السبت  21 كانون الأول 2024

رواية وزير إعلام الحرب (الحلقة 8)

2023-08-06 09:18:15 AM
رواية وزير إعلام الحرب (الحلقة 8)

تدوين- نصوص 

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات، رواية "وزير إعلام الحرب" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2019، لكاتبها وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو.

وفيما يلي نص الحلقة الثامنة: 

ليل الرابع من حزيران وحين صارت الحرب هي الاحتمال الأقرب تنادت مجموعة من النفطيين إلى اجتماع حرصوا على أن تكون مداولاتها فيه سرية للغاية.

اختاروا بيت أحدهم الواقع في إحدى الخرب اللصيقة بكفر عرب وبفعل متطلبات التمويه فقد تسللوا إلى بيت زميلهم واحدا تلو الآخر، محاذرين أن تراهم عيون الفضوليين الذين ينتبهون إلى أي قادم إلى خربتهم.

كان المضيف قد أعد لزملائه وجبة من الصيصان المشوية في الطابون مع الخبز الذي صنعته أمه على الصاج، ولما أكل الزملاء بدأوا مداولاتهم حول إبريق الشاي المضمخ بالميرمية.

بادر المضيف إلى القول:

= لقد صارت الحرب على الأبواب فماذا سنفعل ولهذا دعوتكم.

إعترت الدهشة وجوه الضيوف وكانوا خمسة.
وبلغة الجسد قالوا وهل هذا سؤال يطرح علينا، إلا أن أحدهم سأل لاستطلاع نوايا المضيف:

= ماذا تقترح؟

أجاب
= لا أريد إساءة فهمي.. سؤالي ليس ماذا نفعل في الحرب التي قـد تنشب ونحن نشرب الشاي ولكن ماذا نفعل بأنفسنا.
رد أحدهم.

= مثلنا مثل باقي خلق الله ننتظر ونرى ومثلما يفعل أهل كفر عرب نفعل.
قال المضيف

= الأمر يا صديقي ليس بهذه البساطة، إن هذه الحرب لو وقعت لا سمح الله فستلحق بنا وبمن هم مثلنا ضررا كبيرا. وخفض صوته تدليلا على أهمية ما سيقول " قد تقطع رزقنا.

سأل الجميع بلهفة، كيف؟

ثم تعال هنا، لماذا قلت لا سمح الله، هل أنت خائف من الحرب؟ كل الناس ينتظرونها بفارغ الصبر هل جننت هل تقول لا سمح الله الله أن تهزم إسرائيل وأن ينتصر العرب، استغفر ربك يا رجل.
شعر المضيف بأنه داخل طوق صنعه رفاقه المحيطون به فقال:
طولو بالكم علي ولاحقوا العيار لباب الدار، وخلونا نفترض ومرة أخرى أقول لا سمح الله أن إسرائيل انتصرت واحتلت البلد ولنفترض أيضا أن نسبة الاحتمال واحد بالمائة فماذا سيحل بنا؟ ماذا سيحل بعملنا هناك الذي هو أساس حياتنا وحاضرنا ومستقبلنا، من أين لكم يا أصدقائي أربعين دينارا في الشهر وتعرفون أن هذا المبلغ يتقاضاه في كفر عرب ثلاثة مدرسين أو أربعة.
انتبه المجتمعون إلى أن صاحب الدعوة ذكرهم بأمر لم يكونوا ليفكروا بـه تحت ضوضاء الحرب والصخب الحماسي، فصاحب الدعوة يقول كلاما جديدا وعلى خطورته فهو قابل للنقاش، فمنذ أن بدأت طبول الحرب تقرع لم يجرؤ أحد على مجرد التفكير باحتمال انتصار إسرائيل وقيامها باحتلال البلد.

= فال الله ولا فالك يا رجل.

قالها أحدهم ولكن بنبرة من يقول شيئا ويفكر في شيء آخر واستطرد

= إذا هات من الآخر وريحنا ماذا تقترح أن نفعل؟

كأنه كان ينتظر هذا السؤال اذ قال على الفور:

= نسافر ونلتحق بعملنا ومن هناك نراقب ما يجري، فهنا نستمع إلى الراديو وهناك نفعل نفس الشيء، فإذا زف الراديو نبأ انتصارنا نحتفل، وإن انكسرنا نبكي مع الباكين إلا أننا نكون قد جنبنا أنفسنا مصيرا أسودا والتحقنا بجيش العاطلين عن العمل.

ساد صمت عمیق شابه صوت نقيق الدجاجات الباكيات على ذبح زملائهن واللائي رأين الصينية الممتلئة بالذبيحات وهي تستقر في الطابون لساعة، لتخرج منه مشمّرة محمّرة، ليلتهمها الآكلون عديمو الرحمة، ومن قبيل طرق الحديد وهو ساخن قال المضيف:

= أنا سأسافر من الصباح الباكر فمن منكم يسافر معي فليلاقيني على كراج الباصات الساعة السادسة صباحا.

انقسم القوم، اثنان أبديا استعدادا لمشاركة الداعي قراره بالسفر أما الاثنان الآخران فقد قررا الانتظار والمجازفة بالبقاء للاستمتاع بالطقس المعتدل واستقبال النصر الذي لا شك فيه مراهنين على احتمال التسعة والتسعين
بالمائة نصر، ومتجاهلين الواحد بالمائة هزيمة قبل أن ينفض الاجتماع حرص الداعي على أن يغطي الذين قرروا المجازفة بالبقاء انسحابه وزميليه الذين طاوعاه وسيسافران معه قولوا إنهم يعملون في منطقة سيبدأ الدوام فيها بعد أسبوع، هذا إذا انتبه إلى سفرنا أحد...

كفر عرب بلدة تطوقها الجبال من ثلاث جهات، وهي مفتوحة على البحر من جهة الغرب تنهض من نومها مع آذان الفجر، يتوزع أهلها على المساجد الثلاثة الممتلئة دائما عن بكرة أبيها، وبعد الصلاة لا يعودون للنوم ثانية يحبون الاحتفاظ بوضوئهم حتى صلاة الظهر.
الملتقى المفضل لأهل كفر عرب هو الساحة المركزية للبلدة، والتي يسميها أستاذ اللغة الانكليزية "السنتر" فهنالك كراج الباصات وساحة المسجد الكبير الذي لم يبني بعد يجاورها مقهى أبو علوان اللصيق بحسبة أبو راس التي هي أهم مركز تجاري فيها المزاد اليومي على كل منتجات كفر عرب وخربها من الخضار والفواكه، ولدى أهل كفر عرب عشق للمزاد بفعل إبداعات أبو راس في إطلاق الأهازيج وأغاني الغزل ببضاعته" لولا الشمع غالي لاظوي عليكي يا بظاعتي".

كثيرون منهم كانوا يذهبون بانتظام إلى الحسبة لمجرد الاستمتاع بطريقة صاحبها في الدلالة على المعروضات ومقابل المقهى والحسبة يقع الصالون العصري للحلاقة لصاحبه نعيم، وبجواره أفضل بقالة كان صاحبها قد زينهـا بفترينة زجاجية، كانت واحدة من أهم معالم الحداثة والتميز في كفـر عـرب وعلى بعد أمتار، هي عرض الشارع الذي يمتد من كراج الباصات إلى الحواري الداخلية، اتخذ الإسكافي أبو عبد الله مكانا له يجلس صامتا مسندا ظهـره إلى جدار سقيفة عبد الشقي، فمه مغلق على كومة من المسامير، وينهمك في معالجة الصنادل والأحذية المصنوعة أرضياتها من إطارات السيارات .

ينزع المسامير الناشزة من أحذية الفلاحين، تلك المسامير اللعينة التي أدمت أرجلهم في الرحلة الطويلة من الخرب البعيدة إلى الحسبة، وعلـى بعـد أمتار من ورشة الإسكاني أبو عبد الله، يقع مبنى حجري حديث مكون من طابقين، الأول صف دكاكين أقل جودة من بقالة الفترينة، أعدت كاستثمار للمجلس القروي، أما الطابق الثاني فيحتله أعضاء المجلس.
في فناء مقهى أبو علوان يجلس المخاتير مستمتعين ببرودة الفناء الرطب وبكرم صاحب المقهى الذي يقدم لهم المشروب بالمجان، بينما عيونهم تفتش بين الناس عن أصحاب المعاملات التي تحتاج إلى وضع ختم المختار عليها. كانوا يفضلون وضع اختامهم على شهادات الميلاد، فتلك توفر دخـلا معقولا، خصوصا حين يخص المولود أحد الأثرياء، وكانوا يكرهون وضع اختامهم على شهادة الوفاة، فلا مردود لها سوى الدعوة لمن وضع الختم تحـت اسمه بأن يتغمّده العليّ القدير برحمته، وهذه الشهادة كانت تمنح دون رسوم.
كانت قرقعات كرات البلياردو تصم آذانهم وهم يتبادلون الحديث حول شؤونهم وشؤون رعاياهم فيتغاضون عنها ، وكذلك الكلام الخارج عن اللياقة الذي يطلقه عاثروا الحظ من لاعبي الشدة، لقد تعودوا عليه حتى أنهم أوقفوا التذمر منه مجاملة لصاحب المقهى الذي كان يكرمهم بالمشروب المجاني ويسجل طلباتهم الإضافية في دفتر الدين دون أمل بالسداد.
في الجهة المقابلة كما قلنا يقع الصالون العصري وهو أحد المظاهر الحضارية والتحديثية في كفر عرب كان الفلاحون الذين يرتادون الحسبة يتوقفون أمام الصالون للفرجة على ستائر الخرز الملون التي ركبهـا نـعـيـم للإبهار، وللتفوق على صالونات المدينة، كان الشباب يملأون الصالون وبعضهم ينتظر دوره في فناء المقهى، إنه الموسم الزاهر للمقهى وللصالون ولصاحبيهما اللذين هما حلفاء مصالح وسياسة.
تزدهر ساحة كفر عرب بالعشرات من الشباب القادمين إلى مسقط رأسهم لقضاء الإجازة الصيفية، بعد سنة من العمل المضني في دول الخليج.
كانوا بفعل مدخراتهم أهم الزبائن يدفعون أجرة الحلاقة وما يترتب عليهم للمقهى دون تردد، ودون أن يضطر الحلاق أو صاحب المقهى لاستخدام دفتر الدين، واتهموا بأنهم رفعوا الأسعار، بصورة ألحقت بالغ الأذى بمن لم تطالهم نعمة النفط، لعبة البلياردو بثلاثة قروش وحلقة الرأس والذقن بخمسة، كانت قبل عودتهم أقل من ذلك بكثير.
لم يرفع النفطيون الأسعار فقط بل إنهم نقلوا البلدة من حال إلى حال كلهم مرشحون مفضلون للزواج المهور مهما علت فهي في متناول أيديهم والفوارق الاجتماعية التي يسميها الشيوعيون بالطبقية والتي كانت تمنع من اقتراب المستورين بالحد الأدنى من ذوي الحسب والنسب أخذت بالتلاشي، فمن يدقق في أشجار العائلات حين تشاهد السيارات الأمريكية الفارهة، وهي تتهادى على الإسفلت في الشارع الوحيد الذي يشـق كـفـر عـرب إلى نصفين، فإن لم يكن حسب ونسب الشخص جديرا، فالسيارة والمدخرات والملابس غالية الثمن تتكفل بالتعويض. ثم إنهم أضفوا على كفر عرب مظهرا حضاريا حين كانوا يعرضون أنفسهم بالتبختر على الإسفلت يرتدون بنطلونات من قماشة التركال" التي كويتها كحد السيف، يطوقون خصورهم بالأحزمة الجلدية البنية والسوداء التي يلتمع إبزيمها الذهبي أو الفضي المتآلفة مع الأحذية الجلدية ذات الكعوب الضخمة والمطعمة بالحذوات المعدنية، التي يصدر ارتطامها بالإسفلت صوتا أشبه بارتطام بساطير العسكر في استعراضاتهم المهيبة. كانوا تعرفوا على جمالية انسجام الألوان بين السراويل والقمصان، والقمصان الأشهر في ذلك الوقت هي تلك الشفافة من ماركة أريستر، التي تتزين جيوبها الأمامية برسوم دقيقة مثل عصفورين يقفان على فنن، وسفينة شراعية تطفو على أمواج بحر أزرق، ووردتين متصالبتين، ومن تحت الجيوب الشفافة تظهر الورقة النقدية ذات المفعول السحري لونها أزرق وهي من فئة العشرة دنانير، وفي الجيب الآخر تظهر علب السجائر الإفرنجي الفاخر من طراز "كرافن أي "أو علبة "البلايرز" التي عرفها أستاذ اللغة الإنجليزية في مدرسة كفـر عـرب الثانوية بنين، على أنها المفضلة لضباط وجنود الأسطول السادس الأمريكي، وعلى الوجوه التي لوحتها شمس الصحراء تثبتت نظارات سوداء من طراز بيرسول، يعكس زجاجها أشعة الشمس فتخطف أبصار المارة الذين يرون هذه البدع لأول مرة، وهنالك كثير تردد وسرى بين الناس سريان النار في الهشيم، هي أخبار تلك الهدايا العجيبة التي أتى بها النفطيون.

 راديوات تسمع منها الأغنيات ونشرات الأخبـار وهي في جيبك، وساعات الأوريس والجوفيال التي تضيء في الليل، وقد كشف سرها أستاذ الطبيعيات في مدرسة كفر عرب، بأن عقاربها وأرقامها مطلية بمادة الفسفور.

ولأول مرة عرض في مقهى أبو علوان الجهاز المطور عن صندوق العجب، فقد تجمّع رواد المقهى وزبائن الصالون العصري حول عجيبة ذلك الزمان، جهاز بحجم صندوق صغير ركبت عليه بكرتان، وعلى مرأى من المتفرجين بشغف، أمر صاحبها المطربة سميرة توفيق بأداء أغنية " بين الدوالي فامتثلت، وهذا قدم للجمهور من قبل أستاذ اللغة الإنجليزية الذي قال إنه بالعربية يسمى المسجل وبالإنجليزية الريكوردر، ذلك دون اعتذار للممثل المصري حسين رياض الذي خلط العربية بالإنجليزية في واحد من أفلامه.

يتبع..