السبت  21 كانون الأول 2024

رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 15)

2023-09-01 10:01:59 AM
رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 15)

تدوين-نصوص

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.

وفيما يلي نص الحلقة الخامسة عشر:

مضت الأيام على ذلك وعزيز لا يخرج من المنزل وقد انصرف بجملته إلى استجلاب رضى عمه. وكان قد أعجب بصفات نجلاء وأخلاقها فاحترمها وصار يجلس إليها أحيانا يتحادثان أو يخرجان إلى النزهة معا.

وقد أعجبه في نجلاء على الخصوص أنها كانت إذا رأت منه نقصاً تكتمه عن الشيخ وعن والدتها أو إذا رأت الشيخ حاقداً عليه لسبب ما تسعى لإزالة هذا السبب أو ملافاته وتنتصر لعزيز بكل إخلاص واشتاق عزيز أن يذهب في أحد الأمساء لحضور التشخيص في المسرح الذي كانت تشخص فيه استير وخطر له أن يأخذ معه نجلاء ليتمكن من الحضور ولا يتعرض لغضب الشيخ فعرض عليها ذلك فلم تمانع فأخذها وهي لم تعلم غايته واتخذ مقصورة (لوجاً) في المسرح جلس وإياها فيها.

وكان التشخيص لم يبتدئ فترك نجلاء في المقصورة بحجة أنه رأى أحد غرماء المحل فلا بد من مواجهته لأمر ذي بال وأسرع إلى غرف الممثلين وسأل عن استير فقيل له أنها لم تحضر بعد وقد جاءت عمتها وحدها. فأسرع عزيز إليها وسألها عن استير فقالت: إنها ذهبت في عربتها للنزهة ولم تعد بعد.
قال: وهل ذهبت وحدها؟

قالت: إن الكولونيل جاء ودعاها إلى العشاء في أحد الفنادق فذهبت في صحبته ولا يلبثان أن يعودا.

فعض عزيز شفته حتى أدماها وخرج من الغرفة يريد أن يعود إلى حيث ترك نجلاء وإذا باستير داخلة وقد تأبطت ذراع الكولونيل. فلما أبصرت عزيزاً ولم تكن تتوقع أن تراه أظهرت سروراً عظيماً ودعته للدخول معها إلى الغرفة. وتقدم الكولونيل يريد أن يسلّم عليه ويهنئه فأشاح عزيز عنه
بإزدراء وهو يتظاهر بأنه لم يسمع شيئا. وكانت استير قد لحظت منه ذلك فاستاءت وقالت له همسا لا أسمح لك بأن تهين الكولونيل إلى هذا الحد.
قال: وأنا لا أسمح لأحد أن يطمح ببصره إليك ولا أطيق أن أرى رجلاً قريباً منك فكل من يجسر أن يدنو منك أو يرافقك يكون عدوي ولا أتأخر أن أنشب أظافري في عنقه.

قالت: وأنا لا أطيق أن تهين الكولونيل أو غيره ممن يكونون في صحبتي أو له علاقة بي.

قال: إذا فانت اغتنمت فرصة غيابي عنك هذه الأيام القليلة وأخذت تعيشين مع الكولونيل وأمثاله على هواك.

قالت: أنا حرّة أن أعيش كما أشاء وليس لأحد أن يقيد حريتي
أو يسيطر علي.

قال: بل لي ملء السلطة عليك وقد وعدت أن لا تعرفي أحداً سواي ولا يكون لك علاقة بأحد غيري وأنا قد خدمتك بل عبدتك كل هذه المدة. وقد تورّطتُ في الديون لأجلك. ولأجلك تزوجت ولأجلك أنا مستعد أن أبيع روحي للأبالسة. وأنت تقابلين الآن كل ذلك بعدم المبالاة وترافقين هذا وذاك إلى كل مكان.

قالت: أخرج الآن من هنا وحسبك هذياناً لأن وقت التشخيص قد حان وسنتكلم في غير هذا المكان. فخرج عزيز وهو في أشدّ حالات التهيج وعاد إلى نجلاء وهو يترنح من الغم وقد اشتعل صدره بنار آكلة. وكانت نجلاء قد ملّت الجلوس وحدها واستاءَت من معاملة عزيز لها هذه المعاملة ولم تتمالك أن بكت ورأى عزيز دموعها فندم على تركه إياها وجلس إلى جانبها يلاطفها ويعتذر وهو ينتحل أسباباً كثيرة لغيابه. وقد عزم أن يكون هذا المساء كثير اللطف معها ليقهر بذلك استير وينتقم منها.. وقد آلى على نفسه أن لا يصفق لها حينما تخرج للرقص أو الغناء.

ولما خرجت استير ورقصت وقد دوى المكان بالتصفيق سأل عزيز نجلاء: هل أنت مسرورة؟ وهل أعجبتك هذه الممثلة برقصها؟

فقالت: نجلاء كلا لم تعجبني لأنها قليلة الأدب برقصها وحركاتها وأنا لا أحب أن احضر أمثال هذا التشخيص وهذا الرقص ولا أحب أن أنظر إلى هذه الأثواب التي تلبسها هذه الراقصة ورفيقاتها.

قال: وهل تؤثرين الرجوع إلى البيت أم نبقى بعد قليلاً؟

قالت: بل نرجع حالا إذا أحببت أنت ذلك.

قال: هيا بنا.

وعاد الاثنان بعد ذلك في عربة وعزيز يساير نجلاء ويسامرها بكل لطف وإخلاص. وكان الشيخ لا يزال ساهراً فدخلا إلى مخدعه وسهرا عنده دون أن تذكر نجلاء شيئا عن التمثيل والممثلات. وكان الشيخ قد ارتاح إلى سلوك عزيز في الأيام الأخيرة واطمأنّ باله من جهته بعض الاطمئنان وتوقع أن ینسی عزيز كل ماضيه ويعيش مع نجلاء أفضل عيشة.

وفي اليوم التالي انطلق عزيز لزيارة استير وكان قد ندم على شراسته معها الليلة الغابرة فأحب أن يسترضيها. ولما دخل المنزل استقبلته استير بعبوسة ولم تمد إليه يدها ليقبلها كالعادة. فقال لها يظهر أنك ساخطة على أيتها الحبيبة وليس لك حق في ذلك لأني لم أقل لك ما قلته أمس إلا منشدة غيرتي عليك وحبي لك.

فنظرت استير إليه شزراً وقالت: ولكنك تجاوزت كل حد في الكلام وقد أهنت الكولونيل وهو لا يستحق منك هذه المعاملة.

قال: كيف لا يستحق وهو يتردّد عليك ويرافقك إلى كل مكان.

قالت: وإذا كان ذلك كما تقول فأي حرج علي وأنا ممثلة ومن واجباتي أن أساير الجميع؟ أنت الآن متزوج ولا تستطيع أن ترافقني إلى كل مكان فهل تريد أن أعتزل كل الناس وأعيش منفردة؟

قال: ولكن زواجي لم يكن إلا بإرادتك ورضاك. وقد رضيت أنا به لخدمتك فقط. وإذا كنتُ هذه الأيام لم أزرك فذلك رغبةً مني في استرضاء الشيخ فقط لنبلغ أخيراً المرام.

قالت: ليكن زواجك كما تشاء أن يكون. ولكنك تزوجت فهل قدمت لي هدية في يوم العرس؟ هل قدمت لي مبلغاً من المال لنفقاتي ما دمت مضطرًا أن تفارقني هذه المدة؟ ألا تعلم العادة أن كل من كان له خليلة وتزوج بغيرها عليه أن يرضيها أولاً ويضمن حياتها؟ فماذا دفعت إلى لذلك؟

قال: ولكن هداياي أيتها الحبيبة لم تنقطع عنك كل هذه المدة سواء كان ذلك قبل الزواج أو بعده. وأما المال فلست في حاجة إلى شيء منه لأني قائم بجميع نفقاتك.

قالت: أي نفقات هذه؟ فقد جاءت أمس الخياطة تطلب أجرتها ولو لم يكن الكولونيل هنا وينقدها ما طلبت لكنتُ في موقف حرج معها. قال: ولماذا قبلت منه ذلك؟ خذي مني ما شئت من المال ولا تطلبي من أحد شيئا.. فهذه خمسون جنيها الآن.

قالت: أشكرك. لا أريد الآن شيئاً.

وقد قالت استير ذلك باستياء. فقال عزيز: إذا كان هذا المبلغ
قليلا فخذي مئة.

قالت: ولا مئة. وإنما أريد أن تعطيني مبلغاً كبيراً حتى لا أكون في حاجة إلى أحد الآن أو بعد الآن.

قال: سأعطيك قدر ما تشائين ولكني أرجو أن تصبري إلى أن أصبح رب المحل.

قالت أنت الآن غني لأن زوجتك غنية ومعها مال كثير فتستطيع أن تأخذ منها ما شئت إلى أن يموت عمك.

قال: هذا غير ممكن لأني لا أريد أن أطلب منها شيئا.

قالت: أكتب لي إذا صكاً بمبلغ يضمن سعادة مستقبلي وحينئذ لا أعود أسألك شيئاً من أمثال هذه النفقات الصغيرة.

قال: سأكتب لك ما تريدين وآتي الليلة القادمة إلى المسرح فنتناول طعام العشاء معا.

وافترقا بعد ذلك وقد نسي عزيز استياءه أمس ولم يبق في مخيلته إلا صورة استير وفي قلبه إلا حبها.