تدوين- ذاكرات
مرت، بالأمس الأحد، الذكرى المئوية الأُولى لرحيل فنّان الشعب وخادم الموسيقى سيّد درويش (1892 - 1923). عمرٌ قصير ذلك الذي عاشه صاحب "قوم يا مصري، مصر دايماً بتناديك"، لكن ما أضافه إلى الموسيقى المصرية والعربية جعل المختصين يقسّمون عالمَيْ الغناء والتلحين إلى ما قبل سيّد درويش وما بعده.
يتجاوز تأثير سيد درويش كل الأوصاف التي يُمكن أن تُطلق عليه حتى بعد 100 عام من رحيله، فقد تتابع بعده عشرات الفنانين الذين ساهموا في تشكيل الموسيقى العربية والمصرية الحديثة.
تم تنصيب سيد درويش "فناناً للشعب"، وذلك بالاعتماد أساسا على ألحان آتية من عالم المسرح وكلماتها الظريفة، وكان منافحاً عن الوطنية المصرية، فكان نشيد "بلادي" أو "أنا المصري" في جزئه التمجيدي، قبل الانتقال إلى التخلي عن الأهل والأوطان ورموزها وثورتها في 1919 خصوصا في موضوع الأناشيد المتعلقة بسعد زغلول واقتران وفاة الشيخ سيد بعودة سعد باشا.
ومن ثم قرر نظام 1952 أيضا اعتماد الشيخ سيد نموذجا لما يُراد أن يكون عليه الفن الوطني، ونسج على مثاله متطلبات الأغاني الممجدة لثورة 52 أيضا. كما قرر اعتماده مثالاً لاضطهاد الملكية للفنانين بزعم التنكر للشيخ سيد وإرثه ومحاربته والتعتيم عليه، في حين أنه كُرّم مرارا بعد وفاته في العهد الملكي، في حفلات وفي الصحافة وفي السينما وفي الخطاب النقدي العام، مثلما كان بالغ النجاح في حياته.
هذه الوظيفة السياسية سهلها أيضا غياب الشيخ سيد المبكر مثلما كان نبوغه مبكرا، بما ترك حياته طيّعة لمادة بناء الأساطير، بغض النظر عن حقيقة ما كان الشيخ سيد يعتبره شغلاً مسرحياً (ولتوفيق الحكيم الذي عمل في المسرح في ذلك الوقت آراء صادمة حول الهدف الترفيهي الخالص لتلك المسرحيات) وما يعتبره الشيخ سيد شغله الخاص القيّم (أي ادواره القليلة) بحسب ما ينقل فيكتور سحاب في "السبعة الكبار".
حلم فنان الشعب الذي لم يتحقق أبدا
كتب المؤرخ الموسيقي الدكتور زين نصار، في كتابه "موسوعة الموسيقى والغناء في القرن العشرين في مصر"، أن درويش كان لديه حلم سعى إليه كثيراً، وقال: "قبل عزل الخديو عباس حلمي الثاني كان سيد درويش قد تقدم بطلب يلتمس ترشيحه لبعثة فنية إلى الخارج يدرس فيها الموسيقى على نفقة الحكومة المصرية وأرفق بطلبه دور عواطفك دي أشهر من النار التي كانت بداية كل شطرة منه تبدأ بحرف من اسم عباس حلمي خديو مصر وهذا الدور يعتبر أول أدوار درويش التي لحنها تحية لخديو مصر أملا في الموافقة على طلبه ولم يستجب عباس حلمي الثاني واكتفى بمنحه مكافأة مالية".
كما ذكر الكاتب والناقد عبدالفتاح البارودي في مقال له عام 1965 بمجلة الثقافة، أنه كان معروف عن سيد درويش حبه وتطلعه إلى السفر لإيطاليا لدراسة الموسيقى، وقال البارودي: "تمنى درويش السفر إلى إيطاليا لاستكمال دراسته الموسيقية، ومن البديهي أن من الأسباب الهامة احساس الموسيقار بضعف مستوى الموسيقى في عصره".
سيد درويش متابعا للموسيقى الإيطالية
بالإضافة إلى ذلك كان درويش حريصاً على متابعة الحركة الموسيقيى الإيطالية في مصر من خلال ما يقدم على المسارح المصرية، وذكرت الكاتبة سهير عبدالفتاح في بحث لها في مجلة إبداع عام 1992، قالت: "كان شديد الإعجاب بالموسيقى الأوروبية الغنائية، وقد شهد الذين عاصروه بأنه كان يتردد على تياترو الكورسال ليشاهد جوقة الأوبرا الإيطالية تعرض توسكا ومدام بترفلاي لبوتشيني والبلياتشو لليون كافللو".
وإن دل ذلك على شئ فهو يدل على مدى اهتمام سيد درويش بالثقافة والإطلاع على أنماط مختلفة من الموسيقى، وليس الدخول في قالب معين والتقوقع داخله، وحرص كثير من الكتاب والمتخصصين على رصد اهتمام سيد درويش بالثقافة والقراءة رغم تعليمه البسيط.
ففي مقال بمجلة الرسالة الجديدة عام 1959، كتب زكريا الحجاوي بعنوان "ثقافة سيد درويش": "عثرت في دراستي عن درويش وعند ابنه الأصغر حسن على محضر المجلس الحسبي الذي عمل بعد وفاته فإذا بالبيان الذي يحتوي على مكتبة سيد درويش الخاصة تدل على أنه لم يعش على قراءة الصحف فقط أو التثقيف من السماعيات وإنما كان إيجابيا شاعرا باحتياجه إلى التزود بالمعرفة ومن الكتب التي قرأها الأغاني لأبي فرج والبيان والتبيين والبخلاء للجاحظ وعيسى بن هشام للمويلحي وكل كتب المنفلوطي التي نقلها من الأدب الغربي وزينب لهيكل وكل ما ترجمته دار مسامرات الشعب من روايات ومسرحيات أجنبية".
.