السبت  04 أيار 2024

رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 14)

2023-08-27 12:53:51 PM
رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 14)

تدوين-نصوص

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.

وفيما يلي نص الحلقة الرابعة عشرة: 

وكان اليوم الذي عيّنه الشيخ نعمان لزفاف نجلاء إلى عزيز قد أزف وتمت المعدّات اللازمة لذلك. وكان الشيخ أكثر بقية أهل البيت اهتماماً بهذه الحفلة. وكان قد استرد عافيته وصار في إمكانه أن ينزل عن سريره ويمشي في أرض الغرفة بلا مساعدة أحد. فكان كأنه انتفض من كفنه أو ملّ خيال الموت مجاورة بدنه.  

ولم تكن مريم بأقل اهتماماً منه ولا سيما فيما يتعلق بزينة نجلاء وترتيب غرف المنزل. وكان صوتها يدوي في جميع الغرف والردهات كالنحلة الزرقاء في يوم قيظ، لا يقر لها قرار ولا يسكن لها طنين.

أما عزيز فكان ينظر إلى كل هذه الاستعدادات بازدراء ولم يكن يهمه شيء منها، ولم تكن نجلاء بأكثر اهتماماً منه فكانت تنظر إلى كل اهتمامات والدتها بخلو البال وعدم المبالاة.

وكانت كلما ازدادت والدتها انهماكا تتمادى هي في الكآبة والقلق وقد بدت على محياها سمات اليأس فلم تفارقها أياما، وكانت كلما رأت عزيزاً تسري في جسمها رعشة ويستولي عليها الاضطراب.

ولما تم كل شيء أقيمت حفلة الإكليل بحضور جمهور كبير من أصدقاء أسرة الحلبي في مصر. وتلا الحفلة مأدبة فاخرة أحييت في المنزل وكان الشيخ نعمان أحد جلوسها.

وانقضى الهزيع الأول من الليل ومجالي الأنس على أتمها في ذلك المنزل. ثم أخذ المدعوون ينصرفون والكل في أحسن حالات السرور والطرب.
وما تناصف الليل حتى غرق جميع من في المنزل في سبات النوم إلاً عزيزاً فإنه كان قلقاً مضطرب البال وقد اضطجع في سريره ليوهم نجلاء وغيرها من أهل المنزل بأنه نائم. ولما مضت ساعة دون أن يسمع صوتاً ولا حركة نهض فارتدى
ثيابه وخرج من مخدعه ثم من المنزل خلسة وانطلق يعدو إلى منزل استير.

ظن عزیز أن أهل البيت لم يشعروا بخروجه غير أن نجلاء لم تكن راقدة ولم يغمض لها جفن وقد أحسّت بخروجه فلم تبد حركة ولكنها لم تلبث أن رأت نفسها مغلوبة مقهورةً فبكت بكاءً مراً.

وكانت استير في تلك الليلة بعد أن انتهى التشخيص على جاري العادة قد عادت إلى منزلها وفي صحبتها عمتها وما كادت تخلع ثيابها وتضطجع في سريرها حتى سمعت جرس المنزل يُقرع. فهبت مذعورة. وقد تأكدت أن القادم لزيارتها في مثل هذا الوقت لا يكون إلا عزيزاً. وكانت راحيل قد فتحت الباب وإذا بعزيز نفسه قد دخل وركض إلى مخدع استير وهو يقول: ها أني جئتُ كما وعدتُ فهل يكفيك هذا البرهان على ولائي يا عزيزتي؟

فدفعته استير عنها وقد قطبت حاجبيها وقالت: ولكنه برهان على جنونك أو سوء تدبيرك. فهل تدري ما هو جارٍ الآن في منزل عمك من الاضطراب الشديد؟

قال: ولكني أردت أن أبرهن على شدة تعلقي بك وعدم إيثاري أحداً عليك.

قالت وقد برهنت على عكس ما أردت وسترى عاقبة ذلك بعينيك.

قال: لتكن العاقبة مهما كانت فأنا الآن لا أهتم بأحد ولايهمني شيء.

قالت: وإذا عرف الشيخ وحرمك الميراث؟

قال: وكيف يحرمني وقد فعلتُ ما أراد وتزوجت بإبنته؟

قالت: وأي زواج هذا إذا كنتَ تبرح منزلك وتغادر عروسك في الليلة الأولى من عرسها؟

قال: ولكنها ليست عروسي إلا بالإسم وأنا لا أعرف سواك ولو حال دون ذلك الثقلان.

قالت: إذا كنت تحبني حقيقةً فعُد في الحال إلى منزلك واجتهد أن تتلافى الأمر وإلا فإن الشيخ يحرمك الميراث بلا شك.

قال: وكيف يستطيع أن يفعل ذلك؟

قالت: إنه يستطيع أن يفعل ما شاء في أي وقت شاء ويكتب كل ميراثه باسم ابنته.
قالت هذا وضمته إلى صدرها ثم قبلته لتتخلص منه ودفعته جهة الباب وهي تقول: عُد سريعاً إلى منزلك.

وعاد عزيز وهو يتمايل في سيره كالنشوان ودخل المنزل وهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى. فرأى الأنوار تسطع والقوم في أشد حالات القلق وقد ساد الاضطراب وبهت الجميع من الحزن والغم. وما دخل حتى استقبله الشيخ وعيناه تقدحان شرراً وصاح به إلى أين خرجت في مثل هذه الساعة أيها اللئيم؟

وكان عزيز قد جمد الدم في قلبه عندما رأى أهل البيت في هذه الحالة. وكانت نجلاء بينهم وعيناها سابحتان في الدموع. فوقف مطأطئ الرأس وهو لا يدري أي الأعذار يبدي وقد تلعثم لسانه. فقال له الشيخ خذ الآن عروسك واجتهد أن تكفكف دموعها
وغداً تجيبني تفصيلاً.
وأدرك عزيز بلحظة واحدة عظم الأمر وما جرَّه على نجلاء الإهانة والويل. فشعر بعاطفة خصوصية نحوها ولم يدر كيف يلاطفها ويسلّيها. ولكنه أخذها بيدها وسار وهو يسمع تنهداتها المحرقة. وكان كل من في المنزل قد استنكر عمله ورثى لحال نجلاء معه.

ولما اجتمع عزيز في الصباح التالي بعمه تلقاه عمه بمزيد الكدر وقال: لا أريد أن أسألك الآن أين كنت أمس ليلاً. ولكني أقول لك وأشهد الله على قولي أنك إذا لم تترك أعمالك السابقة وتتخلص تماماً من تلك الفتاة فإني أكتب وصيتي
باسم نجلاء ولا أعود اعتمدك في شيء. فاختر لنفسك ما يحلو فإما أن تكون لنجلاء الزوج المحب الصادق أو استعد لتسمع حكمي الأخير.