الجمعة  15 تشرين الثاني 2024

غاستون باشلار: مفاهيم ومرتكزات المشروع

النومين (الشيء في ذاته)| الحلقة 8

2023-08-08 08:58:55 AM
 غاستون باشلار: مفاهيم ومرتكزات المشروع
غاستون باشلار

تدوين- ترجمة: سعيد بوخليط 

تقديم:

اقتراح مشروع معجم حول غاستون باشلار، يعني بالتأكيد التحلي بعدم الوفاء نحو إلهامه الفلسفي الخاص. لأننا سنقاربه مثل موضوع يلزمنا بدراسته في حين رفض باشلار باستمرار ذلك، وفضَّل أن يكون شخصا دارسا، وفاعلا بصدد الدراسة.

أما بخصوص الإبستمولوجي، فيعني ذلك تجميده ضمن نطاق الوضعية التي خلفها لنا باشلار، بينما يرتكز تصوره على ضرورة مصاحبة فقط الإنتاج الوحيد الذي يبدو جديرا بالدراسة والاهتمام، ذلك المتعلق بمعرفة لا تتوقف عن الاشتغال.

تكمن الطريقة الوحيدة كي نبقى أوفياء لباشلار (1884- 1962)، في السعي إلى مواصلة صنيعه بالتموضع عند أفق التطورات الأخيرة وكذا آخر تساؤلات المعرفة. حينها يبرز معنى التساؤل عن مضمون قوله عندما يستعمل هذا المفهوم أو ذاك، ثم الانخراط عند الاقتضاء، في سجال، استدعاه  باشلار دوما  شريطة انغماسه بين طيات تربة معرفة بصدد التشكُّل.

تكمن الطريقة الوحيدة كي نبقى أوفياء لباشلار (1884- 1962)، في السعي إلى مواصلة صنيعه بالتموضع عند أفق التطورات الأخيرة وكذا آخر تساؤلات المعرفة

إذن، بناء على العلاقة التي وطدها سجاله مع سياق الوضعية الأخيرة التي بلغها العلم، قد نرتاب بخصوص قدرتنا على توثيق ضمن إطار تاريخي محدد. صدرت أعمال باشلار حول فلسفة العلوم بين سنوات 1928 و1953: يعود أحدثها تقريبا إلى نصف قرن، وطيلة هذه المدة، لم تتوقف فاعلية العلم عن التبلور، بل على العكس.

كي نسرد الأشياء بسرعة، نقول بأنَّ باشلار شاهد عيان توخى اصطحاب ظهور النسبية الخاصة وكذا النسبية العامة ثم ميكانيكا الكمِّ، لكنه رحل قبل التطورات الحالية. ألن يظهر تحفظا أقل إزاء فكرة الكون، لو أدرك مثلا الأبحاث الجارية على مستوى علم الكون؟

ربما أمكن القارئ الذي يمتلك معرفة بالوضعية الحالية للعلوم، الانخراط في مناقشة بعض نتائج تحليلات باشلار، لكي يضمن له على الأقل ''انفتاحا'' جديدا، لكنه ليس بالموقف الذي نتوخى تبنيه هنا: من جهة، يقتضي الأمر كفاءة حقيقية على مستوى المباحث، ومن جهة ثانية نسعى فقط تقديم مساعدة بخصوص قراءة مشروعه، بغاية التمكن تحديدا من إبراز الكيفية التي يواصل بها غاية اليوم إضاءة العلم.

تحضر دواع أخرى، تثيرنا بخصوص قول الكثير حين تناول قراءته التي بلورها الرافد الثاني من مشروعه المتعلق بالخيال. هنا، اقتحم باشلار مسارات عدّة وأشار غالبا إلى حقول لم يقف عندها قط لكن ينبغي اقتفاء أثره من أجل استلهام خطوات من هذا القبيل، بل وإتمام السعي قصد إنجاز عمله، الذي يستحيل عرضه دون التحسر على غياب إمكانية القدرة على الاشتغال بغية تمديد مرتكزاته.

الرافد الثاني منفتح كما الشأن بالنسبة لخلاصات مشروعه على مستوى العلم.

قليلة هي المشاريع المستفِّزة والمحرِّضة، مثلما الأمر مع نتاج باشلار: لا نقرأه دون انبعاث رغبة الاستعداد كي نكون عند مستوى أفقه.

قليلة هي المشاريع المستفِّزة والمحرِّضة، مثلما الأمر مع نتاج باشلار: لا نقرأه دون انبعاث رغبة الاستعداد كي نكون عند مستوى أفقه.

ينتبه فكره إلى المستجدات، سواء استندت على مفاهيم أو صور، فيظهر باستمرار مختل التوازن، يبحث بلا كلل عن توازنه. في خضم ذلك، وضع لبنات معجم يقيس في الوقت نفسه اقتضاءه وكذا إبداعيته.

لقد أقام باشلار التعابير التي يحتاج إليها سواء بأن يبدع التئاما غير متوقع حول اسم وصفة تضمنتهما اللغة، سواء بتحويل كلمة عن دلالتها المتفق عليها، سواء بخلقه كلمة جديدة حينما يصبح ضروريا. ليس بالإمكان اتباعه هنا من خلال إبداعاته المعجمية المبرَّرة دائما. نتطلع فقط مساعدة القارئ حتى يركِّز انتباهه حول عدد صغير جدا من المصطلحات.

عموما، اشتغل باشلار على رافدين اثنين، فلسفة العلوم، لا سيما علوم الواقع، ثم فلسفة الصور، أساسا الصور الشعرية. هل يتعلق الأمر بنفس الفلسفة، أو هل ينبغي جعلها متعارضة في إطار فلسفة للنهار وثانية تسكن الليل، واحدة متعلقة بالمفاهيم وأخرى تراهن على الصور؟

سنلاحظ هنا بأنَّ استعراض قاموس باشلار يقدم حججا كي ننتصر للوحدة، لكنها وحدة نقتفي أثرها وتتشكَّل باستمرار عبر إعادة التصميم التي تفرض نفسها كي تتجلى باعتبارها فلسفة تهتم بصياغة الجديد.

إذن، سأحاول طيلة ستة عشر حلقة، رصد أهم مرتكزات مفاهيم باشلار ومعجمه على مستوى العلوم أو تصوراته الشعرية، مثلما رتَّبته دراسة الباحث جان كلود باريونت عبر إصدارات سلسلة معجم الفلاسفة التي يشرف عليها جان بيير زرادر (*).   

 باشلار: النومين

استعار غاستون باشلار من كانط  مفهوم النومين (الشيء في ذاته)، وكذا نقيضه الفينومين (الظاهرة)، بيد أنه استعملهما بكيفية شخصية جدا. بالنسبة إليه، لا يستند التعارض أساسا على علاقة مع المكان والزمان؛ وما استلهمه من المعنى الكانطي، يتمثل في استناد النومين على قابلية الإدراك، لكنه يضفي على ذلك دلالة بوسعه أن يكتسيها ضمن سياق نظريته المعرفية.

وظف معجم باشلار كلمة النومين، تقريبا منذ سنة 1931، واستمر التصور بين طيات كتاباته غاية مؤلفاته الابستمولوجية الأخيرة (مثلا ''النشاط العقلاني للفيزياء المعاصرة'' سنة 1951، حيث بدا النومين نقيضا لمفهوم الشيء في ذاته).

حظي منذ البداية، ببنية معقَّدة أتاحت له تسليط الضوء على ظاهراتية تقنية قادرة على بناء ظواهر أخرى. تجدر الإشارة، إلى أنَّ مفهومي النومين وكذا الظاهراتية التقنية، قد تبلورا معا لدى باشلار خلال نفس السنة أي، 1931.

تتجلى العلاقة عند باشلار بين الظاهر والنومين حسب بعدين: من جهة، تذهب من الخاص نحو العام، ثم من الواقعي نحو الممكن.

تتجلى العلاقة عند باشلار بين الظاهر والنومين حسب بعدين: من جهة، تذهب من الخاص نحو العام، ثم من الواقعي نحو الممكن

حسب البعد الأول، يمكننا القول بأنَّ باحث الرياضيات ينفذ نحو النومين لحظة إدراكه عدم ارتباط فيثاغورية المثلث المستطيل ببناء مربعات عند كل جوانبه، لكن اختباره على مستوى بناء أشكال لانهائية شريطة تماثلها: يكتسي التماثل هنا قيمة النومين، لأنه يقدم مبرر خاصية برهنت عليها أولا وضعية المربع الجزئية.

أيضا، حين اعتبار كل شكل جزئي بمثابة ظاهرة رياضية، يتبدى النومين عند مصدر إنتاجها (كتاب العقلانية التطبيقية، الفصل 5)، بالتالي نقترب من البعد الثاني، الذي يتجلى بكيفية أكثر وضوحا مع أبحاث علوم الواقع، الكيمياء مثلا، بحيث تشكِّل نماذجها المتطورة أمثلة عن النومين (بصيغة الجمع) لا سيما حينما يتعلق الأمر بتمثَّلات ذات طبيعة مكانية: سنرى درجة ابتعاد باشلار عن المفهوم الكانطي، ما دام تطور صيغة جسم معين تتوقف بحسبه، على أهمية ما يقدمه على مستوى ''تعداد واضح للممكنات": "تظهر قَبْليا استحالة بعض التجارب لأنَّ الصيغة المتطورة تمنعها؛ في المقابل تحققت تجارب أخرى نتيجة توقعنا المبدئي صوب إمكانها انطلاقا من الصيغة المتطورة (فلسفة النفي، ص 60، أيضا الفكر العلمي الجديد، ص 57- 58).

يبرز، هنا، النومين الباشلاري طبيعته الحقيقية، حينما يتيح إمكانية البرهنة على عنصر كيميائي: خطاطة عقلانية للتدخل التجريبي، ليست منفصلة عن الحقيقة الزمكانية.

لماذا احتاج باشلار كي يُضَمِّن فلسفته للعلوم التمييز بين الفينومين والنومين، بينما مصدرها، جهاز مفهومي واحد ينهل من المعرفة التجريبية؟ قد يأخذ طرح السؤال معنيين.

إذا بحثنا في سبل دواعي اختياره التحدث بلغة كانط، يشتغل حينها السؤال ضمن أفق صيغة جواب، لن يكون بوسعه الاستناد سوى على معطيات بيوغرافية.

غير أنه قد نتساءل في الوقت ذاته، عن وظيفة هذا التمييز داخل  فلسفته العلمية، مثلما أعادت تأويله، ويمكن بهذا الخصوص اقتراح جواب نظري. نطرح إذن بداهة، الصلة الوثيقة الكامنة بين مفهوم النومين والعقلانية التطبيقية.

بفضل قدرة النومين على التعميم، سيضفي تنسيقا، يربط ثانية عقلانيا ظواهر اختُبِرت فعليا في ذاتها لكنها ظلت منفردة، كما الشأن عند اكتشافنا التطابق الموجود بين ظواهر ضغط الغاز داخل وعاء ثم الضغط التناضحي بين سائلين.

تنضم نظرية السوائل على مستوى النومين إلى النظرية الحركية للغازات، بينما تتباين ظاهراتيا، يتجلى توافق على مستوى رافدي الفكر والتجربة (العقلانية التطبيقية ص 126 -130). بالتالي، هل يشكل الانتقال إلى النومين انتصارا للعقلانية التطبيقية التي انطوت على جلِّ خاصياته: يتدخَّل كطرف ثانٍ بخصوص معارف قائمة سلفا، يفتحها الواحدة حيال الأخرى، ويرسي في إطار انسجامه الرياضي والتجريبي منطقة عقلانية جديدة.                  

*المرجع:

جان كلود باريونت: معجم باشلار، 2016، منشورات إيليبس. ص: 28-26.