تدوين- ترجمة: سعيد بوخليط
16 - لم يستسغ باشلار جيدا، التمييز بين الشك والنقد ولا أيضا تطوير فكرة ''إبستمولوجيا دون ذات تعرف" مثلما يفترضه التمييز السالف الذكر. لقد توخى التأكيد عند إشارته لاضطراب' 'الموضوعية المادية'' جراء ''انمحاء كل صلة مع الذات'' (2000، ص 29)، بأنَّ العلم يتبلور نتيجة صراع مستمر ضد نزعة نفسانية طبيعية تنطوي عليها المعرفة المشتركة، ليس بهدف ''محو''، الذات باعتبارها حاملة للمعرفة العلمية ذاتها، حسب تصور بوبر، ثم النظر إليها كحقيقة تعدُّ تماما استثنائية بالنسبة إلى الذهن. يحتمل عدم إقرار باشلار، بالوصف الذي اقترحه بوبر صاحب كتاب ''المعرفة الموضوعية''، على الاشتغال العلمي: يهتمّ العالِم (س) بدراسة معرفية لـ (ب)، ''غير مدرك لـ(ب) ولا يتصورها''، "دون شَكِّه في (ب) ''(كارل بوبر 1991، ص 226)، يمكن وصف كل نشاطه العلمي الخالص مثل اختبار ينصب على قضايا مصاغة لسانيا وكذا تواصلها منطقيا (تحاول ''س" استخلاص ''ب'' من خلال "ك"، تتوخى ''س'' توضيح بأنَّ ''ب'' ليست قابلة للاشتقاق من ''ك''، إلخ)، دون انشغال ''س'' جدِّيا خلال أيّ لحظة باعتقاداتها الخاصة صوب العالَم. يستهدف نشاط الباحث، إذا اعتقدنا بطرح بوبر، نحو رفع كمية الحقائق ''المتضَمَّنة'' بين طيات البيانات العلمية، وليس ''معرفتها'' حسب الدلالة الذاتية للمصطلح، بمعنى إحداث تعديلات على تصوراتها الخاصة. يبدو واضحا، أنه منظور للعلم غير متناسق قط مع الوظيفة الإصلاحية ذهنيا وأخلاقيا التي ينسبها باشلار إلى الثقافة العلمية. بالتالي، قصد استثمار الوظيفة التربوية العلم، يلزم، عكس ما يدافع عنه بوبر، مضيِّ الذات كعالِمِ أو تتدرب لدى ورش عالِمِ، بحيث تشتغل على تنوير ذهني خاص، وإعادة إصلاح فكرها الشخصي واعتقاداته، وليس مجرد الاقتصار على بناء أو فهم نسق من العبارات الموجودة خارجها، تأتمن على: ''محتوى موضوعي للحقيقة".
17 – جراء خاصيتها الظرفية، تعتبر كل نظرية علمية أصيلة لدى باشلار بمثابة ''تقريب للحقيقة" توظَّف كي تخضع ذات يوم لـ''التعديل'' بفضل تقدم المعارف (باشلار 2004، ص 37، نقول مثلا، بأنَّ ميكانيكا نيوتن عرفت ''تقويما'' بفضل نظرية النسبية، التي احتوتها وأضحت بالنسبة إليها حالة جزئية). أما بوبر، فقد أبان عن تصور مغاير: ليست النظريات العلمية بـ''تخمينات للحقيقة''، لكنها فعلا ''أخطاء"؛ لا تستدعى قصد ''تصحيحها'' بل ''دحضها'' تماما. يعبِّر تحليل بوبر، عن الحقيقة والزيف، وفق دلالة مطلقة: عبارة ليست تماما صحيحة، تعتبر حتما خاطئة، دون محاولة تثبيتها ضمن وضع انتقالي معين (بوبر 1979، ص 192). لكن، العبارات العلمية، رغم زيفها التأسيسي، يضيف بوبر، تبقي على شيء من قيمتها، ففي خضم خطئها المطلق بوسعها منطقيا استنتاج جملة بيانات صحيحة وليست حشوا، يشكِّل صنف هذه العبارات ما يسميه الفيلسوف بـ''مضمون الحقيقة'' حول طرح أو نظرية. بالتالي، لن يتقاسم مع باشلار، اعتقاد الأخير بأنَّ العلم يتطور مساره نتيجة تعديلات، مقترحا في المقابل نظريات تقترب بدقة من الحقيقة أكثر فأكثر، من خلال التفنيد، بإثارته أخطاء امتلكت دائما ''مضمونا للحقيقة" أكبر (أو محتوى للحقيقة متساوٍ، أصغر من ''محتوى الخطأ'' بوبر 1991، ص 104 - 108).
18 – ليس مصدر هذا الاختلاف التعبيري بين منهجيتي بوبر وباشلار، مجرد إشكال مصطلحي. بالتالي، يقتضي النموذج البوبري، مفهوم ''محتوى الحقيقة'' تصورا موضوعيا جذريا للحقيقة، يظل غير مألوف لدى باشلار وأغلب الإبستمولوجيين الكلاسيكيين. يتحدث بوبر، عن منهجية علمية تتيح انتقاء نظريات تمتلك أكبر ''محتوى للحقيقة''، وليس النظريات التي تبلور أفضل ''تقريب للحقيقة'' (باشلار 2004، ص 37)، يعني غاية المعرفة العلمية ليس أن تشبع كثيرا فضولنا، إثراء ''معرفتنا'' حول العالم، بل تعزيز مخزون الحقائق ''المتضمَّنة'' في العبارات العلمية. كل ما نعرفه، حسب بوبر، احتواء نظرياتنا ''موضوعيا'' على الحقيقة ثم تتضمنها أكثر فأكثر منذ انتقائها بواسطة المنهجية العلمية، التي تمضي حسب ''التخمينات والتفنيدات''. في المقابل، تتبدَّى عدم إمكانية تحويل هذه الحقائق الموضوعية إلى معارف ''ذاتية''، يعني حقائق تلتمسها الذات العارفة، سواء كانت الأخيرة مؤكَّدة أو فقط محتملة. وفق هذا المعنى، فإبستمولوجيا بوبر نظرية لنمو المعرفة ''الموضوعية''، أي معرفة في نهاية المطاف، لا تعرفها أيّ ذات، ولا يتضمنها وعي. باختصار، نظرية معرفة تُستوعب مثل عمل للفكر وليس مجرد واحدة ضمن حالاته. أيضا، يماثل نشاط العلماء كما أشرنا إلى ذلك سابقا، عمل ''بناة كاتدرائيات'': يعمل هؤلاء البناة على إقامة أثر خارجي بالنسبة إليهم، لن يقطنوا داخله أبدا. ينبغي إدراك، بأنَّ المقتضيات التربوية لهذه المقاربة الموضوعية للعلم، لا تتيح المجال للتشويش على مفاهيمنا المعتادة: تشتغل بكيفية يصبح مستحيلا، تبعا لمضمون تصور بوبر، أن تحفِّز لدى التلميذ فائدة أصيلة ودائمة حيال العلم، أو الاهتداء به خلال لحظة معينة قصد إضفاء نسبية بطريقة ما، على الأهمية التي يضفيها على معارفه الخاصة وكذا علاقته الشخصية مع العالَمِ. باختصار، دون تطويره ما يمكن تسميته حقا بصيغة نكران الذات أو على الأقل نسيانها.
19 – هناك تعارضات أخرى قائمة بين الفيلسوفين، لا يسمح الإطار المقيد لهذه الدراسة، بالانقياد وراء مختلف التفاصيل. نستحضر فقط، كي ننهي، السمة المتعارضة تماما بين تصوري بوبر أو باشلار حول المجتمع العلمي وعلاقاته مع الخارج. يتوافق الاثنان حتما بخصوص إدراك السمة البارزة الاجتماعية للعمل العلمي: لم يجعلا من العلم وحده، دون تهيئ سياق مؤسسات (أكاديميات، معاهد، مجلات، الخ)، مجالا لتبادل الأفكار وكذا تداولها. يبقى مع ذلك، بأنَّ هذا العمل يفكر فيه باشلار ضمن مرجعية التعاون ("تجمع المشتغلين على البرهان'') في حين يتجه بوبر صوب التركيز على بعده النقدي والسجالي. الحوار العلمي، تبادل لـ''حجج'' متعارضة وليس "معلومات متكاملة"، خلافا لما يؤكده باشلار. يحيل هذا التباين نفسه على طريقتين متعارضتين قصد تصور عملية انتقاء يتيح إمكانية التمييز بين المعارف العلمية ثم العامة. يتحقق هذا الانتقاء، عند باشلار، إبان ''مرحلة تمهيدية''، إذا جاز التعبير من خلال تأمل أصل المعارف: علمية هي المعارف التي أنتجها عقل ''نقيّ'' وتبلورت مضامينها جراء ''تطهير ذهني". من ثمَّة الخاصية المنغلقة والموحَّدة للحاضرة العلمية الباشلارية، المقفلة أمام العقول غير المتمرِّسة على تجريد درس الرياضيات. طريقة انتقاء المعارف عبر الاهتمام بمصدرها، شكَّلت مجال نقد مستمر من طرف بوبر، ورصد انتماء تصور من هذا القبيل إلى تقليد فكري يصفه بـ ''الاستبدادي'' (ينطبق نفس الأمر، في نظره، على نظريات سياسية تنتقي أنظمة من خلال إيلاء الاهتمام إلى أصل السلطة سواء مصدرها الله، الشعب، إلخ- وليس نتيجة ممارستها، بوبر 1985، ص 49- 52). عكس، عقلانية ''نقدية''، مبدئيا وليست دوغماطيقية، تتميز بانتقائها للمعارف ''عند المصب'' بأن تقيم فيما بينها تنافسا يتطابق مع النموذج الليبرالي بخصوص المنافسة الحرة. بالتالي، الخاصية المنفتحة مطلقا للحاضرة العلمية لدى بوبر، التي لا تغلق أبوابها سواء أمام المستنيرين (مثل يوهانس كيبلر) ولا كذا المحتالين. هكذا، يتجلى أيضا، بعد غير قابل للاختزال، تنافسي وسجالي (ليس تواطؤا) على مستوى تبادلات تجري بينها، ما دام هذا البعد المتناقض يضمن تحديدا الانتقاء التدريجي للمعارف العلمية. لا تقتضي ممارسة العلوم ولا كذا تدريسها، مثلما تتوخى عقلانية بوبر، أي شرطة فكرية أو تطهير ذهني تمهيدي، بينما أدخل باشلار، مستعيدا بهذا الصدد الأطروحة الفرويدية المتعلقة بسلطة نفسية للرقابة، فكرة ''أنا أعلى ثقافية''، منفصلة عن الأشكال السلطوية والمهذِّبة، قصد مراقبة الذات، في حين أكد بوبر على أنَّ المسار العلمي لا يستوجب تفعيل أي مبدأ داخلي للكبت، سوى تبلور أفكار، بمعنى تشكُّلها ضمن مرتكزات لسانية استثنائية بالنسبة للذهن، بحيث يفصلها عن الذوات، ويضعها رهن إشارة النقد العمومي. إبستمولوجيا باشلار، بخلاف إبستمولوجيا بوبر، لا تستمد الموضوعية العلمية من ''رقابة'' على النشاط النفسي مثلما هو، لكن فقط ''التحكم'' المابعدي في إنتاجاتها الموضوعية.
20 – مثلما لاحظنا على امتداد فقرات هذه الدراسة، تبدو متعددة مظاهر الخلاف بين باشلار وبوبر. يتأتى أغلبها فيما يظهر من البعد الموضوعي الراسخ المميِّز لإبستمولوجيا بوبر ''دون ذات عارفة''. بناء على معطيات موضوعية مبدئية، غير معتادة بالنسبة للفلسفة الباشلارية، تنفتح إبستمولوجيا بوبر حول بيداغوجية للعلوم، مستندة أساسا على صياغة الفرضيات بكيفية سجالية ومبرهَنَة، وانبعاث الاهتمام بلعبة البرهان، قصد تأمل أنظمة المقترحات وعلاقاتها المنطقية. بيداغوجية غير مهتمة بالتأثيرات الذهنية للتعليم، ولامبالية بتحولات ''التمثُّلات'' والتي يُفترض تلقين العلوم إثارتها لدى التلميذ. أيضا، للأسباب ذاتها، غير مبالية بالاحتمالات المنعكسة ''تربويا'' من العلم. لا نشك، في أنَّ الانتقال من النموذج البوبري إلى الباشلاري يتحقق شريطة إحداث تغيير جذري للغطاء الفكري السائد حاليا في مجال أسلوب تدريس العلوم.
21 – ندرك إذن، من خلال كل تلك الاعتبارات، الحظوة الراهنة التي تتمتع بها إبستمولوجيا باشلار لدى التربويين. بوسعنا القول تقريبا، دون الإفراط في إرغام الأشياء، أنَّ نجاح باشلار تشرحه نفس المبررات التي تأخذ بعين الاعتبار بعض الاهتمام الذي يظهره هؤلاء نحو فكر بوبر. بقدر التقاء الفلسفة الباشلارية مع نزوع الفكر التربوي المعاصر نحو تأمل الفعل التربوي من منظور إصلاح شامل للشخص، وفق مقتضيات أخلاقية وفكرية، بقدر ما يعرف فكر بوبر استبعادا نتيجة توجهه المنطقي والموضوعي. أخيرا، يرتكز اعتقاد من هذا القبيل على بعد إصلاحي للثقافة العلمية وتحريرها، يمثِّل إحدى المبررات الأساسية التي تجعل الباشلارية جذَّابة بالنسبة إلى المختصين في أساليب التربية، وتظهر من بعض الجوانب كامتداد لتراث أوغست كونت. بالتالي، نستخلص ربما بأنَّ الحضور الكلي لباشلار ضمن الكتابات التربوية المعاصرة، قياسا إلى الغياب النسبي لباقي الإبستمولوجيين المعاصرين (ليس فقط كارل بوبر لكن بشكل عام فلاسفة التقليد التحليلي الأنغلوساكسوني)، يكشف عن إصرار خفي لإرث، يتواصل تأثيره على الفكر التربوي الفرنسي، فيما وراء القطائع الواضحة مع الإبستمولوجيا الوضعية.
*هوامش المقالة:
المرجع:
Alain Friode: Recherche en éducation ;numéro 29.juin 2017.pp124- 133.
غاستون باشلار(1999)، تشكُّل الفكر العلمي.
غاستون باشلار(2000)، المادية العقلانية.
غاستون باشلار (2002)، فلسفة النفي.
غاستون باشلار (2004)، العقلانية التطبيقية.
كارل بوبر (1979)، المجتمع المنفتح وأعداؤه، الجزء الثاني.
كارل بوبر (1981)، سعي لم يكتمل.
كارل بوبر (1985) الحدوس والتفنيدات.
كارل بوبر(1990)، واقعية العلم.
كارل بوبر(1991)، المعرفة الموضوعية.
كارل بوبر (1993)، النفس ودماغها.