الخميس  21 تشرين الثاني 2024

رواية وزير إعلام الحرب (الحلقة 11)

2023-08-22 11:12:41 AM
رواية وزير إعلام الحرب (الحلقة 11)

تدوين- نصوص 

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات، رواية "وزير إعلام الحرب" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2019، لكاتبها وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو.

وفيما يلي نص الحلقة الحادية عشرة

على الساعة الخامسة عصرا وصلت شاحنة عسكرية إلى مخفر كفر عرب، ترجل منها عسكري برتبة عريف حاملا مغلفا كاكي اللون، ومختومـا بالشمع الأحمر. حاول السكرتير يوسف استلام المغلف إلا أن العريف رفض تسليمه وأصر على مقابلة القائد والحصول على توقيعه على وثيقة استلام السلاح.

بعد أن تسلم القائد الوثيقة، أمر أحد رجاله باصطحاب العريف وسائق الشاحنة والتوجه بهما إلى ملعب كرة القدم في مدرسة كفر عرب الثانوية بنين وأمر يوسف بدعوة المخاتير إلى إجتماع عاجل كما أمره باستدعاء عبد الشقي في نفس الوقت فسوف نحتاجه حتما لتعميم قرارات الاجتماع.

أنجز السكرتير يوسف مهمته، وبعد أن أبلغ آخر مختار بالتوجه إلى ملعب كرة القدم، استعار حمار الحسبة - على اعتبار أن الخيول مشغولة وبمعاونة خميس وجمعة أبناء وزير إعلام الحرب، وضع المنادي على صهوة الحمار وانطلقوا جميعا لأداء المهمة.

كان الجنود وبعض الأهالي قد أفرغوا الشاحنة من حمولتها، وتمت استعارة مقاعد من الغرف الصفية لجلوس القائد والمخاتير ومن اصطحبوه من وجهاء العشائر وألفت منصة زادها مهابة انتشار قطع السلاح التي وضعت بترتيب متقن داخل منطقة الجزاء في الملعب على الجهة اليسرى للمنصة.

أخرج الملازم محمود الورقة المبيّن عليها تفصيلا كميات وأنواع السلاح وشرع في قراءتها بصوت مرتفع:

= مائة بندقية إنكليزية وأربعة رشاشات من طراز برن، وخمسة عشر رشاش من طراز، ستن وثلاثين صندوق ذخيرة.

واستطرد قائلا:

= هذا ما لدي، وتفضلوا أيها المخاتير، لاستلامه وتوقيع الأوراق الرسمية، فهذا السلاح عهدة حكومية.

تبادل المخاتير النظرات. استقرت أخيرا على وجه المختار دواس، ففي أمر القسمة دوّاس دائما حاضر البديهة ولديه الحلول، ويبدو أنه تشاور مع زملائه مسبقا اذ قال:

= سيدي الأمور محلولة بإذن الله رشاشات البرن لكل ربع من أرباع البلد نصيبه واحد مع ذخيرته، ولكل ربع رشاشين ستن مع الذخيرة، وعشرين بارودة إنكليزية مع ذخائرها، والفائض عن البواريد بنقدمه لإخوتنا وأحبتنا أهل المخيم.

استحسن القوم القسمة، وساد الارتياح وجوههم. إنزاح حمل ثقيل عن كاهل الملازم أرقه وأقض مضجعه. طلب من السكرتير يوسف تكليف عبد الشقي باستدعاء المواطنين الكرام للحضور إلى الملعب كي يقوموا باستلام أسلحتهم من قبل مخاتيرهم، وليوقع أو يبصم كل من استلم قطعة سلاح او مشط ذخيرة على ما استلم، وأن يوقع تعهدا بعدم استخدام السلاح دون أوامر حكومية. ساعد الفرسان والسكرتير يوسف السيد عبد الشـقـي علـى خصر امتطاء صهوة حمار الحسبة، أمسك خميس بالرسن، ووضع جمعة كتفه مسنداً والده وانطلق المنادي داعيا المواطنين الكرام للتوجه إلى الملعب لتسلّم السلاح. ما أن فرغ المؤذن من النداء على صلاة المغرب حتى كان السلاح قـد استقر على أكتاف المواطنين، وصارت كفر عرب بلدا آخر تماما، ولأن السلاح يبعث الثقة في النفوس فقد نام المواطنون الكرام آمنين مطمئنين، فما دام السلاح في أيدي أبنائهم، فلن يتمكن اليهود من اقتحام بلدتهم، وقتل أطفالهم وشيوخهم وشبابهم كما حدث قبل عشرين سنة في دير ياسين، وبوسع حرائر کفر عرب أن لا يخشين على شرفهن الرفيع من الأذى. الذين لم يناموا هم أولئك الذين تمنطقوا بالسلاح، وجلّهم لا يعرف استخدامه وفوقهم من أصيب بحالة إدمان على سماع الراديو. كانت هوايـة جمع أعداد الطائرات المتساقطة على ثلاث جبهات ما تزال منتشرة بين الجمهور الكريم، وبين الوجبة والتي تليها تتولى الأناشيد الحماسية شحذ الهمم والتبشير بالنصر، غير أن يقينهم بالنصر ارتفع درجات بحكم انتشار السلاح والتجول به في عتمة الليل فليس غير البنادق المحشوة بالرصاص ما يعطي للأغنيات الحماسية صدقيتها ويحقق وعدها، وعلى هذا نـام الناس مطمئنين إلى أنهم سيستيقظون على نصر.

ثلاثة ضباط يرتدون القنابيز والحطّات والعقل، يلعبون طاولة الزهر في النهار والورق في الليل، تمتلئ جيوبهم بأصابع جوز الهند التي يوزعهـا أبـو علوان مجانا بعد انتهاء لعبة وبدء لعبة أخرى.

أبو سامي وأبو ماجد وأبو يوسف أحيلوا إلى التقاعد في الأسابيع القليلة التي سبقت الحرب، فجأة اغلق أبو سامي طاولة الزهر، فأحدث انطباق الخشب على الخشب صوتا يشبه الصوت المنطلق عند سحب أقسام البندقية، أجفل زميلاه، فهذه الحركة العصبية غير مألوفة عن زميلهم ضابط الشرطة والأعلى رتبة.

ما الذي جرى يا أبو سامي حتى تغلق الطاولة بهذه الطريقة؟

سأل أبو ماجد الذي كانت حجارته فيما يبدو في وضع أفضل.

= أشعر سامي:

= أشعر بالخجل، الجميع مشغول بالحرب والسلاح على أكتاف مـن هب ودب، ونحن الضباط

المؤهلون نتفرج ونقضي وقتنا في المقهى.

فطن أبو ماجد إلى أنه لولا التقاعد لكان الآن في قلب دبابة يقود رتلا ربما وصل إلى مشارف تل ابيب، تساءل أبو يوسف المنتظر دوره للحلول محل المغلوب.

= ما العمل؟ هل نخطف البواريد من على أكتاف حامليها؟

= لا ليس هذا ما أفكر فيه.

قال أبو سامي وأضاف:

= قوموا معي إلى المخفر وعلى الطريق نتحدث.

قائد المخفر يحترم الضباط المتقاعدين ولم يخاطب أيـا منهم يوما إلا بسيدي، هو في بداية الطريق وهم في نهايته وكلهم يتحدون في المهنة والولاء. بعد الترحيب وطلب الشاي، إنبرى أبو سامي إلى الحديث باسم زملائه فحتى في حالة التقاعد تحترم الرتب والمقامات.

= سيادة الملازم أول.. لقد امتلأت البلد بالسلاح والذخيرة ولا أحد يعرف هل الذين يحملون السلاح يجيدون أو حتى يعرفون استعماله؟ وكما تعرف فلقد تم توزيعه وفق كشوف الطحين وكل مختـار سـلـم السـلاح لأقاربه ومحاسيبه، والكل يستعرض ما يحمل في حارته ... " وشوفوني يا ناس وهذا وضع خطير ونحن في حالة حرب.

أظهر الملازم أول اهتماما بما سمع وسأل:

= ما هي أوامرك يا سيدي؟

أجاب أبو سامي:

= استغفر الله أنت من تتحمل المسؤولية وتأمر.

رد عليه قائد المخفر:

= أقصد ماذا تقترح علي أن افعل؟

أجاب:

= نحتاج يا اخي محمود إلى ساعتين أو ثلاثة للتأكد من أن الذين يحملون السلاح يعرفون كيف يستخدموه، واقتراحي أن تصدروا أوامــركـم وفــورا بتجميع حملة السلاح في ملعب المدرسة، ونقوم نحن الثلاثة ومعنـا عـدد مـن العساكر بفحصهم ومن لا يعرف استخدام السلاح الذي في حوزته، إما نستبدله بآخر يعرف أو نلحقه بدورة تدريب عاجلة.

استحسن الملازم أول محمود الاقتراح ومن أجل إضفاء أهميـة علـى مـا سمع قال:

= لا أدرى لماذا لم تخطر هذه الفكرة على بالي قبل توزيع السلاح!

نادى على السكرتير يوسف وأمره باستدعاء وزير إعلام الحرب كـي يقوم بمهمة المناداة على حملة السلاح للتجمع في ملعب كرة القدم.

في أقل من ساعة أنجزت المهمة. قاد أبو سامي عملية الفرز والفحص وكل من عرف استخدام البندقية وضع في طابور على اليمين، أما الذين لم يعرفوا فوضعوا في طابور على الشمال، لم يفاجأ الضباط المتقاعدون ومساعدوهم من عساكر المخفر بنتائج الاختبار.

البعض يعرف استخدام البندقية الإنجليزية ولا أحد يعرف استخدام الرشاش ستن، ولا أحد كان قد رأى رشاش البرن في حياته.

كلّف رجال المخفر بتدريب حملة السلاح بصورة عاجلة تغاضوا عن جودة الاستخدام وأنهوا العملية المتسرعة بأن أعادوا البنادق إلى من وقعوا على استلامها وكلّفوا الذين لم يخفقوا بتدريبهم وأمروا الجميع بعد انتهاء التدريب بالاستحكام على تخوم البلدة، وأصدروا أوامر مشددة بمنع الكزدرة الاستعراضية في الحارات والأزقة. خرج القوم راضين، المتقاعدون وجدوا دوراً أثلج صدورهم وأعاد الثقة لأنفسهم وأنعش روحهم المعنوية فهـا هـم يساهمون في المجهود الحربي، وقائد المخفر تدارك خطأه وسد ثغرة خطيرة من الثغرات التي ظهرت في مجال استعداده للحرب، أما حملة البنادق والرشاشات فقد راودهم شعور مستجد بأنهم صاروا محاربين بحق.

"أحيانا يكون الرضا بفعل تواطئ مع الذات".