تدوين- نصوص
ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات، رواية "وزير إعلام الحرب" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2019، لكاتبها وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو.
وفيما يلي نص الحلقة العاشرة:
قائد المخفر الملازم محمود العبد كان تلقى تقريرا مفصلا عما حدث في الساحة المركزية، عرف أن مظاهرة ضخمة في طريقها إليه للمطالبة بتسليح الجمهور للمشاركة في المعركة، فأعد استقبالا احتفاليا للمتظاهرين، ومن أجل إشعارهم بأن الحكومة أكثر اهتماما من المواطنين بالمعركة وحشد كل الطاقات من أجل كسبها، فقد واجه الجمهور وهو بكامل لباس الميدان. خوذة فولاذية ملطخة بالطين، وبدلة خضراء تظهر عليها الرتب القماشية بديلا عن الفضية اللامعة، ومسدس يتدلى على فخذه يلامس ركبته، أما طاقم المخفر وجلّهم من الفرسان فكان مظهرهم الحربي يتماهى مع مظهر قائدهم.
كانوا فوق السروج المثبتة على ظهور الخيل، وما زاد المشهد الحربي جدية ورصانة المظهر الجديد لسيارة اللاندروفر الوحيدة المخصصة لتحركات القائد، والتي أقلت عبد الشقي قبل تسميته من قبل الملازم محمود وزيرا لإعلام الحرب، مصابيحها مطلية باللون الأزرق، وزجاجها الأمامي والجانبي غطي بطبقة من الطين باستثناء فجوة تركت لتمكين السائق والجالس إلى جواره من رؤية الطريق، وعلى سطحها كومة من أغصان السرو بما يصعب على الطائرات المعادية اكتشاف ما تحتها.
امتلأت ساحة المخفر بالمتظاهرين، كانت أصغر من أن تحتويهم جميعا، فتسلق الصبية السور وجلسوا عليه، أما الباقون وكانوا بالعشرات فقد تراصوا خلف السور وبعضهم إعتلى أسطح القبور العالية لعلهم يرون المشهد داخل الساحة. رفع الملازم محمود يديه طالبا من الجمهور الكريم السكوت، وحين ساد الصمت وتوقفت الهتافات: قال أبشركم يا أهالي كفر عرب الكرام، السلاح قادم فقد أمرت الحكومة الجيش بفتح المستودعات، وتوزيع كل ما فيها على الأهالي. اشتعلت الاكف بتصفيق حاد، وتعالت الزغاريد والهتافات العشوائية التي كانت هذه المرة لمصلحة الحكومة وقراراتها الرشيدة، ونظرا لأن التجمع ممنوع في زمن الحرب، ولأن الجمهور الكريم حصل على مبتغاه، أمر الملازم الحشد بالتفرق والعودة كل من حيث أتى، واستبقى سرحان.
ذهبت المظاهرة ابتلعتها ازقة كفر، عرب متابعوا الراديو عادوا للتجمع في مقهى أبو علوان، وأمام الصالون العصري، وبعد ساعة خلت كل الأماكن من مرتاديها فقد جاء وقت الغداء. غير أن أمرا وقع على نحو مفاجئ لأول مرة منذ أسس الكنعانيون كفر عرب قبل آلاف السنين، فقد تجمعت أكثر من مائة امرأة في مظاهرة تقول اليافطة التي طرزتها ناشطات جمعية بنت الريف " الحرب ليست للرجال فقط".
لم يقم حراس العادات والتقاليد العريقة بأي جهد لمنع النساء من التظاهر، ذلك أن دهاء السيدة سميحة رئيسة الجمعية سحبت الذريعة الأكثر فاعلية من يد الرجال فقد عزلت التظاهرة النسائية عن تلك التي أداها الرجال، وحرصت على أن تصل النساء إلى المخفر بعد انصراف آخر متظاهر.
حين وصلت النساء إلى الساحة أمر الملازم أول محمود رجاله بالاختفاء، أعلن أنه لا يريد رؤية أحد. منهم لا في الساحة ولا في أي مكان حولها ولا حتى من وراء زجاج النوافذ، عرف الفرسان أن قرار إخفائهم راجع إلى خشية القائد من أن يأتي أحدهم بحركة تخدش الحياء والتقاليد والحصانة النسائية.
رحب قائد المخفر بالمتظاهرات قليلات منهم يرتدين النقاب الفلاحي الذي يغطي الرأس ويكشف عن الوجه، ومعظمهن كن يرتدين مراييل المدارس الخضراء المقلمة، ويطلقن شعورهن في تسريحات مختلفة إذ لا مانع من ذلك بحكم السن ونظم المدارس.
= أهلا بكن في دار الحكومة، وفي هذا اليوم المجيد.
بادر قائد المخفر قائلا.
ويبدو أن جمع النساء أنعش شهيته للكلام واستعراض المعرفة. ألقى خطابا نسب فيه نساء كفر عرب إلى جداتهن الخنساء وخولة بنت الأزور، ففي تاريخنا وتراثنا كما قال كانت النساء كالرجال يقفن على قدم المساواة في التضحية والعطاء، فهن من أعددن الرجال منذ نعومة أظفارهم إلى أن صاروا قادة وحكاما وصناع الانتصارات اندلع تصفيق حاد تحية لإقرار الحكومة بالدور المميز للنساء عبر التاريخ، وانطلقت كذلك زغاريد مـا أضفى على اللقاء جواً احتفاليا فماذا يا اخواتي تريدون من الحكومة؟
سأل الملازم.
انبرت السيدة سميحة للتحدث باسم المتظاهرات، كانت طليقة اللسان جريئة ومقتحمة، متآلفة تماما مع وصفها الشائع في كفر عرب "المسترجلة". أعادت قراءة اليافطة بأن الحرب ليست للرجال فقط، هـز القائد رأسه موافقا.
= هذه لا خلاف عليها.
= نريد التدرب على استخدام السلاح كي ندافع عن أنفسنا لـو لا قـدر الله ووصل اليهود إلى بيوتنا.
هز القائد رأسه دون تعليق كما لو أنه يقول ثم ماذا بعد ذلك، ســاد الصمت وبدا أن رئيسة جمعية بنت الريف تفتش عن مطلب ثالث، التقط القائد لحظة الصمت وبادر إلى انقاذ السيدة الحائرة بأن شرع في الكلام.
= أوافق كما قلت بأن الحرب ليست للرجال فقط وأوافق كذلك على أن تتدربن على استخدام السلاح، غير أن هنالك أمرا أهم يسبق السلاح، وهـو التدرب على الإسعافات الأولية، وسأطلب من الممرض عزت أن يتولى الأمر، فعدن إلى بيوتكن فقد سبقكم ازواجكم وآبائكم اليها، واطمئنـوا فـلـن يمكـن رجالنا المحاربون على الجبهات اليهود من الدخول إلى بيوتكن.
تفرقت أول تظاهرة نسائية شهدتها كفرعرب، أعلنت السيدة سميحة أن الهيئة الإدارية للجمعية ومنذ اللحظة هي في حالة انعقاد دائم، ومن ترغب في التدرب على السلاح والتمريض فلتسجل اسمها عند سكرتيرة الجمعية. أخذ المخاتير علما بما حدث مع النساء في المخفر، قال كبيرهم:
= التدرب على التمريض لا مانع أما حكاية السلاح فلا مجال لذلك وأضاف هل خلت كفر عرب من الرجال حتى نلجأ للنسوان؟
اختلى الملازم محمود بقائد المظاهرة الرجالية. قال لـه بلغة فيها حنان حكومي مستجد.
= تعلم يا صديقي أن كل شيء اختلف، لم تعد لا أنت ولا زملاؤك مطلوبين للحكومة، وأقدر أن الإفراج عنكم في هذا الوقت بالذات هـو مـن أجل إسهامكم المرتجى في الحرب المصيرية التي نخوضها الآن، لذلك أطلب منك التشاور مع زملائك المعروفين لنا وغير المعروفين بشأن التنسيق والتعاون في أمرين: الأول دمج سلاحنا بسلاحكم وتبادل الخبرات في أمر استخدامه والسيطرة عليه، والثاني أن لا يقوم أي منكم بأي عمل يستهدف المستوطنات القريبة دون تنسيق مع قلم الاستخبارات في المخفر، توكل على الله وتشاور مع رفاقك.
أبدى سرحان بحماسة ظاهرة استعداداً للتعاون، وانطلق مسرعاً لتنفيذ المهمة التي اقترحها عليه قائد المخفر. ما أن تأكد السكرتير يوسف من مغادرة سرحان حتى دخل إلى غرفة القائد لتقديم نصائحه.
= سيدي لا أعرف ما الذي يدور في رأسك بخصوص سرحان، ولكن واجبي كعامل تحت إمرتكم أن أنبهك إلى أن هذا الرجل لا ينفع لشيء غير الجلوس على الأكتاف السمينة وقيادة المظاهرات وإطلاق الشعارات والهتافات، وإن كنت تحدثت معه بخصوص السلاح فهذا الشخص لا يصلح للحديث معه بهذا الشأن.
لاحظ الملازم محمود أن سكرتيره معني بإبعاد سرحان عن أي ترتيبات تتعلق بالسلاح والحرب، لم يهمل الملازم نصيحة سكرتيره ولكنه قال: إنه إن لم ينفع فلا يضر، قد يفيدنا هو وزملاؤه في توزيع السلاح وضبط استخدامه وكرّر. إن لم ينفع فلا يضر. "كان بين الاثنين خصومة عائلية".
أظهر السكرتير إصرارا عنيداً على هز ثقة قائد المخفر بقائد الحركة الوطنية، ولكي يعزز مصداقيته كمستشار ينفع في الظروف العادية والاستثنائية، قدم نصيحته الأخيرة التي قدّر أنها ستهيل التراب على سرحان وفكرة التعامل الحكومي معه حيث قال للقائد:
= ما دام الأمر كذلك سيدي، فليس لنا غير المخاتير من يؤدون مهمة على هذا القدر من الأهمية، فهم أعرف من سرحان بالناس، وهم في أول الأمر وآخره موظفون عند الحكومة ولن يخرجوا عن طوعكم في كل أمر.
كلفهم بتولي حكاية السلاح من أولها إلى آخرها فهذا أريح وأسلم.
ارتسمت على وجه القائد علامات رضى مما سمع وقال:
= أحسنت يا يوسف.
ومن قبيل طرق الحديد قبل أن يبرد أمر السكرتير باستدعاء المخاتير على الفور.
في أقل من ساعة اكتمل عقد المخاتير في حضرة قائد المخفر. بادر رئيس الاجتماع إلى القول:
= لقد دعوتكم بعد أن استقبلنا مظاهرة حاشدة تطالب بالسلاح وسيأتي السلاح اليوم على الأرجح، أريد سماع رأيكم في كيفية توزيعه وضبطه.
نظر ناحية كبيرهم دوّاس الذي فهم أن القائد يريد رأيه قبل غيره.
إنبرى كبير المخاتير للرد على سؤال القائد:
سيدي إحنا بنفذ أي أمر من جنابكم، حضرتك بتفصـل واحنا منلبس.
قاطعه الملازم:
= ولكن يا شيخ دوّاس السلاح مسؤولية وسيكون في أيدي الناس، على من نوّزعه أولا وأنتم الأكثر معرفة بجماعتكم، وكيف نضمن بأن لا يساء استخدامه في بلد لا يخلو من الثارات والنزاعات واللي بيني بينك. قصد بذلك السياسيين.
غالبا ما كان المخاتير يفوضون كبيرهم بالتحدث والاتفاق نيابة عنهم، فهو مختار العائلة الأكبر، وهو كذلك أقدرهم على مخاطبة الحكومة، وأفضلهم في التعبير عن ولائهم وحسن استخدامهم لثقة الحكومة بهم.
التقت العيون جميعا على المختار دوّاس في نظرات تشي بتفويض مطلق له، لكي يقول ما يشاء باسمهم، أما الملازم محمود فقد رشقه بنظرة تنم عن استعجال لأقوال ينتظرها للخلاص من إشكاليات السلاح.
تشجع المختار دواس وقال:
= لدينا سيدي كشوفاً بأسماء أهل كفر عرب وأعمارهم، وكل مختار لديه كل المعلومات المتعلقة بعشيرته الجاهز عندنا الآن ويمكن الاعتماد عليها هي كشوف توزيع الطحين، وحسب هذه الكشوف نوزع السلاح، سيدي هل لديك معلومات عن عدد القطع المخصصة لكفر عرب؟
أجاب القائد:
= حتى اللحظة لا معلومات عندي، وأول من أبلغهم بكل شيء يتعلق بالسلاح ستكونون أنتم، فأنتم وحدكم المسؤولون أمامي آسف على إزعاجكم في ساعة القيلولة هذه، تحمّلونا ففي زمن الطوارئ كلنا في خدمة الحكومة والمعركة نهض ونهض الجميع معه وانفض الاجتماع.