تدوين- نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات، رواية "وزير إعلام الحرب" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2019، لكاتبها وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو.
وفيما يلي نص الحلقة التاسعة:
كانت ساحة كفر عرب أشبه بمسرح في الهواء الطلق أعد لتقديم عرض درامي لا يعرف المشاهدون متى يبدأ، إلا أنهم جميعاً في حالة انتظار وتحفّز، كان راديو المقهى الذي نسّق صاحبه مع راديو الصالون العصري عمليات استقبال البث الإذاعي، يشنفان الآذان بالأناشيد الحماسية، وما تسمى بالمنطلقات التمهيدية للإعلان العظيم، كان أبو علوان ونعيم قد وفرا كل ما يلزم لالتقاط أخبار الحرب القادمة، ملأوا البطاريات الضخمة بماء النار وركبوا هوائيات إضافية على الأسطح، تسهل التقاط الإذاعات البعيدة ولتتفادى التشويش المحتمل من قبل الأعداء، واتفقا على أن يثبت مؤشر الراديوين على صوت العرب معبود أبو علوان والبرنامج العام من القاهرة معبود نعيم.
نعيم يفضل البرنامج العام من القاهرة، لأن هذه الإذاعة كانت تبث في زمن السلم ما يبهج زبائن الصالون من الأغنيات التي تذاع في برنامج أضواء المدينة، كان نعيم يحفظ كل الأغنيات، ويؤديها على مسامع الزبائن دون أن يثنيه عن ذلك الفرق الهائل بين صوته الأجش والمتهدج وصوت نجاة الصغيرة، وشادية.
فجأة ساد الصمت. سكت صوت العرب، وسكت البرنامج العام وسكت الناس بالطبع هوت القلوب بعد أن سمعت تلك الجملة السحرية التي تعود الناس على سماعها في زمن الانقلابات العسكرية القادمة من دمشق وبغداد.
جاءنا الآن ما يلي ما أن فرغ المذيعان من الإعلان عن إسقاط أول دفعة من الطيران المعادي وكانت ثمانية، غاب صوت الإذاعتين وراء هتافات رواد المقهى والحسبة والصالون العصري. خرج نعيم عن طوره وبعض وقاره تاركا أحد الزبائن والرغوة البيضاء الكثيفة تغطي نصف وجهه وشرع في رقص جنوني كما لو أنه يقول بلغة الجسد وأوامر القلب، لقد صدق الزعيم وجاء يوم إعداد العدة لوداع الصالون وكفر عرب والعودة إلى الدوايمة سأحلق لكل أهل كفر عرب مجانا، هذا هو النذر الذي قطعته على نفسي لو نشبت الحرب.
ظل نعيم يواصل رقصه الجنوني، وحلقة المتفرجين عليه تزداد وتتسع لم يبق وحده راقصاً احتفاءً باندلاع الحرب، فقد شاركه عدد من الدبيكة الذين هم نجوم الأعراس في كفر عرب، ورغم جلال المناسبة إلا أن الكهول ممن دفعهم الفضول لمراقبة الحلاق وهو يرقص لم يتوقفوا عن إطلاق التعليقات حتى أن أحدهم قال بصوت مسموع لماذا العجلة، لماذا الرقص ونحن لم نعرف بعد خير هذه الحرب من شرها. لم يعدم الحلاق اللاجئ، متفهمين لفرحه ومتفاعلين معه، فقد أسكت الشباب المبتهج الكهل صاحب التصريح الحذر، وأفهموه بلغة التقريع بأن إسقاط ثماني طائرات في أول وجبة تكفي لاعتبار الحرب قد تكللت بالنصر والقادم سيكون أعظم.
انفض الكهول من حول الحلاق، واتجهوا ناحية مقهى أبو علوان للاستمتاع بمشاريبه الباردة والساخنة، إلا أن ما وجدوه في المقهى لم يكن يختلف كثيرا عما رأوه أمام الصالون العصري. كان لاعبو الشدة والبلياردو وغيرها من الألعاب المتداولة في المقهى، قد الّفوا حلقات دبكة ورقص ومنهم من أطلق الزغاريد والأهازيج. سمح أبو علوان لزبائنه بإطلاق فرحهم إلى أقصى حد، حتى أنه وهو المعروف عنه توخي الحشمة والرصانة في مظهره وسلوكه، شارك زبائنه الرقص والدبكة، وكأن الفرح وما ينجم عنه من أفعال يسري كالعدوى وهيهات أن يقاوم حين يكون الأمر متعلقاً بحرب طال انتظارها، وبصدقية الزعيم الذي نذر أبو علوان نفسه لولاء أبدي له، ورهان لا يخيب على زعامته ووعده.
قرر أبو علوان إطلاق مبادرة تتوج الفرح فرفع يديه عاليا وطلب من زبائنه التوقف والهدوء، وأشار إلى اثنين من ذوي العضلات المفتولة والاكتاف السمينة لحمله مصطنعا منهما منصة لإطلاق مبادرته.
بعد أن استقر على الكتفين السمينتين، أعلن انه من اللحظة وحتى يعلن زعيم الأمة النصر من قلب تل أبيب، فكل الطلبات ستقدم للزبائن بالمجان، اشتعلت قاعة اللعب بالتصفيق والهتاف لكرم ووطنية مضيفهم. لم يكن قد نسّق هذه المبادرة مع زملائه أصحاب المقاهي في الوطن العربي الكبير الذين فعلوا نفس الشيء. لم تكن هذه هي كل ما لديه في الساعة السعيدة التي هبطت عليه من راديو صوت العرب، تخلّص من منبر الأكتاف السمينة، وما أن لامست أقدامه الأرض حتى شرع في التمهيد لمفاجأته الأهم، بأن مشى مستعيداً تدريباته في الحرس الوطني بخطى عسكرية رصينة، متجها نحو ركن البوكر المغلق، فأزاح الستارة ونبش الأغطية التي تبين أنها كانت مجرد تمويه على ما تحتها، وجذب الإطار الفضي وحمله بكلتا يديه ورفعه إلى أعلى ما يستطيع، فاشتعلت القاعة بالتصفيق والهتاف بحياة صاحب الصورة زعيم الأمة بطل الحرب والنصر. كان الاحتفاء بالصورة يوازي وربما يزيد حرارة عن الاحتفاء الذي سبقه بالحرب، ودون أن يطلب انبرى لـه صاحبا الكتفين السمينتين، وحملاه وطافا به وبالصورة أرجاء المقهى الفسيح، فتألفت مظاهرة أنعشت لدى الزبائن حنينا للمظاهرات المناوئة لحلف بغداد، وطرد كلوب باشا، فاتجه صاحبا منبر الأكتاف السمينة بالرجل والصورة، يتبعهم المتظاهرون إلى الفناء الظليل للمقهى، فمروا على المخاتير وكأنهم يكايدونهم ويعلنون لهم بأن زمن زعيم الأمة قد بدأ، فإما أن يلحقوا أنفسهم وينضموا لتظاهرة الصورة وإما أن يظلوا على حالهم فيفوتهم القطار الجديد ويندمون.
المخاتير من جانبهم وقعوا في حيرة شديدة سببها عدم تأكدهم من أن رفع صورة جمال عبد الناصر جهاراً نهاراً صار مسموحا به، وخشية التورط وإلى أن يجري التأكد من هذا الأمر، فقد تشاورا بالنظرات، وكي لا يسجل، عليهم نكوصٌ عن الاحتفاء بالحرب فقد اقترح كبيرهم دوّاس ما ينم عن ذكاء ودهاء، فوقف فاردا قامته وأعلن باسمه وباسم زملائه عن دعوة لم يملك متظاهرو الصورة الا الموافقة عليها، وإظهار اقصى درجات الاحترام لها. فلنقم صلاة الشكر والدعاء إلى العلي القدير أن ينصر جلالة الملك وكل القادة والجيوش العربية. سمع صوت خفيض قال " مش لما يدخل الحرب". نفض المخاتير عباءاتهم السوداء من الغبار العالق بها، وتوجهوا ناحية الساحة التي خصصت للمسجد الكبير الذي لم يبنى بعد. التحق بهم نفر من المتحلقين حول صاحب الصالون العصري ونفر آخر من المتظاهرين حاملي صاحب المقهى وصورة زعيم الأمة، ووراء الحجر الأملس حجر الأساس الذي لا يفارقه الإمام الاحتياطي عبد الشقي، أقيمت صلاة الشكر ولهجت الألسنة بالدعاء للنصر، فاختلطت أغنيات الحرب المنبعثة من راديو المقهى والصالون العصري مع أهازيج نعيم وهتافات مظاهرة الصورة.
انطلقت زغاريد النساء اللائي تجمّعن على أسطح البيوت المطلة على مسرح الهواء الطلق، وممثليه التلقائيين، الراقصين والمصلين والسائرين والهاتفين، ومن وراء النقاب الأبيض الذي اشتهرت به حرائر كفر عرب كغطاء رأس ووجه، لا يظهر شعرة من رأس أي حرّة، طارت الزغاريد، فما دام النقاب مكتملا فكل شيء مسموح به.
كانت ساعة حظ وفرح، لم يحدث مثلها ساعة منذ أسس الكنعانيون القرية قبل آلاف السنين وحتى ما قبل صلاة الظهر بقليل في الخامس من حزيران 1967.
أخرجت دكاكين كفر عرب ما فيها من الملبس والكعكبان المغلّف بالسكر وكل أصناف الحلويات السائدة في ذلك الزمن، ونُثرت على رؤوس المصلين والمتظاهرين والراقصين، وأنزلت ملايات كفر عرب الجرار الممتلئة بالماء وصفّتها على حافة كراج الباصات، كإسهام منهن في احتفالات الحرب، فشرب الذين جفت حلوقهم من الهتاف والغناء، وكما لو أن ستارة أسدلت على مسرح الهواء الطلق مؤذنة بانتهاء فصل وبداية فصل جديد، فقد وصلت ساحة كفر عرب شاحنة عسكرية، بدت كرسول حرب هبط ليضفي مظهرا مهيباً على المناسبة. تحلّق حولها كل من كان له دور على أرض مسرح الطلق. هبط منها سائقها فأضفى بلباسه الحربي مهابة إضافية على المشهد، كانت الخوذة المعدنية المثبتة على رأسه برباط يشد المعدن الفولاذي إلى أسفل ذقنه كفيلة بإنعاش الأمل بالنصر. إتّجه إلى الباب الخلفي للشاحنة وفتحه لينزًّ منه عدد من الشبان الذين يتحد مظهرهم بلباس مدني كانوا يرتدونه قبل ستة أشهر حين اقتيدوا إلى السجن، وما أن اكتمل هبوطهم من الشاحنة، وكانوا جميعا حليقي الرؤوس "على الصفر" حتى تعرف الحشد عليهم فتخاطفتهم الأيدي والأحضان، وصارت الفرحة فرحتين الحرب وعودة المساجين إلى الحرية.
هتف أحد الكهول، هذا فأل خير، تعالت الطلاقات في سباق مألوف عن أهل كفر عرب حين يقتتلون على الحظوة بشرف إكرام ضيف حل. سرحان الذي ينصب نفسه عادة قائداً للحركة الوطنية على مختلف أحزابها وفصائلها وحتى مدعيها مستفيدا من قدرته التي لا يجاريه فيها أحد على تأليف الأهازيج والهتاف بشعارات لا يقوى صوت غير صوته على مواصلة الشدو بها منذ انطلاق المظاهرة حتى تفرقها، فقد طلب صاحبي الكتفين السمينتين لإلقاء خطبة، وما أن ارتفع حتى أشار على الجمع الذي بلغ المئات طالباً الهدوء وإصاخة السمع وما أن كان له ما طلب حتى بدأ.
أهلنا أحبتنا آباءنا وأعمامنا وأخوالنا نشكركم على استقبالكم الحميم لنا، فلم نسجن إلا من أجلكم، ولم يفرج عنا إلا من أجل المعركة، وهذا ليس وقت العزائم والولائم، فخلف الله عليكم وإن شاء الله تقيمون مأدبة عظيمة يوم النصر الأكيد وما النصر إلا من عند الله.
استحسن الجمهور كلام قائد الأمر الواقع للحركة الوطنية، فأكرموه بتصفيق حار، أما أولئك الذين تقاتلوا من أجل غداء الوافدين، ويملؤهم الخوف من أن يتورطوا بوليمة مكلفة، فقد نجوا وبعد النصر يكون لكل حادث حديث. قبل أن يتفرق الجمع، أحب قائد الحركة الوطنية الرفيق والأخ سرحان أن يستغل الحشد لخدمة المعركة، فطلب من الجميع التوجه إلى المخفر لطلب السلاح من الحكومة. تحمّس الجمهور لمبادرة سرحان، لكز أصحاب الكتفين السمينتين بأن يسرعا لتقدم الصفوف، وجرى نهر المظاهرة هادرا متدفقا باتجاه المخفر، وخشية استفزاز الحكومة تواضع أبو علوان وعاد بصورة زعيم الأمة إلى المقهى، واتجه ناحية مسمار عار كان قد دق منذ تأسيسه، فعلق عليه الصورة، وأدّى التحية للزعيم وهرول راكضا للحاق بمظاهرة السلاح.
أطلق سرحان العنان لموهبته في تأليف الشعارات والهتافات، لم يكن بحاجة إلى
مكبر صوت كي يُسمع المئات الذين يمشون وراءه والأكثر منهم ممن يتابعونه من فوق أسطح المنازل، دوّى صوته المألوف للآذان التي سمعت منه عشرات النداءات والشعارات في أزمنة مختلفة وحول أحداث متعددة، "يا حكومة هاتي سلاح وخذي أرواح".
يتبع..