السبت  21 كانون الأول 2024

رواية وزير إعلام الحرب (الحلقة 12 )

2023-08-29 12:25:20 PM
رواية وزير إعلام الحرب (الحلقة 12 )

تدوين- نصوص 

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات، رواية "وزير إعلام الحرب" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2019، لكاتبها وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو.

وفيما يلي نص الحلقة الثانية عشرة:

استيقظت كفر عرب على صباح بهيج كانت الشمس ضاحكة ترسل شعاعا حنونا يقول للناس صباح الخير، واستقبلت أوراق الشجر المجللة بالندى شعاعها الذي أحال وجه البلدة إلى مهرجان من التماع ماسي.

كان الناس الذين ألفوا هذا المشهد منذ خلقوا وخلقت کفر عرب، يرونه هذه المرة بقلوبهم الممتلئة بالفرح والأمنيات المتحققة. لقد رجعوا جميعا إلى أيامهم العادية، ولكن بروح جديدة. كأن الإحتفاء باندلاع الحرب يوما مضى وانقضى، ولكن حين استأنف المواطنون هواية إحصاء الطائرات المعادية التي أسقطتها بلاغات الراديو، سرى بينهم شعور فيه خيط من ملل، لم يجرؤ أحد على الإفصاح فهذا أمر يندرج تحت قائمة الممنوعات، أو تحت طائلة الاتهام بالرقص على ايقاعات الطابور الخامس.

العودة إلى الحياة العادية، بدت كما لو أنها التعبير التلقائي عن الملل، عادت حسبة أبو راس إلى العمل بهمة وحماسة وتحلّق الجمهور حول المعروض من الخضار والفاكهة متابعين كعادتهم أهازيج الدلال الشيّقة والمرحة، ومراقبين حركة الأسعار، ذلك أن الحسبة هي بورصة الفلاحين.

مقهى أبو علوان يواصل نشاطه المعتاد زبائنه ينهمكون في اللعب، وبعضهم يصيخ السمع للراديو الذي لم يغلق منذ البلاغ رقــم واحـد، لعلهـم يستمعون إلى إعلان النصر، وصالون الحلاقة لصاحبه نعيم يواصل العمـل مـا بين الأناشيد الحماسية وفتاوى الحلاق الذي تولى الإجابة عن سؤال لماذا لم يُعلن بيان النصر بعد؟

وآخر فتوى لنعيم حول هذا الامر ، أن الزعماء يتشاورن ويبحثون كيف سيتصرفون بالمهزومين وكلما لحظ ترددا في تصديق فتاويه كان يصعد من لهجته اليقينية ويقول: إنها حرب على ثلاث جبهات وليست شجارا بين حمولتين اصبروا ولا تتعجلوا.

أبو عبد الله الإسكافي عاد إلى عمله مالئا فمه بالمسامير، منهمكا في قص إطارات السيارات ليصنع منها أحذية للفلاحين الذين يقطعون المسافات الطويلة مشيا على الطرق الترابية ما بين خربهم والحسبة، فهم في الحرب والسلم بحاجة إلى هذا النوع من المداسات السميكة المتينة والواقية وطويلة العمر والأهم من ذلك مقدور على ثمنها.

الدكاكين كلها فتحت أبوابها، والملايات يخطرن حاملات جرارهن المثبتة على رؤوسهن بأوضاع مختلفة، يعبرن ساحة الكراج كالغزلان بمشية استعراضية، يرمقن الشبان العائدين من الخليج بنظرات متفحصة من وراء النقاب، فهذا هو موسم انتقاء العرائس والعرسان كم للفرح من قدرة على جعل المألوف استثنائيا، هكذا بدت كفر عرب في ذلك اليوم الحزيراني المشرق، كل شيء يبدو جديدا ومقبلا على الحياة بشغف وهل من شيء يحقق معجزة كهذه غير الفرح الذي تنشره الأمنيات والرغبات وهي في سبيلها إلى التحقق.

الجديد في هذا الصباح كان تلك البنادق والرشاشات المثبتة على أكتاف الرجال. لقد أعطى السلاح صدقية لأغنيات الحرب المنبعثة من المقهى ومـن الصالون العصري ووفرت ايقاعا مختلفاً لأغنية كوكب الشرق أم كلثوم والله زمان يا سلاحي، وكذلك لأغنية عبد الحليم حافظ يـا أهـلا بالمعارك، ولفهد بلان حنا للسيف والظيف، ولمحمد عبد الوهاب الذي حصل على رتبة لواء لنبوءته التي صارت حقيقة طلعنا عليهم طلوع المنــون فـطـاروا هباء وصاروا سدى.
حين فاحت رائحة زيت السلاح في اليوم الثاني من أيام الحرب سحب كثيرون اعتراضهم السابق على أغنية البعث العربي " من قاسيون أطل يا وطني، صار حقيقيا التبشير الذي زفّه الشاعر على لسان الرفيقة لودي شامية وصدى البشير يهزني طربا أنا أعدنا القدس والنقبا.
وصلت كراج كفر عرب سيارة إسعاف مجللة النوافذ، ولما توقفـت هـرع رواد المقهى والحسبة والصالون العصري وتحلّقوا حولها لمعرفة من بداخلها، كانت مفاجأة سارة للشباب ولكنها لم تكن كذلك للمخاتير والوجهاء. فتح موظف يرتدي ثياب تمرجي باب السيارة ونزل منها ثلاثة كانت السيارة ذاتها قد أقلّتهم بناء على طلب أعضاء المجلس القروي إلى المورستان لتلقي العلاج. لقد عادوا وتبين أنهم لم يتعافوا من جنونهم. كانت الحكومة قد قررت إخلاء المورستان من الأطباء والممرضين والنزلاء، فمن يتحمل المسؤولية لو قصفت الطائرات المعادية مبنى مستشفى الأمراض العقلية.

الذين سعدوا بعودة المجانين الثلاثة هم الشبان الذين يعتبرونهم تسلية كفر عرب ومنتجي النوادر واللقطات الفكاهية الحيّة، وحين غابوا عن حياة كفر عرب غاب معهم الفرح والضحك ...

لم يعودوا يشاهدون دردس، وهو يقلد بإتقان زعيم الأمة، وخصوصا في خطابه الأشهر الذي أعلن فيه عن تأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية. أو وهو يقلد جلالة الملك في شعاره الثابت الذي دأب على قوله في نهاية كــل خطاب فلنبن هذا البلد ولنخدم هذه الأمة وغاب عن كفر عرب درويش أكثر المجانين جنونا، والذي يستخدمه المراهقون لمشاكسة الملايات. كانوا يستدرجونه إلى البئر الغربية وعلى مرأى مـن حرائر كفر عرب يطلقون كلمة السر ورينا الحيّة يا درويش، فيزيح الشاب قمبازه كما لو أنه يفتح ستارة مسرح وبوسعك تخيل ما كانت تفعل الحرائر حيال مشهد كهذا. أما مطر المجنون الثالث الأليف صاحب الرأس الكبيرة الحليقة على الصفر، والعيون الذابلة التي توحي بأن صاحبها في حالة خشوع
دائم، فقد كان يتميز بالهدوء إذ لم يؤذ أحداً طيلة الثلاثين سنة التي هي عمر جنونه الخلقي. كان يوفّر تسلية شيقة للطلبة، فهو يقطن على الطريق المؤدية للمدرسة ولا يبرح عتبة سقيفة، أمه، يلتفون حوله في الذهاب والإياب، ويمطرونه بالأسئلة كما لو أنهم يديرون مؤتمرا صحفيا. كانت الأسئلة من النوع الموجه لاستدراج أجوبة شقية. مطر، ماذا قلت لمدير المدرسة؟، ما رأيك بقائد المخفر؟ ما رأيك بالمخاتير؟ كانت إجاباته تلقى هوى في نفوس الطلبة. وصف مدير المدرسة بالنعجة التالفة، وقائد المخفر بصاحب البطن الكبير المليء بالصيصان، أمـا المخاتير فهم عملاء الإنجليز وصنائع كلوب باشا.

انطلق الآذان من على أسطح الجوامع الثلاثة. هجر المواطنون أجهزة الراديو واتجهوا إلى الصلاة جماعة. كان عبد الشـقـي هـو إمام المسجد الكبير الذي لم يبنى بعد، فرغ من الفرض أطال فاصل الأدعية وأطال كذلك صلاة السنة باختياره آيات طويلة من الذكر الحكيم. استحسن المصلون صلاته المتأنية، بل لعلهم وجدوها علاجا للقلق الذي استفحل في نفوسهم نتيجة تأخر بيان النصر.

أبو علوان صاحب المقهى، بدأ يعاني من قلق أصابه بعد ان قام بحسبة بسيطة بينه وبين نفسه كل طائرات إسرائيل سقطت وكل دباباتها دمرت ومعظم جنودها قتلوا أو جرحوا فما الذي أعاق الجيوش عن الوصول إلى تــل أبيب؟

كان يجاهد لطرد الهواجس السوداء التي اعتملت في داخله، إلا أنها كانت أقوى منه. إنها تدك روحه. صارت البلاغات العسكرية التي ما تزال تتوالى في اليوم التالي مصدر شك وقلق. لم يجرؤ على الإفصاح عما يدور في داخله، فهو ممثل الحرب المنتصرة في كفر عرب، وهو قائد رجل الحرب وعميد مريديه وحافظ خطبه وحكاياته وقرائن، تميّزه وجدارته بقيادة العالم مجرد الشك أقرب إلى الخيانة.
لاحظ زبائن المقهى أن شرودا طارئا ألم به. لم يكن قد رآه أحد على هذه الصورة من قبل، فهو الذي خرج عن رصانته المألوفة وهتف ورقص واعتلى طاولة البلياردو، وأطلق مبادرة كرم وسخاء احتفاءً بالحرب.

جلس قرب الستارة الفاصلة بين قاعة المقهى الممتلئة بالزبائن هواة الألعاب البريئة، وبين ركن البوكر الذي تعطل في زمن الحرب، ثم وقف متثاقلا ومشى ببطء كما لو أنه يفكر إلى أين يذهب. قادته قدماه إلى جاره صاحب الحسبة لعله يلتمس عنده بعض ما يعينه على عبور لحظات الشك القاتلة. جلس الإثنان على السحاحير الفارغة. كان الصمت هو سيد الموقف، إذ لم يكن لدى أبو علوان قدرة على بدء الحديث ولا جرأة على الإفصاح عما يدور في داخله، إلا أن صاحب الحسبة المتحرر من حب عبد الناصر وقليل الحماسة تجاه الحرب قطع الصمت سائلا أبو علوان عن سبب تعكر مزاجه وشحوب وجهه هرب أبو علوان من السؤال خوفا من قول كلمة تشي بشكوكه أو تكون بداية لاعتراف قاتل بالقلق من الحرب، وصدقية بلاغاتها، فطلب من صاحب الحسبة أن يستدعي نعيم فلعل لديه ما يطفئ نار القلق ولو لبعض الوقت. نادى صاحب الحسبة على صاحب الصالون العصري طالبا منه الالتحاق بالاجتماع التحـق نعيم بجاريه إذ لم يكن لديه زبائن في ساعة الغداء، وما أن جلس على السحارة المقلوبة ونظر إلى عيني زميله ورفيقه في السياسة أبو علوان، حتى قال:

= يبدو أنك يا موسى تفكر بما أفكر فيه.

هوى قلب أبو علوان، فما قاله صاحب الصالون يؤكد ما في داخله من شكوك من صاحب الحسبة المتحرر من الاعتبارات التي تسيطر على عقل ومنطق جاریه سال ساخراً:

 = وهل أنتم هنا لتبادل الالغاز قولوا ما عندكم وبعد أن أسمع منكم لدي ما أقول. تشجع أبو علوان وأفصح صراحة عن شكوكه، وأعاد على مسامع جاريه حسبة الدبابات والطائرات والجنود الذين أبادتهم بلاغات الراديو، واختتم متسائلا:

= إن الذي يحيرني بعد كل هذا ما هي الموانع من أن يعلن بيان النصر؟

صاحب الحسبة الذي اتخذ وضع الحكم بين جاريه نظر ناحية نعيم
وطلب منه الإدلاء بدلوه كان نعيم ما يزال متشبثا بآماله وأحلامه وحتمية تحقيق أمنياته. كان محتاجا لمتكآت منطقيّة يبرر بها مواصلة التفاؤل والرجاء ولأن الحاجة هي أم الإختراع كما يقال، فقد اخترع قرينة فسّر بها تأخر إعلان النصر، فقال: كما لو أنه معلق سياسي محترف:
= إن الأمر ليس هينا كما تتصور يا صديقي أبو علوان، فهذه مسألة تسبقها عادة اتصالات واسعة مع زعماء العالم جميعا، ويحتاج الأمر إلى اتفاقات على كيفية التعامل مع دولة مهزومة، ماذا سيفعلون بالملايين الذين هم سكان ما يسمى بدولة إسرائيل.

هز أبو علوان رأسه متظاهرا بالاقتناع مع أنه قال في داخله، حتى هذا لا يمنع من إعلان أولي يزف البشرى للناس بالنصر. صاحب الحسبة فاجأ جاريه بضحكة ساخرة وقال:
= یا حرام انتما تستحقان الشفقة.

ولكي يثبت صحة وجهة نظره لم يجد بداً من الاعتراف الخطير.

= منذ بداية الحرب خالفت تعليماتكم المشدّدة ووضعت راديو صغير في جيب قمبازي، ولم تفتني نشرة أخبار واحدة من إذاعة إسرائيل.
أجفل الجاران لسماعهما الاعتراف الآثم، إلا أن الفضول دفعهما إلى
التغاضي، وسألاه:

= كيف ترى الأمور إذا؟ إذا صدق راديو اليهود، فقد خلّصوا الحرب في ساعة، يقولون أنهم دمروا جميع الطائرات العربية وهي على أرض المطارات، وأنهم يقطعون المسافة نحو قناة السويس بسرعة الدبابة وأنهم على بعد ثلاثين كيلو مترا من دمشق وعمان وقرابة مائة كيلومتر عن القاهرة، وجنودهم فجروا الجسر الرابط بين ضفتي البلاد.

انتفض أبو علوان كما لو أنه في صحوة ما قبل الموت، ووجه نظراته إلى شريكه في الأمل والرجاء يطلب إسناده فيما سيقول:

= لولا الجيرة يا أبو راس لاعتبرتك من الطابور الخامس، شـو الـي بتقولو يا رجل؟ رد صاحب الحسبة مُهَدِّئاً جاره ومدافعا عن نفسه:

= هذا اللي بتقوله إذاعة اليهود، وإذا بتحب الراديو الصغير لساتو في الجيبة فتفضل واسمع.

لم يجد الحلاق ما يفعل حيال هذا النبأ الصاعق سوى أن نهض واقفـا
محتجا على ما سمع وغادر الجلسة عائدا إلى صالونه.

توصل صاحب الحسبة إلى تسوية مع أبو علوان وقال له بلهجة مهدئة:

= بوافقك الراي إنو إسرائيل بتكذب وصوت العرب يمكن بيقولش كل شي تعال لنسمع إذاعات أخرى.

أخرج صاحب الحسبة راديو ترانزيستور صغير مـن كـم عباءته وقال وهو يعبث بالمفاتيح.

= تنسمع لندن!

راديو لندن بارد كأصحابه الإنجليز لم يطرأ على برامجه أي تغيير يشبه مـا فعلته الإذاعات العربية. ما سمعه الجاران أعادهما إلى الأيام العادية، كان الراديو المحبـب لـدى كبار السن، يذيع برنامجا شهيرا في حينه يقدمه فلسطيني اسمه حسن الكرمي "قول على قول".
نظر صاحب الحسبة إلى ساعته وقال مشجعا أبو علوان على مواصلة
الاستماع:

= شوي وبيخلص هذا اللت والعجن وتدق بج بين وبعدها نشرة الأخبار.

مضى الوقت بطيئا وثقيلا، لم يفهم أبـو علـوان كلمة واحدة مما قاله الكرمي في برنامجه وحين دقت : بيج بين خيّل لأبي علوان أن دقات الساعة مطارق تهوي على قلبه وروحه، فما بعدها إمّا أخبار تنعش القلب وتعيد الأمل، أو أخبار تسحق روحه ويقينه.

تابع الرجلان الأخبار البطيئة والمحايدة بشغف، كما لو أنهما يفتشان عن كلمة أو إشارة ترجح يقينا يعتنقه على الأقل صاحب المقهى.

انتهت نشرة الأخبار، وتضاعف الشك والقلق، فالراديو الإنجليزي لم يشف الغليل، كان يتنقل في روايته بين البلاغات العربية والإسرائيلية وحين ابتعد اليقين البديهي عن روح أبو علوان لم يبق في داخله غير الشك الأفدح بيقين النصر.

حيد نفسه عن زبائن المقهى وبلاغات وأهازيج الحرب. أزاح الستارة الفاصلة بين القاعة وركن البوكر ألقى بجسده المتعب علـى مـا كـان يسميه سرير الطوارئ. تلثم بحطته وتلفع بعباءته. أغمض عينيـه محـاولا الـنـوم كأفضل وسيلة للهرب والخلوة مع الذات فالهواجس السوداء تحتاج في وقت كهذا إلى مخبأً.