السبت  18 أيار 2024

رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 11)

2023-08-08 11:27:42 AM
رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 11)

تدوين-نصوص

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.

 

وفيما يلي نص الحلقة الحادية عشرة: 

ما انبثق فجر اليوم التالي حتى كان عزيز على باب منزل استير وقد فتحت له راحيل وسألته متعجبة: ماذا جرى حتى أتيت في مثل هذا الوقت؟ فهل مات عمك؟
فقال عزيز كلاً لم يمت وإنما جئتُ الآن لأرى استير لأمر خطير جدا لا يحتمل التأجيل.

قالت: ولكن استير لا تزال نائمة.

قال: لابد من ايقاظها.

ثم دخل إلى مخدع استير فرآها نائمة وغدائرها الجميلة مدلاة على كتفيها كأنها كفاف من المسك لذلك الوجه المنير. فجثا على قدميه عند السرير وأخذ يدها وقبلها. ثم انحنى عليها يريد أن يقبلها في خدها فأفاقت استير مذعورة ولما رأت عزيزاً تاب إليها روعها وقالت: وما الذي جاء بك الآن إلى هنا؟

دعني آخذ نصيبي من الراحة ولا تزعجني فقاطعها عزيز قائلاً: عفواً أيتها الحبيبة فقد حدث ما اضطرني إلى ذلك.

قالت: يظهر أن الشيخ قد مات وجئت تبشرني بذلك.

قال: لا إنه لم يمت وإنما حدث ما لم يكن في الحسبان وما لا يمكن أن يخطر في بال إنسان قالت وما ذاك؟ أخبرني بجلية الأمر.
قال: إن عمي يريد أن يزوجني.

قالت: وكيف يكون هذا الزواج وهو على فراش الموت؟ يظهر أن الشيخ قد اختل عقله.

قال: ولو علمت بمن يريد أن يزوجني لطار عقلك من الدهش.
قالت: بمن؟

قال: بابنته بنجلاء. وأنا لا أستطيع أن أطيق هذه المخلوقة ولا والدتها. وقد تهددني بالطرد والحرمان إذا أنا لم أصدع بأمره وهو يطلب جوابي اليوم مساءً. فجئت إليك لأرى رأيك لأني أوثر الموت على الانفصال عنك.

قال: ذلك وشرق بدمعه. فضحكت استير ونهضت من سريرها

وهي تقول: ولم البكاء أيها الطفل؟ إن عمك يريد أن يزفّ إليك ابنته فلا تمانع وليكن جوابك بالقبول.

قال: وأنت تقولين لي هذا ايضاً؟

قالت: نعم. لأنك إذا خالفت أمره يحرمك تركته كلها وحينئذ فما فائدتي منك وأنت صفر اليدين؟ نعم إني أحبك بكل ما في جوارحي من قوة الحب ولا أوثر عليك أحداً. ولكن كيف تكون حالتي إذا أصبح حبيبي فقيراً وليس في طاقته أن يقوم بنفقاتي؟ أما إذا تزوجت فإنك تصبح غنياً فيزداد حبي لك. ولا ترهب هذا الزواج فسأكون لك وأنت متزوج كما كنت لك وأنت عزب بلا فرق بين الحالتين لأن الزواج الآن لا يقيد الرجل بزوجته إذا كان له خليلة يحبها.

فشعر عزيز لدى سماعه هذا الكلام كأن حملاً ثقيلاً أزيح عن عاتقه فضم استير إلى صدره وقال: فأنت تشيرين علي إذاً أن أرضى بهذا الزواج.

قالت: نعم.

قال: وأنا سأتزوج إرضاءً لك فقط لأني لا أروم سواك في هذا الوجود. وسأزورك بعد حفلة الزفاف حالاً لأبرهن لك على أن زواجي لم يكن إلا فصلاً من فصول التمثيل ليس إلا.

قالت: ولكني أنصح لك أن لا تفعل ما يغيظ عمك قبل أن يكتب وصيته وحينئذ تفعل ما تشاء. وبعد حديث قصير في مواضيع أخرى نهض عزیز فودّع استير وخرج.

وفي طريقه مرّ على ناثان الصيرفي وعلم منه أنه اشترى لحسابه الأواني الزجاجية بثمانمئة جنيه وكتب للبائع صكاً بثمانمئة وخمسين جنيها لمدة شهرين لأنه لم يرض بغير ذلك. وأنه باع هذه الأواني لبعض التجار بستمئة وأربعين جنيها. ثم أدى له الستمئة وأبقى لنفسه الأربعين عمالة وقال: تفضل الآن واكتب لي صكاً بالمبلغ. أكتبه هذه المرة باسمي لأن صاحب البضاعة لم يرض إلا بأن يكون الصك بتوقيعي.
فتسلم عزيز المال وكتب صكاً لناثان بقيمة ثمانمئة وخمسين جنيهاً وعاد بعد ذلك إلى منزله وهو لا يعلم ماذا يفعل. ولما بلغ المنزل دخل إلى مخدع عمه فألفاه جالساً على سريره وبيده جريدة يطالعها. ولما رأى الشيخ عزيزاً تلقاه بالبشاشة والاهتمام وقد ترك الجريدة جانبا وقال عسى أن تكون قد جئتني الآن بما يزيدني بهجة وعافية.

فقال عزيز: نعم يا عماه لأني لا أريد أن أخالف لك امراً. فحدّق الشيخ إلى عيني عزيز كأنه يحاول قراءة صحيفة قلبه وقال: فهل تريد أن تقترن بنجلاء؟

قال: نعم.

قال: تعال إذا لأقبلك وأضمك إلى صدري. فدنا عزيز منه وقبله وقبل يده فقبله الشيخ وضمه إلى صدره وبكي من شدة الفرح وقال: أدعُ لي نجلاء ووالدتها. فخرج عزيز ولم يبطئ أن عاد وهما معه.

فقال الشيخ لمريم: لقد سألتني مرارا عن الوصية وعما سيحل بك وبابنتك بعد وفاتي. فجوابي على كل ذلك هو أني لم أكتب وصيةً حتى الآن ولا أريد أن أكتب شيئاً ولكني أقدم لك ولابنتك وريثي العزيز بالذات. فهو كله لكما هو لنجلاء ونجلاء له. ولم تكن مريم ونجلاء تتوقعان أن تسمعا مثل هذا الكلام فوقفتا جامدتين لا تدريان ما تقولان.
فقال الشيخ لعزيز ونجلاء: ادنوا مني الآن لأقبلكما وأبارككما.
ففعلا وقبلهما الشيخ وقد اغرورقت عيناه بدموع الفرح ثم قال: قبلا الآن أحدكما الآخر وأخرجوا كلكم من هنا لأني أريد أن أخلو بنفسي وأرتاح مما ألم بي من التأثير. ففعل عزيز ونجلاء ما أراد الشيخ ثم خرجا وفي إثرهما مريم وهي أكثرهما سروراً.

وأقام عزيز بقية النهار والليل الذي تلاه في المنزل لم يخرج منه لا إلى المحل ولا لمقابلة استير وقد فعل ذلك لإرضاء عمه. غير أنه لم يجتمع بنجلاء أو بوالدتها إلا بضع دقائق كان الحديث فيها بكل تكلف وجفاء.