تدوين- لويس بورخيس
نقدم هنا الجزء الأول من نص محاضرة ألقاها بورخيس في جامعة هارفارد، في خريف 1967. وهذه المحاضرة هي من ضمن ست محاضرات أخرى ألقاها بورخيس عن الشعر ضمن برنامج نورتون لكتشرز. وقد ألقيت المحاضرة الأولى "لغز الشعر" في 24 تشرين الأول 1976، وتدور حول الطبيعة الأنطولوجية للشعر.
وفيما يلي نص المحاضرة:
يطيب لي، بادئ ذي بدء أن أنبهكم بوضوح، إلى ما يمكن لكم انتظاره - أو بعبارة أدق إلى ما عليكم عدم انتظاره مني. فقد انتبهت للتو إلى أنني قد أخطأت حتى في عنونة محاضرتي الأولى. فالعنوان، إذا لم نكن مخطئين، هو "لغز الشعر والتفخيم هنا يقع بكل تأكيد، على الكلمة الأولى، "لغز" وهذا قد يدفعكم إلى التفكير في أن اللغز هو الأهم. أو يمكن أن تفكروا، وهذا سيكون أسوأ، في أنني قد خدعت نفسي بالاعتقاد، بطريقة ما، بأنني قد اكتشفت المغزى الحقيقي للغز. والحقيقة أنه لا وجود لدي لأي كشف أقدمه. لقد أمضيت حياتي وأنا أقرأ، وأحلل، وأكتب أو أحاول أن أكتب وأستمتع. وقد اكتشفت أن هذا الأمر الأخير هو الأهم. ومتشرباً بالشعر، توصلت إلى نتيجة نهائية حول المسألة. صحيح أنني، في كل مرة واجهتُ فيها الصفحة البيضاء، عرفتُ أنه على أن أعود من جديد إلى اكتشاف الأدب بنفسي. وأن الماضي لا ينفعني في شيء. ولهذا لا يمكنني، كما قلت أن أقدم إليكم سوى ترددي وحيرتي. لي من العمر حوالي سبعين سنة. وقد كرست الشطر الأكبر من حياتي للأدب، وليس في استطاعتي أن أقدم إليكم مع ذلك سوى شكوك.
كلما تصفحت كتباً في علم الجمال، راودني إحساس مقلق بأنني إنما أقرأ أعمالاً لفلكيين لم ينظروا إلى النجوم قط. ما أعنيه هو أن مؤلفيها يكتبون عن الشعر كما لو أن الشعر واجب، وليس ما هو عليه في الواقع عاطفة ومتع
لقد كتب الكاتب والحالم الإنكليزي الكبير توماس ديكوينسي في واحدة من آلاف صفحات مجلدات أعماله الأربعة عشر - أن اكتشاف مشكلة جديدة، لا يقل أهمية عن اكتشاف حل مشكلة قديمة. أما أنا فلا يمكنني أن أقدم لكم حتى هذا؛ لا أستطيع أن أقدم لكم سوى شكوك كلاسيكية. ومع ذلك، لماذا علي أن أقلق؟ فما هو تاريخ الفلسفة من دون تاريخ شكوك الهنود والصينيين والإغريق والاسكولائيين، والقس بيركلي، وهيوم وشوبنهاور، وكثيرين غيرهم؟ ولستُ أتطلع إلى ما هو أكثر من مشاطرتكم هذا التردد.
كلما تصفحت كتباً في علم الجمال، راودني إحساس مقلق بأنني إنما أقرأ أعمالاً لفلكيين لم ينظروا إلى النجوم قط. ما أعنيه هو أن مؤلفيها يكتبون عن الشعر كما لو أن الشعر واجب، وليس ما هو عليه في الواقع عاطفة ومتعة. لقد قرأت على سبيل المثال، بتقدير كبير، كتاب بنيديتو كروشه حول علم الجمال، ووجدت التعريف بأن الشعر واللغة هما تعبير " expression ". حسن، ولكننا إذا ما فكرنا في التعبير عن شي بعينه، فإننا سننتهي إلى مسألة الشكل والمضمون القديمة؛ وإذا لم نفكر في التعبير عن شيء بعينه، فإننا لن نتوصل إلى شيء على الإطلاق. ولهذا نتقبل هذا التعريف باحترام ونبحث عن مزيد. نبحث عن الشعر؛ نبحث عن الحياة والحياة مكونة – وأنا واثق من ذلك - من الشعر الشعر ليس شيئاً غريباً: إنه يترصد، كما سنرى، عند المنعطف. ويمكن له أن يبرز أمامنا في أي لحظة. حسن من السهل جداً أن نقع في خطأ شديد الشيوع. فنحن تفكر، مثلاً، في أننا إذا ما درسنا هوميروس، أو الكوميديا الإلهية، أو فراي لويس دي ليون، أو مكبث، فإننا ندرس الشعر. ولكن الكتب ليست إلا فرصاً للشعر أظن أن إمرسون هو من كتب يقول في مكان ما: إن أي مكتبة هي نوع من المغارة السحرية الممتلئة بالموتى. ويمكن لهؤلاء الموتى أن ينبعثوا أحياء، يمكن لهم أن يعودوا إلى الحياة عندما نفتح صفحاتهم. لدى الحديث عن القس بيركلي واسمحوا لي أن أذكركم بأنه قد تنبأ بعظمة أميركا، أتذكر أنه كتب يقول إن طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها - فالتفاحة بذاتها لا طعم لها - وليس في فم من يأكلها، وإنما هو في التواصل بين الاثنين.
إن الشعر هو في كل مرة تجربة جديدة. فكل مرة أقرأ فيها قصيدة ما تحدث التجربة وهذا هو الشعر
والشيء نفسه يحدث مع كتاب أو مجموعة من الكتب... مع مكتبة. فما هو الكتاب بذاته؟ الكتاب هو شيء مادي في عالم أشياء مادية. إنه مجموعة رموز ميتة وعندما يأتي القارئ المناسب تظهر الكلمات إلى الحياة - أو بعبارة أدق يظهر الشعر الذي تخبئة الكلمات، لأن الكلمات وحدها ما هي إلا رموز محضة ،، ونشهد عندئذ انبعاثاً للعالم. إنني أتذكر الآن قصيدة تحفظونها جميعكم عن ظهر قلب، ولكنكم ربما لم تمعنوا النظر قط في مدى غرابتها. لأن الإحكام والإتقان في الشعر لا يبدوان غريبين، بل يبدوان لنا حتميين. ولهذا قلما نشكر للكاتب أرقه وجهوده. إنني أفكر في سوناتا كتبت قبل أكثر من مئة عام، كتبها شاب من لندن (من ها مبستد على ما أعتقد)، شاب توفي بمرض رئوي، إنه جون كيتس ، أفكر في سوناتته الشهيرة وربما المطروقة بكثرة On First Looking into Chapman's Homer لدى الإطلالة الأولى على هوميروس شابمان». ما يثير الاستغراب في القصيدة - وهذا ما انتبهت إليه منذ ثلاثة أو أربعة أيام فقط، بينما أنا أُعدّ هذه المحاضرة - واقع أنها قصيدة حول التجربة الشعرية بالذات. أنتم تعرفونها عن ظهر قلب، ولكنني أحب أن تسمعوا مرة أخرى تلاطم أمواج الأبيات الأخيرة ودويها:
Then felt I like some watcher of the skies
When a new planet swims into his ken;
Or like stout Cortez when with eagle eyes
He stared at the Pacific -and all his men
look'd at each other with a wild surmise-
Silent, upon a peak in Darien.
وأحسست عندئذ إحساس الراصد الذي يراقب القبة السماوية، ويرى فجأة كوكباً جديداً ؛ أو إحساس كورتيس العظيم ، عندما لمح بعيني نسر المحيط الهادئ أول مرة - وكل جنوده تبادلوا النظرات دون أن يصدقوا ذلك - صامتاً، هناك في أعلى جبل في دارين.
هنا نجد التجربة الشعرية نفسها. نجد جورج شابمان صديق شكسبير ومنافسه الذي كان ميتاً وعاد، فجأة، إلى الحياة عندما قرأ جون كيتس إلياذته أو أوديسته. أظن أن جورج شابمان (مع أنني غير متأكد، فأنا لست متخصصاً بشكسبير)، هو من فكر فيه شكسبير عندما كتب :
Was it the proud full
sail of his great verse,/ Bound for the prize of all too precious you
أكان الشراع منفوخاً بشعره العظيم / المبحر بحثاً عن غنيمته الثمينة؟ هناك كلمة تبدو لي بالغة الأهمية في: «لدى الإطلالة الأولى على هوميروس شابمان». أظن أن كلمة الأولى هذه، يمكن لها أن تكون مفيدة جداً لنا. ففي اللحظة التي كنتُ أستذكر فيها أبيات كيتس الشعرية القوية بالضبط، فكرتُ في أنني ربما كنتُ وفياً لذاكرتي فقط. ربما كان الانفعال الحقيقي الذي استخرجته من أبيات كيتس يكمن في تلك اللحظة البعيدة من طفولتي، في بوينس آيرس، عندما سمعت أبي يقرؤها أول مرة بصوت عال. وعندما لم يكن الشعر، اللغة، مجرد وسيلة للتواصل وإنما يمكن له أن يكون كذلك عاطفة ومتعة: عندما أحسست بهذا الكشف، لا أظن أنني كنتُ أفهم الكلمات ولكنني شعرت بأن شيئاً يحدث لي. وأنه لا يؤثر على ذكـائي وحسب، وإنما على كياني بكامله، على لحمي ودمي. نعود إلى كلمات الإطلالة الأولى على هوميروس شابمان وأتساءل إذا ما كان جون كيتس قد أحس بهذه العاطفة بعد أن أعيا كتب الإلياذة والأوديسة الكثيرة قراءة.
أظن أن القراءة الأولى هي الحقيقية، وأننا في المرات التالية نخدع أنفسنا بالاعتقاد بأن الإحساس، الانطباع، يتكرر. ولكن، كما أقول، يمكن للأمر أن يكون محض وفاء، محض مصيدة من ذاكرتي، محض خلط بين عاطفتنا والعاطفة التي أحسسنا بها يوماً. وهكذا، يمكن القول إن الشعر هو في كل مرة تجربة جديدة. فكل مرة أقرأ فيها قصيدة ما تحدث التجربة وهذا هو الشعر.
قرأت ذات مرة أن الرسام الأمريكي وستلر" كان في هذا المقهى في باريس، وكان الحاضرون يناقشون الطريقة التي تؤثر فيها – في الشاعر - الوراثة والجو العام والوضع السياسي للحظة بعينها، وأشياء من هذا القبيل. وعندئذ قال وستلر: "الفن يحدث" يعني أن هناك شيئاً غامضاً في الفن. وأحب أن آخذ كلماته بمعنى جديد. فأنا أقول: الفن يحدث في كل مرة نقرأ فيها قصيدة ما.. حسن، ربما يلغي ذلك، في الظاهر على الأقل
المفهوم التوقيري للكلاسيكيين، مفهوم الكتب الخالدة الكتب التي نجد فيها جمالاً على الدوام، ولكنني آمل أن أكون مخطئاً في هذه النقطة ربما يتوجب علي أن أخصص بضع كلمات لتاريخ الكتب. فالإغريق، إلى حيث تسعفني الذاكرة، لم يستخدموا الكتب كثيراً. وهناك أمر واقع واضح هو أن معظم معلمي الإنسانية الكبار لم يكونوا كتاباً وإنما خطباء. إنني أفكر في فيثاغورث، والمسيح، وسقراط، وبوذا وغيرهم. وبما أنني تكلمت عن سقراط، فإنني أحب أن أقول شيئاً عن أفلاطون. أتذكر أن برنارد شو كان يقول إن أفلاطون كان دراما تورجيا اخترع سقراط، مثلما كان كتبة الإنجيل الأربعة دراما تورجيين اخترعوا يسوع. يمكن لهذا أن يبدو مبالغة. ولكنه يتضمن حقيقة معينة. أفلاطون يتكلم عن الكتب بطريقة فيها الكثير من الازدراء: «ما هو الكتاب؟ الكتاب يبدو كائناً حياً، مثل لوحة رسم؛ ولكننا إذا ما وجهنا إليه سؤالاً، لا يجيب. فنرى عندئذ أنه ميت.. ومن أجل تحويل الكتاب إلى شيء حي اخترع أفلاطون - وهذا لحسن حظنا - الحوار الأفلاطوني الذي يستبق شكوك القارئ وأسئلته.
ولكننا نستطيع القول كذلك إن أفلاطون كان حزيناً على سقراط، فبعد موت سقراط، قال عن نفسه: ما الذي كان سيقوله سقراط بشأن شكوكي هذه؟ عندئذ، ومن أجل أن يعود إلى سماع صوت معلمه العزيز كتب المحاورات في بعض هذه المحاورات، يمثل سقراط الحقيقة. وفي أخريات، صاغ أفلاطون مختلف حالاته المعنوية صياغة درامية. وبعض هذه المحاورات لا تصل إلى أي نتيجة لأن أفلاطون كان يفكر فيها بالتزامن مع كتابته لها؛ لم يكن يعرف الصفحة الأخيرة وهو يكتب الصفحة الأولى. كان يترك ذكاءه يهيم شارداً، ويُمسرح ذلك الذكاء، في الوقت نفسه، محولاً إياه إلى أشخاص كثيرين.
يخيل إلي أن هدفه الأساسي كان الوهم بأن سقراط مازال يرافقه على الرغم من أن سقراط كان قد شرب سم الشوكران وهذا يبدو لي حقيقياً، لأنه كان لي معلمون كثيرون في حياتي إنني فخور بكوني تلميذاً: وآمل أن أكون تلميذاً جيداً. وعندما أفكر في أبي أو عندما أفكر في الكاتب اليهودي الإسباني الكبير رافائيل كانسينوس - أسينس)، أو عندما أفكر في ماثيدونيو فيرناندث، يروقني أيضاً أن أسمع أصواتهم. وأحاول أحياناً أن أحاكي، بصوتي، أصواتهم، كي أحاول أن أفكر في ما كانوا سيفكرون هم فيه إنهم قريبون مني على الدوام.
هناك عبارة أخرى، لأحد آباء الكنيسة، قال إن وضع كتاب في يد الجاهل لا يقل خطراً عن وضع سيف في يد طفل. وهكذا فإن الكتب، في نظر القدماء، كانت مجرد أدوات وفي واحدة من رسائله الكثيرة، كتب سينيكا ضد المكتبات الكبيرة.
وبعد زمن طويل من ذلك، كتب شوبنهاور يقول إن كثيرين يخلطون بين شراء كتاب وشراء مضمون الكتاب. وعندما أنظر أنا نفسي في بعض الأحيان إلى الكتب الكثيرة التي لدي في البيت، أشعر بأنني سأموت قبل أن أنهيها، ولكنني لا أستطيع مقاومة الإغراء بشراء كتب جديدة. وكلما ذهبت إلى مكتبة ووجدت كتاباً حول أحد الأمور التي تستهويني – الشعر الإنكليزي أو الاسكندنافي القديم، على سبيل المثال – أقول لنفسي: «يا للأسف، أنا لا أستطيع شراء هذا الكتاب، لأن لدي نسخة منه في البيت.
بعد القدماء، جاء من الشرق مفهوم جديد للكتاب، جاءت فكرة الكتابة المقدسة، فكرة كتب كتبها الروح القدس؛ جاءت القرائين والتوراتات وغيرها. وبالسير على خطى شبنغلر في كتابه انحطاط الغرب Untergang des Abendlandes أحب أن أتناول القرآن كمثال فرجال الدين المسلمون إذا لم أكن مخطئاً، يرون أن القرآن سابق لخلق العالم القرآن مكتوب بالعربية، ولكن المسلمين يعتبرونه سابقاً للغة. وبالفعل، فقد قرأت أنهم لا يعتبرون القرآن عملاً من أعمال الله، وإنما صفة لله، مثلما هي، عدالته ورحمته وحكمته غير المتناهية.
وهكذا دخلت إلى أوروبا فكرة الكتابة المقدسة، وهي في اعتقادي فكرة ليست خاطئة بالمطلق. لقد سألوا ذات مرة برنارد شو (الذي أعود إليه دوماً) إذا ما كان يعتقد. حقاً بأن الكتاب المقدس هو من عمل الروح القدس. فقال شو: "أعتقد أن الروح القدس لم يكتب الكتاب المقدس فقط، وإنما الكتب جميعها"
ومما لا شك فيه أن في هذا قسوة كبيرة على الروح القدس لكنني أفترض أن جميع الكتب تستحق أن تُقرأ. وهذا هو على ما أعتقد ما أراد قوله هوميروس عندما تحدث إلى ربة الشعر. وهذا هو ما أراد قوله اليهود وميلتون عندما كانوا يشيرون إلى الروح القدس الذي معبده هو قلب البشر السوي والنقي. وفي ميثولوجيانا المعاصرة، وهي أقل بهاء، نتكلم عن التصعيد وعن ما دون الوعي. هذه الكلمات هي فظة إلى حد ما، بكل تأكيد، عندما نقارنها بربات الشعر أو بالروح القدس علينا مع ذلك، أن نرضى بميثولوجيا زمننا. ولكن الكلمات تعني جوهرياً الشيء نفسه. نصل الآن إلى مفهوم الكلاسيكيين. يجب أن أعترف بأنني لا أؤمن بأنه يمكن لكتاب أن يكون شيئاً خالداً حقاً يتوجب تمثله وتوقيره كما يجب، وإنما هو أقرب إلى فرصة للجمال. ويجب أن يكون كذلك، لأن اللغة تتبدل دون توقف.
للاطلاع على الجزء الثاني يمكن الضغط هنا.