السبت  21 كانون الأول 2024

رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 10)

2023-08-03 10:46:11 AM
رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 10)

تدوين-نصوص

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.

 

وفيما يلي نص الحلقة العاشرة: 

ولما بلغ عزيز منزله استقبلته زوجة عمه بوجه يطفح سروراً وقالت: إن عمك اليوم قد قضى نهاره في عافية ونشاط. وقد علمت أنه كان ساخطاً عليك في الصباح ولكنه عاد فراجع نفسه والظاهر أنه ندم على ما فعل فقال لي: متى جاء عزيز اليوم مساءً أرسليه إلي في الحال.

فاستبشر عزيز خيراً وقال: سأنطلق إذا لمقابلته الآن.  وسار بعد ذلك إلى مخدع عمه. ثم دخل المخدع والسرور آخذ منه كل مأخذ. وكان الشيخ مستوياً في سريره ونجلاء جالسة على كرسي بإزائه تقرأ له بعض الصحف اليومية. وهو يسمع أخبار تلك الصحف بمزيد الانتباه. وكانت كلها طافحة بأخبار الحرب التي اضطرمت بين روسيا وألمانيا وبين ألمانيا وفرنسا وزحف الجيوش الألمانية على تخوم فرنسا وتعديها على البلجيك وخرق حيادها وإعلان إنكلترا الحرب على إلمانيا.
فلما دخل عزيز بشّ الشيخ في وجهه وقال: يظهر أن الله أراد أن يطيل في أيامي لأشهد أعظم حرب نشبت في العالم. وقد صدق حدسي يوم قلت لك أن أوروبا كلها ستشتبك بعضها مع بعض في هذه الحرب الكونية. ولكني لم أكن أتوقع من ألمانيا أن لا تراعي حياد البلجيك وتخالف بذلك نصوص القانون الدولي. فقد قررت الدول وألمانيا في جملتها استقلال هذه المملكة وحيادها بموجب معاهدة كتبت منذ أكثر من ثمانين سنة. ومن نصوص هذه المعاهدة أنه لا يجوز لدولة أن تغزو البلجيك ولا أن تهاجمها ولا أن تجعلها طريقاً لجيوشها. وقد جددت هذه المعاهدة غير مرة ووقعتها ألمانيا كما وقعتها إنكلترا وفرنسا.

قال: وهل تظن يا عماه أن البلجيكيين يستطيعون أن يثبتوا طويلا أمام جحافل الألمان الهائلة؟

قال: إنهم لا يثبتون طويلاً ولكنهم سيقاومون الألمان أشد مقاومة ويخدمون بذلك فرنسا أجلّ خدمة.

قال: ولكن ألمانيا ستنتقم منهم بلا رحمة ولا شفقة.

قال: نعم وقد تجعل بلادهم قاعا صفصفا ولكنهم سيدافعون
عن استقلالهم إلى آخر رمق.

قال: ولماذا لا تزحف الجيوش الفرنسوية والإنكليزية إلى بلجكا لنجدتهم وإمدادها قبل أن يحلّ بها الخراب؟
قال: أما فرنسا فلأنها تخشى أن تفصل جيوشها بعضها عن
بعض قبل أن يتم تعبئتها لئلا يتمكن الألمان من مهاجمتها
وسحقها واحداً بعد واحد ولذلك فستكون خطتها إبقاء
جيوشها متضامة ولو أدّت هذه الخطة إلى ترك الأعداء
يجتاحون بلجكا ثم الأراضي الفرنسوية الشمالية الغنية
بمعاملها ومناجمها ويخربونها على هواهم وأما إنكلترا فلا
ينظر منها أن تساعد بلجكا أو فرنسا بالجيوش البرية إلا بعد حين لأن تعبئتها بطيئة ولا جيش بري كبير لديها. ولكنها ستقوم بأعظم خدمة لحلفائها بأسطولها الضخم وها هي قد سدت الآن في وجه ألمانيا كل طريق في البحر ولا تلبث أن تحصرها حصراً تاماً يعزلها عن العالم بأسره ويؤول أخيراً إلى القضاء عليها القضاء المبرم ومن يعش ير.

وكانت نجلاء تصغي إلى هذا الحديث باهتمام وحانت من
الشيخ التفافة إليها فضحك وقال: لقد استرسلنا في السياسة إلى ما يمكن أن يضجرك يا بنية فاذهبي إلى والدتك ولا تعودي إلى هنا إلا إذا دعوتك.

ولما خرجت التفت نعمان إلى عزيز وقال: دعنا الآن من
الحرب وأخبارها وهات نتحدث قليلاً في موضوع سياستنا
نحن. فكيف أحوال المحل؟

فقال عزيز: إنها ليست الآن على ما يرام يا عماه لأن الحرب قد أثرت على الأعمال عموماً تأثيراً سيئاً.
قال: لا ريب في ذلك وأنت قد زدت في هذا التأثير على محلنا بنوع خاص فزدت في سوء حاله.

قال: لا تسئ الظن بي یا عماه إلى هذا الحد.

قال: وأنت لا تحاول إقناعي بغير الواقع. فقد ثبت لي الآن
أنك على غير هدى من أمرك وإذا لم تكبح جماح نفسك
فإنك لا تلبث أن تسقط سقوطاً لا قيام بعده. وقد أظهرت
لك صباحاً أسفي وكدري ثم عدت إلى نفسي وتأملت طويلاً
في حالتك فلم أر دواءً لك إلا الزواج ففيه فقط نجاتك مما
أنت فيه من الجهل والزيغ. وفضلا عن ذلك فأنا أريد أن أفرح بك قبل أن تغيب شمس حياتي من هذا الوجود وقد أصبحت أيامي معدودة كما ترى.

فوجم عزيز لدى سماعه هذا الكلام وقال: ولكني لا أميل إلى الزواج الآن يا عماه وليس من موجب لذلك لأنك في عافية والحمد لله وستحيا طويلا.

قال: الموت والحياة في يد الله غير أني أشعر بقرب الأجل وقد صممت على تزويجك واخترت لك الزوجة التي يجب أن تكون شريكة لحياتك ولا يثنيني شيء عن هذا العزم.
فتنهد عزيز: وقال ومن تكون هذه الشريكة يا عماه؟
قال: هي نجلاء. نعم هي إبنتي نجلاء وأنت لا تجهل شدة محبتي لها ورغبتي في هنائها وليس لي من أمنية الآن إلا أن أراها وإياك سعيدين قبل أن أفارق هذه الدنيا. ولم يكن عزيز مترقباً لمثل هذا الكلام وقد شعر كأن صاعقة نزلت على قمة رأسه فامتقع وقال وهو يتلجلج: ولكن كيف تريد أن أتزوج بنجلاء وهي ابنة عمي؟

قال: لست أنت الأول ولا الأخير من مئات وألوف الرجال الذين يتزوجون ببنات أعمامهم. وفضلاً عن ذلك فإن أكثر
الناس لا يعرفون أنها ابنتي.

قال: يكفي أن أعرف أنا وتعرف هي ذلك.

قال: ويجب أن تعرف أيضاً إني مصمم على زفاف نجلاء إليك فلا تقف في طريق إرادتي وإلا فلا ألبث أن أكتب وصيتي وأحرمك ميراثي وأجعله كله لها ولوالدتها. إما إذا صدعت بأمري واقترنت بنجلاء فلن يكون غيرك وريثي.
قال: لا يمكن أن يكون هذا يا عماه.

قال: ولم ذاك؟ أفلا تعجبك نجلاء بجمالها وآدابها؟
قل بل هي آية الجمال والأدب ولا عيب فيها البتة ولكني أحب سواها.

قال: ويجب أن تقطع كل صلة لك بسواها.

قال: لا يمكن ذلك يا عماه لأن التي أحبها لا يمكن أن يفصلني عنها شيء من القوات البشرية وأنا لا أجد من نفسي ميلاً إلى سواها ولا سكوناً إلى غيرها.

قال: ومن تكون هذه الحسناء التي تيمتك إلى هذا الحد.
قال: هي استير. هي الممثلة إستير الشهيرة.

وما كاد عزيز ينطق بهذا الكلام حتى ارتعد الشيخ من الغضب وقال: إخرس أيها الشقي وإياك أن تذكر أمامي اسم هذه الفاجرة.. وهل بلغ منك الجهل أن تهيم في حب الممثلات وبنات الهوى وتتمرغ في أوحال أمثال هذه المعايب والنقائص؟

قال: رحماك يا عماه فلا تكن قاسياً إلى هذا الحد.

قال: وأنت لا تكن عاصياً وعقوقاً.. وقد أخبرتك الآن بما أجمعتُ عليه فلن أعود عن عزمي. فإما أن تقترن بنجلاء وتنبذ من قلبك حب تلك الغانية أو تخرج من هذا المنزل إلى حيث تريد وتقطع كل علاقة لك بي.. أخرج الآن من هنا وأعطني الجواب النهائي غداً مساءً ولا تطمع في رضاي

عنك بغير ذلك.

فخرج عزيز والدمع ملء عينيه وذهب تواً إلى غرفته وقد
کثرت هواجسه وأحاطت به جيوش الهموم ولم يأخذه نوم ولا قرار حتى الصباح.