السبت  04 أيار 2024

رواية وزير إعلام الحرب (الحلقة 13 )

2023-09-04 10:05:42 AM
رواية وزير إعلام الحرب (الحلقة 13 )

تدوين- نصوص 

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات، رواية "وزير إعلام الحرب" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2019، لكاتبها وزير الإعلام الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو.

وفيما يلي نص الحلقة الثالثة عشر:

أبو علوان CV

لو شققت صدر أبو علوان وفتحت قلبه، فقد لا تجد دما ولحما وشرايين وأوردة، بل تجد جمال عبد الناصر كان زعيم الأمة بمثابة النبض الذي يضخ الدم في عروقه، ذلك منذ الصعقة الأولى التي أدخلت الزعيم إلى حياته.

التقاه ثلاث مرات، وبوسعه القول إنه كان صديقاً ربما يكون الزعيم قد نسيه بفعل ازدحام ذاكرته بالوقائع والاشخاص والهموم، إلا أن أبو علوان لا يمكن أن ينسى وكيف ينسى أهل كفر عرب يعرفون الحكاية، ويصدقون رواية صاحب المقهى لذكرياته الشخصية مع زعيم الأمة. حين كان يضطر للبوح أيام كان البوح جريمة يعاقب عليها القانون، كان يفضفض للخلّص من أصدقائه، ويحكي مستعينا بالرموز التي يفهمها السامعون متفاديا تهمة عشق زعيم تراه الحكومة خطراً على الدولة والنظام. كان يتحدث بتلذذ لا يوازيه سوى تلذذ السامعين بما يسمعون.

كان ذلك حين وصلنا مبعوث من قبل الحاج خالد الطيطي يطلب مساهمة كفر عرب في كسر الحصار المضروب على الكتيبة المصرية في الفالوجة آنذاك جمعنا مشايخ البلد، وكلّفونا بنقل كميات من المؤن والأدوية والأغطية، وبالفعل جهزنا قافلة مهولة، ولإثبات دقة وصحة ما يقول – أفصح عن أسماء زملائه من أبناء كفر عرب الذين شاركوه هذه المهمة المجيدة. تحت جنح الظلام سرنا بدوابنا وبما استطعنا حمله على ظهورنا، دليلنا هو ذاته مبعوث الحاج خالد كنا مسلحين برشاشات خفيفة، وما أن وصلنا إلى مشارف الفالوجة، حتى طلب منا المبعوث أن نتبعه زحفا بعد أن ربطنا الدواب في مغارة تقع قرب منطقة المحاصرين. كانت ظهورنا ونحن نزحف على بطوننا، تنوء تحت ثقل ما كانت الدواب تحمله، تجمعنا في سفح تلـة تحاذي السلك الشائك الذي هو حدود الكتيبة، سمح لنا الدليل بدقائق للاستراحة، وبعدها استأنفنا الزحف، وصلنا أخيرا بسلام.

استقبلنا المحاصرون بعناق حار، ودعينا لمقابلة القائد في مكمنه المجهز بوسائل الحرب، والمحاط بأكياس مليئة بالرمل وجدنا أنفسنا أمام ضابط طويل القامة سمح الوجه شديد التواضع، عرّفونا عليه، المقدم جمال عبد الناصر، بادرنا مازحا:

= نحن وكفر عرب جيران على الخريطة لا تفصلنا عنكم شعرة، وعلى الأرض مسير ساعات قليلة، آمل أن لا تكونوا تعبتم فحملكم ثقيل والزحف دون تدريب شاق ومتعب ومؤلم.

بادرت إلى القول:

= لم نتعب ولم نشعر بثقل الحمولة، كنا متشوقين للقائكم فقد سمعنا الكثير عن صمودكم وبطولاتكم. استحسن قائد الكتيبة قولي.

التمعت عيناه السوداوان ببريق خطف قلبي ومنذ ذلك اللقاء، حرصت على أن أشارك في كل قافلة ترسل لدعم الكتيبة المصرية.

في اللقاء الثاني وكان بعد أيام قليلة زاد حبي " لقائد الكتيبة، فقد عانقني ونطق باسمي وقبل أن نغادر طلب مني بتهذيب شديد خلوة قصيرة.

= موسی أنا عايز أطلب منك حاجة بسيطة.

= قلت أنت لا تطلب أنت تأمر.

= استغفر الله، إن كنت ستعود مرة أخرى، وقرب فمه من أذني ليقول هامسا أحضر لي معك ملابس داخلية، وإن لم تأت مع القافلة القادمة فأرسلها مع من سيأتون، وهمس.. صدقني تكاد الفانيلا تلتصق بجلدي إذ لم يعد لدي غيرها.
= قلت: أنت كالنيل من يشرب منه لابد وأن يعود إليه، أبشر يا بطل لك كل ما طلبت.

أفرغنا دكاكين المدينة من كل ما فيها من ملابس داخلية وحملناها مع الأشياء الأخرى على ظهور الدواب. وتحت جنح الظلام عدنا إلى الكتيبة المحاصرة، نظر إلي باسما وكأنه يسأل هل نسيت ما أوصيتك به أم أحضرته معك، قدمت له مجموعة ملابس داخلية، أخرج من جيبه ميدالية معدنية منقوشا عليها ثلاث أهرامات، وقال لي هذه لك.

كان أبو علوان يروي حكايته مع الزعيم ويسمعها كنشيد، حفظـه كـل أصدقائه. شاءت الأقدار أن يخرج جمال عبد الناصر من الحصار سالما وبطلا، قاد انتفاضة الجيش في يوليو 1952، ومن أيامه الأولى صار أمل الأمة وزعيمها السري والعلني.

ابتعدت المسافات واختلفت المقادير، إلا أن حبل الحب لم ينقطع، كان صاحب المقهى يتابع أخبار زعيم الأمة عبر صوت العرب، ويحفظ مقاطع من خطبه الطويلة، وينتشي بالأغنيات التي تمجده. كان كلما عرف أن عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفايدة كامل سيقدمون أغنيات جديدة في عيد الثورة أو في أي مناسبات وطنية أخرى، يدعو أخلص أصدقائه ممن عرف عنهم مشاطرته حب حياته لسهرة عرمرمية يقضونها معا وراء الباب الفولاذي للمقهى، ويطلق العنان للراديو فلا ورق ولا قمار في تلك الليلة بل نشوة مع الغناء الثوري الذي لا يليق إلا بزعيم الأمة.

رغبة أبو علوان في لقاء عبد الناصر لم تنطفئ رغم مرور الأيام والسنون، فرأى أنها صارت ممكنة حين برّ زعيم الأمة بوعده وأقام الوحدة مع سورية، كي ينطبق فكا الكماشة على الجوزة الإسرائيلية، وحين زار الزعيم دمشق الفيحاء، عقد أبو علوان العزم على السفر لعله يلقى صديق الأيام الصعبة، أو يرى الزعيم بشحمه ولحمه بعد أن استبدل البدلة العسكرية بالبدلة المدنية وربطة العنق المقلمة. غادر كفر عرب في صباح باكر، ركب الباص المتجه إلى العاصمة، وبعد ساعتين وجد نفسه في موقف السيارات المكتوب عليها، عمان دمشق وبالعكس، دفع خمسة وسبعين قرشا كأجرة، ووضع صرة الملابس في مؤخرة السيارة وهم بفتح الباب، فاذا بقبضتين فولاذيتين تطبقان على ذراعيه كانا شابان يرتديان لباسا مدنيا، قال أحدهم لـه برفق:

= انت يا أبو علوان مدعو لشرب فنجان قهوة مع المعلم، لا تقلق ستسافر في السيارة التالية.

عرف أنه سيحل ضيفا على كارهي حبيبه وزعيمه. حظي في ضيافة المخابرات بفنجان قهوة ومعها وشوشة هامسة مالك ومال هالسفرة روح على قهوتك أحسنلك.

ناولوه صرة ملابسه، وأوصلوه بسيارتهم إلى كراج الباصات اعتملت في قلبه غصة موجعة، فقد قطع الأمل بلقاء الزعيم أو حتى رؤيته عن بعد، إلا أن حبل الذكريات الملحة ظل موصولا، فالزعيم كان مالئ الدنيا وشاغل الناس بالقرارات والخطب والأغنيات كانت متابعة أبو علوان لكل هذه الأشياء واجبا كالفرض والسنة، لم تفته كلمة من تعليقات أحمد سعيد، نجم الأثير الساحر، وما ثناه عن المواظبة على سماع برنامج أكاذيب تكشفها حقائق، أي أمر، بل ولا أي مصيبة. لم يكن في أذنه وقلبه مكاناً لغير الأغنيات التي تنشر شذى الزعيم في الروح وفي قلوب الناطقين بالضاد.

أحب أم كلثوم وحفظ أغانيها كمقرر مدرسي، أولها ثوار مع البطل اللي جابه القدر، وآخرها راجعين بقوة السلاح وعشق عبد الوهاب الذي عرض برنامج جمال عبد الناصر في دقت ساعة العمل، وسامح المطرب الكبير عن كــل الأغنيات الهابطة كرمال أغانيه الثورية الناصرية، ثم أنه لم يرحم المخاتير الذين طلبوا منه مرة أن يخفض صوت الراديو وهو يبث أغنية عبد الحليم حافظ يا أهلا بالمعارك، لقد استفزه تعليق غير مؤدب قاله أحدهم:
"سكت هالمايص"
ساعتها خرج أبو علوان عن تهذيبه المألوف، وقال بصوت خشن وعدواني من لا يعجبه ما يذيعه راديو المقهى فلا يعجبني أن يجلس على كرسي في قهوتي.

تلفع المختار بعباءته وغادر، ولم يعد إلا يوم وقوع الحرب، فما حدث في ذلك اليوم جب ما قبله ولا أحد يعرف ما سيجب بعده.

حين انكفأ أبو علوان على سرير الطوارئ متلثما بحطته، مجاهدا لإبعاد شبح الشك عن نفسه، والنأي بوفائه لظاهرة الزعيم عن أن تدمرها الهواجس السوداء، أجهش بالبكاء. إن شعورا ممضا يغلّف روحه، وادخل حب عمره إلى حالة احتضار أخير ...

ما أطولها من ليلة لو عاشها روائي موهوب، لاجترح عنوانا بليغـا لهـا ليلة انقلاب الاثير، لم يكن أبو راس وحده من تسلل تحت جنح الحذر، كي يسترق السمع لراديو إسرائيل المحرّم، فربما يكون صاحب الحسبة هو أول من فعلها، وفي وقت مبكر، إلا أن المواطنين الكرام الذين امتلكوا بفعل نعماء النفط راديوهات صغيرة أو أولئك الذين يسهرون عند من لديهم راديوهات كبيرة فقد أصابهم فضول جماعي أشبه بحمّى لا قدرة لهم على مقاومتها، فنقلوا مؤشرات الراديو من مكانها الثابت على صوت العرب إلى مكان آخر تحتله إذاعة إسرائيل، حتى نعيم الذي هرب لإنقاذ آماله من جلسة جاريه المتشككين من النصر، فقد اغلق أبواب الصالون وكمن يزرع لغما تحت جنح الظلام والحذر، أدار المؤشر إلى الرقم خمسة، كان راديو إسرائيل يبث أغنيات تحمل ايحاءات ساخرة والله لا ركب هالصاروخ، وبعدها أغنية شائعة لسميرة توفيق في أيام ما قبل الحرب طخني عمودو ، وبعدها أغنية لفريد الأطرش تبدأ بـ يـا عوازل فلفلوا، وتستمر في ما قال لحبيبته وما قالت له ما هذا ؟؟؟ تساءل الحلاق. لو كان عندهم هزيمة، فلم يذيعون هذه الأغنيات؟ إنهم يسخرون منا.

انخفض الغناء تدريجيا فيما يسميه الإذاعيون FADE IN، مفسحا في المجال لأصعب كلمات سمعها الحلاق منذ كانت له أذنان تسمع، كان تسجيلا بصوت زعيم الأمة، يخاطب زميله في الحرب: انت بتطلع بيان وأنا بطلع بيان وبنقول انسحبنا لخط الدفاع الثاني، وبنقول اللي قلب النتيجة هم الأمريكان.
هوى قلب الحلاق حتى بلغ ركبتيه، حاول بيع نفسه فكرة أن ما سمع هو مجرد مونتاج مفبرك عُمل في سياق الحرب النفسية. حتى وعيه البسيط لم يقبل هذه البضاعة اقترب قليلا من الإقرار الحذر بأن الهزيمة وقعت فتبخر من ذاكرته الطازجة مهرجان الفرح الذي ازدهر في اليومين السابقين. ظن بـادئ الأمر أن حكاية خط الدفاع الثاني تعني أمتارا إلى الوراء، إلا ان استمرار مؤشر الراديو على موقع الإذاعة الإسرائيلية وفّر له معلومة أفدح مما في خيالـه خـط الدفاع الثاني يعني وقوف جيش الدفاع على أبواب العواصم الثلاثة، فكر في الالتحاق بجاريه صاحبي المقهى والحسبة، فقد صار وإياهم على خط واحد كانوا متشككين ولم يحتمل سماعهم، وها هو يفكر بالالتحاق بهم، فما سمع هو النقطة التي لا توضع فقط في آخر السطر وإنما في آخر الكتاب، غير أنه عدل عن الفكرة، وما سبق أن شعر بتعب جسدي مثل التعب الذهني والنفسي الذي يشعر به وهو يتلقى الصفعات واللكمات من إذاعة إسرائيل، بصعوبة اعتلى الكرسي الدوار المخصص للزبائن، وأسند رأسه كما لو أن حلّاقا آخر سيحلق ذقنه، أغلق عينيه محاولا الهروب إلى النوم.