تدوين- نصوص
ننشر بدءا من اليوم كتاب (حاشية على اسم الوردة، أو آليات الكتابة) لأمبرتو إيكو من ترجمة الناقد: المغربي سعيد بنگــراد. وهو كتاب صغير قليل الصفحات. ونبدأ اليوم بالمقدمة التي كتبها المترجم سعيد بنگــراد.
مقدمة المترجم
منذ سنوات خلت ( 1980) (1) أصدر أمبيرتو إيكو روايته " اسم الوردة ". ثلاث سنوات بعد ذلك سيكتب، على هامش هذه الرواية وامتدادا لها، كتيبا صغيرا بعنوان : "حاشية على اسم الوردة" ( 1983) (2)، ضمنه مجموعة من الملاحظات الخاصة بـ"سيرورة التأليف والخلق" و"بناء الكون الروائي وتأثيثه"، كما تحدث فيه عن "الميتافيزيقا البوليسية" و"الرواية التاريخية"، وتحدث فيه أيضا عن "النفس "و" القناع "و"التعريض" و"الحداثة ومابعدها". وهذا الكتيب هو الذي نقدم هنا ترجمته العربية.
فماذا عن هذا النص؟
لن نتحدث في هذه المقدمة عن مضمون هذا الكتاب وفصوله والآراء الواردة فيه، ولن نتحدث عن الرواية وأحداثها وشخصياتها وحبكتها. فالنص موجود والرواية فاقت شهرتها كل الآفاق، وللقارئ الحق في أن يكتشف هذه المضامين وحده دون توجيه من أحد. فنحن لا نبحث في هذا النص عن أشياء معطاة بدون وسائط، فغايتنا هي ما لا يقوله النص، أو ما يقوله في غفلة من الكلمات ونواياها الصريحة.
فالتأويل ليس من شأن المبدع، وهو في جميع الحالات أمر يرفضه الكتبة والمبتدؤون
فقد يكون كل ما يقوله إيكو في هذا النص أو في غيره ( انظر مثلا كتابه التأويل بين السميائيات والتفكيكية ) خاصا بتجربته وحدها ولا يمكن أن يُعمم ويطبق على تجارب أخرى ليست من نفس الطبيعة وليس لها نفس الغايات. إلا أن النص يحتوي مع ذلك على إرساليات كونية تهم كل الروايات وتصدق على كل التجارب. فما هو أساسي في نص إيكو لا يعود إلى هذه التجربة في ذاتها، ولا إلى مادة الرواية ومضامينها وتأويلاتها الممكنة والمستحيلة. إن ما هو أساس يعود إلى التصور الإبداعي الذي يجعل من النص فرجة معرفية لا تنتهي، أويحول المعرفة إلى وضعيات إنسانية ترقى على الفردي وتتجاوز اللحظة العرضية الزائلة.
وربما هذا ما يفسر أننا لا نعثر في نص إيكو على مفاتيح تفيدنا في فهم الرواية وشرح ما استغلق منها، كما قد يوحي بذلك عنوان الكتاب. وهو لا يقدم أيضا، قراءة خاصة أو" تأويلا صحيحا ووحيدا " لإحالات الرواية بعيدها وقريبها، فذاك أمر مستهجن. فالتأويل ليس من شأن المبدع، وهو في جميع الحالات أمر يرفضه الكتبة والمبتدؤون، أحرى أن يقبل به سميائي مهنته هي التأويل وأسراره. فالرواية، كما هو حال كل نص إبداعي،> آلة مولدة للتأويلات، لذا على الروائي أن يموت لكي لا يشوش على مصير نصه". وعليه، فإن هذا الكتيب لا يمكن أن يكون تطفلا من المبدع على عالم التأويل وتوجيها للقارئ من أجل إنتاج قراءة بعينها، بل هو سرد لسيرورة فعل إبداعي لا نعرف عنه سوى وجهه المتحقق.
إنه لا يؤول ولا يشرح ولا يفسر، ويكتفي، على امتداد تسعين صفحة، بـ"سرد السيرورة" أي تقديم تأمل خاص في بناء الرواية: من أين جاءت فكرة الرواية وكيف تطورت وتشعبت واستقامت كونا عظيما يعج بالكائنات والأحداث والإحالات الثقافية المتنوعة الموغلة في الرمزية أحيانا والمنغرسة في تربة واقع تاريخي بعينه أحيانا أخرى. إنه يقوم من خلال هذا السرد، بمحاولة لرصد السيرورة من زاوية التكوين والخلق، مستبعدا في الآن نفسه كل ما يتعلق بالتلقي، فذاك شأن آخر.
صحيح قد يتداخل الأمران، وهذه حالة واردة وممكنة، وقد تؤثر السيرورة الأولى في الثانية وتوجهها، إلا أن الصياغة النهائية عادة ما تُخفي متاهات البحث عن بداية أو علاقة أو رصد لموقع كيان من كيان آخر، أو شيء من شيءآخر. فالرواية "واقعة كوسمولوجية" الأساسي فيها ليس الكلمات، ولكن كيفية بناء عالم وتأثيثه. > فما يهم هو تشييد عالم أما الكلمات فستأتي فيما بعد".
وسيكتشف القارئ، من خلال هذه السيرورة، حقائق كثيرة. سيكتشف أن " السرد تفكير بالأصابع"، فما تخطه الأصابع يترجم وضعيات محملة بانفعالات من كل الألوان. وسيدرك أن "الفن هو انفلات من الانفعالات الشخصية"، فلا يمكن أن نكتب رواية تقتحم التاريخ بالاستناد إلى الأحقاد الصغيرة والانفعالات المصطنعة. فالطاقة الانفعالية لا يمكن أن تتحول إلى إبداع إنساني راق إلا حين تتخلص من الشخصي والعرضي والاصطناعي.
فما يؤكده هذا النص وتؤكده نصوص إيكو الأخرى أيضا ( 3) هو أن الرواية معرفة، ولكنها معرفة لا توضع بشكل مباشر على لسان الشخصيات، ولا يتم تداولها من خلال الحوارات أو تعاليق السارد أو أصوات أخرى. إنها رؤية تخص نسج العلاقات الإنسانية والأشياء وتخص صياغة الوضعيات ونمط تصورها. إنها، بعبارة أخرى، تجسيد فضائي وزماني للمعنى. لا يوضع المعنى عاريا على شفاه الكائنات، ولكنه يولد من خلال ما يؤثث الكون. لهذا فإن المعرفة لا تلج عالم الرواية على شكل قوالب وأسماء وإحالات على كتب أو نظريات، ولكنها تتسرب من خلال التعليق على الحدث وتصوير الشيء وطريقة في رؤيته ووصفه وتداوله. إنها المادة التي يصاغ عبرها المتخيل ويستقيم، وتتحدد من خلالها العلاقات الإنسانية وتتجسد.
إن إيكو وهو يحكي سيرورته لا يتوقف عند تأويل أو تفسير لحدث ما، ولكنه يومئ إلى ما يقف خلف هذا الحدث ويحيط به ويبرره ويمنحه معنى: دوافع اختيار هذه الفترة التاريخية دون غيرها، دوافع اختيار المحقق، إحالات على قراءة الأمارات، صراع بين أجنحة الكنيسة، غطرسة التفتيش الكنسي ... الخ، وهو في كل هذا لا يوحي بأنه يريد أن يضمن نصه معرفة " عالمة"، ولكنه يبث المعرفة في الحدث والشيء والشخصية.
وما بين المعرفة التي يتضمنها خطاب علمي وبين المعرفة التي تأتينا عبر الكتابة الإبداعية، بون شاسع. فـ "المعرفة في الخطاب العلمي ملفوظ، وهي في الكتابة تلفظ" ( بارث)، وشتان ما بين الحالة الأولى والحالة الثانية، فالملفوظ إنتاج، إنه كيان جامد لا روح له، أما التلفظ فهو طريقة وتصور في الإنتاج، إنه انفعال إنساني، أو هو إمساك بأحوال الذات وابتهاجها بنفسها وما يحيط بها، لذا "فالكتابة تحول المعرفة إلى احتفال دائم" (بارث)، وتجعل من العرضي والزائل لحظة خالدة في التاريخ الإنساني.
سيدرك القارئ، من خلال هذا النص، أن الإبداع الروائي جهد وعناء، وأن المواقف تصوير لطبائع وتعبير عميق عن حالات إنسانية، سيدرك أن الثورة كشف لحقائق الحياة التي تتوارى خلف جزئيات اليومي والمألوف، والروائي الحقيقي لا "يشاغب" ولا "يشاكس "ولا يكتب "نصوصا ماكرة"، ولكنه يقدم لنا روايات سيذكرها التاريخ طويلا.
هوامش التقديم
1- الترجمة الفرنسية : Grasset Fasquelle , 1982
2- الطبعة الإيطالية : Alfabeta 49 , juin 1983 و أما الطبعة الفرنسية فقد ظهرت سنتين بعد ذلك سنة 1985 عن دار النشر تحت عنوان : Umberto Eco : Apostille AU NOM DE LA ROSE, éd Grasset , 1985
3- انظر كتابه : Interprétation et surinterprétation, éd P U F , Paris 1996
[قد تكون صورة تحتوي على النص 'مبيرتو أومبيرتو إيكو حاشية على اسم الوردة آليات الكتابة ترجمة سعید وتقديم سعيد بنگراد منشورات علامات']
All reactions:
391د. شاكر الحوكي, Husain Alsamaheeji and 389 others