامن داخل الاسر العراقية, فحسب مجلة لانسيت الطبية البريطانية و التي صدرت سنة 2006 في تشرين الاول, فقد اوضحت بان حوال 655 الف عراقي تم قتله منذ فترة الاحتلال الامريكي للعراق.[5]
[1] الحداثة و ما بعد الحداثة / فريد باسيل الشاني/ الحوار المتمدن العدد 2190/ 13/2/2008
[2] تحديات العولمة التربوية المتعلقة بالمدرسة و سبل مواجهتها , الدكتور مصطفى يوسف منصور 2007 الجامعة الاسلامية ( مقدم لمؤتمر الاسلام و التحديات المعاصرة
[3] : دور الاسرة في مجال التنشئة الاجتماعية في ظل العولمة / الدكتور محمد شومان / صحيفة الجزيرة / العدد 10354/ 2/2/2001
[4] ما بعد الحداثة: اشكالية المفهوم , محمود فتحي عبد العال ابو دوح
الحوار المتمدن – العدد 2812 (2009)
[5] الأسرة و العولمة: جدل و اختلاف و الحوار, الدكتورة ثناء محمد صالح/ جامعة دمشق و جامعة بغداد /قسم الاجتماع 2007, مجلة التربية و التقدم / مجلة الكترونية محكمة.