الخميس  21 تشرين الثاني 2024

رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 16)

2023-09-10 12:15:04 PM
رواية الوارث لخليل بيدس (الحلقة 16)

تدوين-نصوص

ننشر في تدوين عبر سلسلة من الحلقات رواية "الوارث"، هذه الرواية التي تعتبر أولى الروايات الفلسطينية والتي فقدت في أعقاب نكبة 1948، وعثر عليها في إحدى الجامعات الإسرائيلية بعد 63 عاما على فقدانها.

وفيما يلي نص الحلقة السادسة عشرة:

ولما كان اليوم التالي ذهب عزيز إلى المحل على عادته وقضى نهاره وهو مشرد الأفكار لا يعلم ماذا يهيئ من الأسباب ليتمكن من الاجتماع باستير كما وعد.

وقد ذكر وعده أيضاً بتقديم صك لها بمبلغ كبير من المال تضمن به حیاتها. فرأى أن يزور ناثان ويستشيره في الأمر وفي صيغة الصك. وفي الحال خرج من المحل وكان على بابه عربة فركبها وانطلق إلى منزل ناثان وكان ناثان يظهر لعزيز كل صداقة وإخلاص. فلم أفضى إليه عزیز بالأمر أطرق قليلاً ثم قال: أرى أن تكتب لها صكا بمبلغ ألفي جنيه وهو أقل ما يمكن أن يقدمه من كان في مقامك لخليلته وأظن أن استير متى رأت منك ذلك تقف قلبها على هواك ولا تعود تبالي بأحد سواك أو تنظر إلى غيرك.

فقال عزيز: ولكني رأيتها في المدة الأخيرة قد تغيرت كثيراً وصارت مقصداً لغيري من الهائمين بها.

قال: لا تبتئس لهذا فهي ولو ظهرت بهذا المظهر أحيانا فإنها لا تحب سواك ولا تؤثر عليك أحداً وقد سبرت سارة غورها وعرفت سرها.

قال: وهب أنها على ما تقول غير أني لا أحب أن تكلم أحداً أو تقبل زائراً غيري.

قال: علي تدبير هذا الأمر. فقدم إليها الآن الصك وانتظر ما سيكون.

وبعد هذا كتب عزيز الصك كما أملاه عليه ناثان وقد جعل المبلغ فيه ألفي جنيه تعهد بدفعها في أي وقت تريده استير ثم ودع وعاد إلى المحل ومنه إلى منزله حيث اجتمع بنجلاء وبين لها اضطراره إلى الخروج من المنزل في السهرة لأن شغلاً في غاية الأهمية يستدعيه لذلك.

وبعد أن تناول وإياها طعام العشاء وسهرا قليلاً في مخدع الشيخ خرجا فسارت نجلاء إلى لشأنه.

ولما انتهى التشخيص في المسرح أسرع عزيز إلى غرفة الزينة المختصة باستير وقدّم إليها الصك. وكانت استير تتوقع قدومه تلك الليلة وتنتظر منه هذه التقدمة. فاستقبلته بأشد عواطف الحب وقبلته طويلا وشكرته كثيراً وقالت: هذا ما كنت أبغيه منك أيها الحبيب أن تضمن لي مستقبلا سعيداً وعيشاً رغيدا. ولما كنت الان في أعظم حالات السرور فأرجو أن تكون ليلتنا هذه ليلة أنس نادرة المثال نقضيها في سرور وطرب مع جمهور من الأصدقاء. وليكن الاجتماع هنا في المسرح. فأشعر المدير بذلك وأطلب من قيم المسرح أن يهيئ الشراب والطعام لنحو عشرين شخصاً وأنا أدعو رصفائي الممثلين والممثلات وغيرهم ممن يقودهم حظهم إلى هنا. وبعد المأدبة تذهب معي إلى منزلي.

قال: السمع والطاعة يا سيدة الملاح.

قال هذا وخرج فاجتمع بقيّم المسرح وأخبره بما يلزم. ولما عاد رأى استير جالسة إلى مائدة كبيرة في غرفة رحبة من غرف المسرح وحولها بعض الممثلين وبعض معارفها وفي جملتهم الكولونيل وغيره من الذين كانوا يتغزلون بها ويترددون عليها.

فانقبض عزيز حينما رآهم وظهر ذلك على وجهه. وكان الكولونيل قد جلس بإزاء استير عن يمينها وجلس غيره عن يسارها وكانت هي تباسط الجميع وتضحك للجميع ولكنها خصت الكولونيل باهتمامها. وكان عزيز قد هم أن يهين الكولونيل بلواذع الكلام ولكنه تجلّد وكظم غيظه لئلا يكدر بذلك استير. فجلس إلى الطرف الآخر من المائدة وأخذ يسامر من كان على جانبيه من الممثلات زاعماً أنه بذلك إنما يضرم نار الغيرة في قلب استير.

وكانت هي تنظر إليه من حين إلى آخر وتضحك ثم تختلس النظر تارة إلى الكولونيل وأخرى إلى غيره وتتهكم بعزيز وتتغامز مع جيرانها في الجلوس عليه، وكان عزيز كلما لحظ منها مثل ذلك يمتلئ حنقاً وكمداً.

ثم حضر الشراب ودارت بين القوم الكؤوس وأخذوا يطربون ويلهون. وكان عزيز يشرب كثيراً ويقدم لأقرب الجالسين إليه ويشرب أنخابهم ويشربون نخبه حتى لعبت الخمرة برأسه فأخذ يرفع صوته في الكلام ويرمي الكولونيل بكلمات الازدراء. وقد سمعت استير بعض كلامه فانقبضت ولكنها أخذت تشاغل الكولونيل بالحديث فلم ينتبه غير أن عزيزاً لم يسكت بل زاد استرسالاً في التهكم والازدراء وأخذ يقهقه ويصخب أكثر من الأول وهو يتمادى في الشرب وقد احمرت مقلتاه واصفر لونه وكان قد شرب تلك الليلة ما لم يشربه في حياته قط.

ولم تكن استير رأته في مثل هذه الحالة قبلاً فخافت أن يغلب عليه الشراب فيخرج عن طور التعقل ويعكر على الجميع صفاء الاجتماع، فدعته إلى الجلوس بجانبها. فأبى وقال: تمتعي أنت بمفاكهة الجالسين حولك وأنا هنا مسرور بأصدقائي. فقطبت استير حاجبيها وأمسكت عن الكلام وصارت تود أن ينتهي القوم من الشراب ويؤتى بالطعام. غير أن عزيزاً لم يعد يعي شيئاً وكأن الخمرة أفقدته رشده فطفق يقف ثم يجلس وهو يتكلم ويصيح ويضج ويبدي إشارات التهديد والوعيد ويرمي الكولونيل بنظرات تشف عنا أشد الكراهية والبغضاء وحب الانتقام حتى لحظ الكولونيل أن كل ذلك موجه إليه فهاج الدم في رأسه ولم يعد في طاقته الصبر على الإهانة لولا أن استير بادرت إلى تلافي الخرق قبل اتساعه وسألت الكولونيل أن لا يحفل بشيء من كلام عزيز واشاراته لأنه سكران.

ثم التفتت إلى عزيز ودعته مرة أخرى إلى الجلوس بجانبها على أمل أن يهدأ ويلهو بها. فأبى وقال وهو يقهقه: لا يا سيدتي دعيني هنا وليجلس بجانبك من هو أحق بك مني. فمعه أخذت هذه الأيام تخرجين إلى النزهة وتتناولين طعام العشاء في الفنادق ومعه إجلسي الآن.

فأشاحت استير بوجهها عن عزيز ولم تجبه وهي لا تدري ماذا تفعل لتسكين اضطرابه. ورفع الكولونيل في هذه اللحظة كأسه وشرب نخب استير ودعا الحضور إلى مشاركته في شرب هذا النخب. فشرب الجميع إلا عزيزاً. فقالت له استير وهي تُظهر أنها تريد مداعبته وأنت مالك لا تشرب نخبي يا عزيزي؟

فقال: لا أريد أن اشرب هذه الليلة نخبك ولا أن أقول شيئاً ما دام كل واحد من أصدقائك أصبح بارعاً في القول وهو لا يجود إلا به.

قالت: يظهر أنك شربت كثيراً حتى أصبحت كالمجنون لا تدري ما تقول.

قال: حقا إني اصبحت مجنوناً وأي مجنون يا استير فلا تلوميني.

ولما قال هذا ضرب على المائدة بعنف بيده فوقع بعض الكؤوس وأريق الشراب. وكان ذلك أكثر ما يمكن استير احتماله فأمرت الخدم برفع آنية الشراب واحضار الطعام.

وكان عزيز قد فقه أمرها فنهض وهو يترنح وعيناه تقدحان شرراً ولم تعد ركبتاه تقويان على حمله فسقط إلى الأرض وفي سقوطه أمسك بطرف ملاءة المائدة وجذبها فوقعت ومعها جميع آنية الشراب وقد تحطمت الآنية وجرى الشراب على الأرض ولم يعد عزيز يعي شيئا. وقد استاء كل من حضر ولم تعد استير تود البقاء فخرجت وهي ثائرة النفس وعادت إلى منزلها والكولونيل في صحبتها. وحمل بعض الحضور عزيزاً إلى منزله وهو في أشد حالات السكر؟