تدوين-نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.
وفيما يلي نص الحلقة الثانية عشرة:
وفي اليوم التالي دعا الشيخ نعمان عزيزاً وقال له: نحن الآن في أواسط شهر آب وفي أواسط شهر أيلول القادم تكون حفلة زواجك إن شاء الله. وكنت أود أن تكون قبل ذلك غير أن ما أشعر به من التقدم في العافية يجعلني أن أرجئ هذه الحفلة شهراً كاملاً لنتمكن من التأهب لها. وأول ما أرجوه أن تنزع حب تلك الفتاة.. من قلبك وتحسب الماضي حلماً عبر. ولعلك تكون في حاجة إلى المال أو تكون مديناً لتلك الغانية أو لأحد بسببها هذه خمسمئة جنيه أنفق منها المبلغ اللازم في هذا السبيل والباقي تنفقه في إبتياع ما يلزم من الأغراض.
ثم تناول من خزانة حديدية بجانب السرير سفطاً من العاج فناوله لعزيز وقال: في هذا السفط قطع شتى من الحلي كانت كلها لقرينتي المتوفاة منذ أكثر من عشرين سنة وقد صنت هذه الحلي كل هذه المدة إلى أن حان وقت إخراجها من مخبأها. فهاءنذا أقدمها الآن إليك لتنفح بها عروسك هدية الخطبة فاذهب وقدمها إليها.
فخرج عزيز يحمل السفط إلى أن بلغ غرفة نجلاء فدخل. وكانت مريم ووالدتها هناك. فلما أبصرته داخلا استبشرت خيراً ورحبت به بكل بشاشة. وأما نجلاء فلبثت في مكانها وقد بهتت قليلاً ثم تجلدت. فتقدم إليها عزيز وقال وهو يحاول أن لا يلتقي نظره بنظرها: إن عمي قد أعطاني هذا السفط لأقدمه إليك.
فنظرت إليه نجلاء وقالت: أشكرك.
ونهضت مريم فأخذت السفط بين يديها وفتحته وإذا فيه شيء كثير من الحلي والجواهر التي تقدر قيمتها بثلاثة آلاف جنيه فلم تتمالك من إظهار دهشتها وإعجابها.
ورأى عزيز أن نجلاء لم تحفل به ولا بهديته فتنازعته عوامل شتى من تبكيت الضمير وأدرك أن نجلاء مطلعة على سره فخرج وهو يشعر بحرج موقفه بإزائها.
ولما كان المساء اجتمع عزيز ومريم ونجلاء في مخدع الشيخ بدعوة منه وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث. وكان عزيز قد جاءه بالبريد في ذلك النهار كتاب من أحد عملائه في دمشق يقول فيه: إن الحكومة التركية لا تزال محافظة على الحياد التام حيال الحرب الأوروبية ولكنها ترى نفسها مضطرة إلى التأهب وهي تظهر أن الغرض من ذلك هو لتكون مستعدة للفواجئ فلا تؤخذ على غرّة وبناءً على ذلك فهي قد أعلنت التعبئة العامة وأخذت تجند كل شاب وكل رجل إلا من يدفع البدل العسكري وهو خمسة وأربعون جنيهاً عثمانياً.
قرأ عزيز لعمه هذا الكتاب وهو يود أن يكون موضوع حدیث تلك السهرة لئلا يكون الموضوع مسألة الزواج والاستعداد له وهو أكره المواضيع عليه. فقال الشيخ: لقد بدأت تركيا تلعب بالنار. وهي ستشرع مذ الآن في استنزاف أموال رعيتها ثم تأخذ في قتلها حتى تجعل البلاد أخيراً خراباً يباباً.
قال: ولكن الحلفاء يا عماه إذا رأوا منها أقل مظهر عدائي فإنهم لا يلبثون أن يحتلوا سوريا في الحال وينقذوها من ظالميها. قال: هيهات ذلك فإن الحلفاء لا يستغنون الآن عن مئة ألف جندي ليرسلوها إلى سوريا وهم في حاجة إلى كل جندي جديد لتعزيز موقفهم الحربي في الميدان الألماني.
قال: وهل يتركون تركيا تنشب مخالبها في السوريين دون أن يمدوا إليهم يد المساعدة؟
قال: هكذا أظن والضرورة تقضي على الحلفاء بذلك ولا لوم عليهم في ذلك ولا تثريب.
قال: وقد جاء منذ بضعة أيام بضع عشرات من السوريين إلى الإسكندرية ومصر فراراً من الجندية واجتمعت ببعضهم في المحل فحدثوني عن الخوف الشديد الذي عم البلاد من أقصاها إلى أقصاها.
قال: وحسناً فعلوا بمجيئهم إلى هذا القطر لأنه سيبقى على ما أرى في معزل عن الحرب وويلاتها. قال: وكم تفعل تركيا من الحسنات لنفسها ولرعيتها لو تبقى على الحياد ولا تخوض غمار هذه الحرب المشؤومة.
فهز الشيخ رأسه وقال: إن زمام هذه الدولة الآن في أيدي فتيان ليسوا على شيء من الحنكة والدرية. وقد غرّهم الأمل في حسن نيات ألمانيا وقوتها أو بالأحرى غرّهم الطمع في كسب الدرهم فلا يلبثون أن يتهوروا في الحرب رجاء إصابة المغنم. وما مثلهم في ذلك إلا كالمعتوه الذي ألقى بنفسه من عل فلم يشعر بألم السقوط إلا بعد أن صادم أرضا رضت عظامه رضاً. وهذا شأن كل جاهل في هذه الدنيا لا ير عوي عن غيّه ولا يعود إلى رشده إلا بعد أن يشقى ويتألم وقد يقتل نفسه ولا يتعظ. فأدرك عزيز أن عمه إنما أراده بهذا الكلام فلاذ بالسكوت وتظاهر بأنه لم يفهم المراد. وعاد نعمان إلى الكلام فقال: نعم يا بني إن الجهل وخيم العاقبة.
وكل رجل يجهل في شبابه. ولكنه إذا كان عاقلا ووجد من يرشده إلى الخير ويزعه عن المنكر فإنه ينبذ حياة الطيش السابقة ويعود إلى الهدى.. وأنا واثق بك كل الثقة أن تحقق آمالي فيك فتسلك سبيل آبائك وأجدادك من قبلك وتجتهد أن تجعل حياتك من الآن نقية من كل شائبة. إسعَ يا ولدي أن تحيا حياة بيتية سعيدة. واعلم أن لا سعادة إلا في الأسرة. والسعادة هي في يدنا بشرط أن نعرف كيف نعيش لنكون سعداء. أنظر إني مسرور جداً وسعيد جداً لارتباطك الآن بنجلاء. وسأكون أكثر سعادة وهناءً متى رأيت الحب الصادق متبادلاً بينكما فأكون بذلك قد ضمنتُ سعادة نجلاء وهي ابنتي وحبيبتي وضمنت سعادتك وأنت في مقام ابني وموضع آمالي وعنايتي.
ولما قال هذا فتح الخزانة الحديدية التي بإزاء سريره فأخرج منها شيئاً من القراطيس المالية ثم وجه خطابه إلى نجلاء وقال: أنا أعلم إني لست في حاجة إلى إعطائك بائنة (دوطة) لأن كل ما لي فهو لعزيز ولك. غير أني إتباعاً للعادة لا أريد أن أحرمك هذه البائنة. وقد جعلت بائنتك هذه العشرة آلاف جنيه. فخذيها وجهزي نفسك كما تريدين وكما تريد والدتك أن يكون.
فقامت نجلاء وأخذت من الشيخ القراطيس المالية وقبلت يده ثم عادت إلى مكانها. وعاد الجميع إلى الحديث والشيخ يظهر نشاطاً عجيباً وارتياحاً كبيراً إلى هذا الاجتماع.